وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ
(41)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ} فلَسْتَ الوحيدَ، ولَسْتَ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ، وَقَدْ أُمِرَ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في سورةِ الأَحْقافِ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ، فقالَ تعالى في الآيةِ: 9، منها: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُل}.
والآيةُ تَطْمِينٌ لِقلْبِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَسْلِيَةٌ لَهُ عَمَّا كانَ يُلاقيهِ مِنْ أَذَى المُشْركينِ وعنَتِهِمْ وصَلَفِهم وعِنَادِهِمْ، وَمَا كانَ يُعانيهِ مِنْ هُزْئِ بعضِهِمْ بهِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ آيٍ. فإِنَّ المَرْءَ إِذا عَرَفَ أَنَّ غَيْرَهُ أَيضًا قَدِ ابْتُليَ بما هَوَ مُبْتلًى بِهِ هَوَّنَ ذَلِكَ عليْهِ بَلْواهُ,
قولُهُ: {فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} حاقَ: أَيْ: أَحاطَ، وأَصْلُهُ مِنَ الحَوْقِ وهوَ الكَنْسُ. فتقولُ حُقْتُ البيتَ أَحُوقُهُ، إِذَا كَنَسْتَهُ. وَالحُوَاقَةُ: الكِنَاسَةُ. والمِحْوَقَةُ: المِكْنَسَةُ. والحُوقُ، والحَوْقُ ـ لُغتانِ: هو مَا اسْتَدَارَ بالكَمَرَةِ مِنْ حُرُوفِها، وَحَوْقُ الحِمَارِ لَقَبٌ كانَ للفَرَزْدَقِ فقالَ جَريرٌ في هجائهِ:
ذَكَرْتَ بَنَاتِ الشَمْسِ والشَمْسُ لَمْ تَلِدْ ...
... وهَيْهاتَ من حَوْقِ الحِمارِ الكَواكِبُ
والحُوقُ: هُوَ الإِطارُ المُحيطُ بِالشَّيْءِ، المُسْتَدِيرُ حَولَهُ. إِذًا فإنَّ المُسْتَهْزئينَ بالأَنْبَيَاءِ قدْ أَحاطَتْ بِهِمْ خطيئتُهُمْ هَذِهِ مِنْ كلِّ الجهاتِ فلمْ تتركْ لهم منفذًا لِيَنفُذُوا منْهُ هَرَبًا ممَّا نَزَلَ بِهِمْ مِنْ عَذابِ اللهِ وعقابِهِ، وفيهِ وعيدٌ للذينَ كانُوا يستهزئونَ بسيِّدِنا رَسولِ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ مِنْ مُشْرِكِي مَكَّةَ، بأَنَّهُمْ سيُصيبُهُمْ ما أَصابَ المُسْتهزئينَ بالمُرْسَلينَ مِنْ قبل، مِنْ هلاكٍ وعذابٍ.
قولُهُ تَعَالى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ} وَلَقَدِ: الواوُ: اسْتِئْنَافِيَّةٌ، وقيلَ: عاطِفةٌ، وَاللَّامُ: مُوَطِئَةٌ للقَسَمٍ مُقَدَّرٍ، وَ "قد" حَرْفٌ للتَحْقِيقِ. و "اسْتُهْزِئَ" فِعْلٌ مَاضٍ مُغَيَّرُ الصِّيغَةِ مبنيٌّ للمَجْهولِ، مبنيٌّ على الفَتْحِ. و "بِرُسُلٍ" الباءُ: حرفُ جَرِّ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ بالنَّيابَةِ عَنْ فَاعِلِهِ، و "رُسُلٍ" مجرورٌ بحَرْفِ الجَرِّ. و "مِنْ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِنعتٍ لِـ "رُسُلٍ"، ويجوزُ أَنْ ُيُعَلَّقَ بِـ "اسْتُهْزِئَ"، و "قَبْلِكَ" مجرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ مُضافٌ، وكافُ الخِطابِ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ جَوَابُ القَسَمِ المَحْذوفِ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ. وَجُمْلَةُ القَسَمِ المَحْذوفِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ، وقيلَ: هيَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ قولِهِ في الآيةِ: 37، السَّابقةِ مِنْ هَذِهِ السُّورةِ المُباركَةِ: {سَأُرِيكُمْ آياتِي}.
قولُهُ: {فَحَاقَ بِالَّذِينَ} فحاقَ: الفاءُ: حرفٌ للعَطْفِ، و "حاقَ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ. و "بالذينَ" الباءُ: حرفٌ جَرٍّ مُتَعلِّقٌ بـ "حاقَ"، و "الذينَ" اسمٌ مَوْصولٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الفتْحِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ معطوفةٌ عَلَى جُمْلَةِ "اسْتُهْزِئَ" عَلَى كونِها جَوَابَ القَسَمِ المَحْذوفِ لَا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابَ.
قوْلُهُ: {سَخِرُوا مِنْهُمْ} سَخِرُوا: فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلى الضَّمِ لاتِّصالِهِ بِواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعليَّةِ، والأَلِفُ هي الفارِقةُ. وَ "مِنْهُم" مِنْ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بحالٍ مِنْ فاعلِ "سَخِرُوا"، ويَجُوزُ أَنْ يُعَلَّقَ بِـ "سَخِرُوا"، وَالهَاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ، والميمُ هيَ عَلَامَةُ الجَمْعِ المُذكَّرِ. والجُمْلَةُ الفِعْليَّةُ هَذِهِ صِلَةُ للاسْمِ المَوْصُولِ "الذينَ" فَليسَ لَهَا مَحَلَّ مِنَ الإِعْرَابِ.
قولُهُ: {مَا كَانُوا بِهِ} ما: اسمٌ مَوْصولٌ بمعنى "الذي"، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ لـ "حاقَ". وَ "كَانُوا" فِعْلٌ ماضٍ ناقصٌ مَبْنِيٌّ عَلى الضَّمِ لاتِّصالِهِ بِواوِ الجَمَاعَةِ، وَوَاوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ اسْمُ "كان"، والأَلِفُ للتَّفريقِ، وَجُمْلَةُ كانوا مِنِ اسْمِها وَخَبَرِهَا صِلَةُ "ما" المَوصُولَةِ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعْرابِ.
قوْلُهُ: {يَسْتَهْزِئُونَ} فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفُوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وَعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ في آخِرِهِ لِأَنَّهُ مِنَ الأَفْعالِ الخَمْسَةِ، وَوَاوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ فاعِلُهُ. والجُمْلَةُ الفعلِيَةُ هَذِهِ خَبَرُ "كانَ" في مَحَلِّ النَّصْبِ.