ُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ
(9)
قوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ} يقولُ اللهُ تَعَالى: كَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قبلُ رُسُلًا مِنَ البَشَرِ، وَصَدَقْنَاهُمْ مَا وَعَدْنَاهُمْ، بِأَنْ نَصَرْناهُمْ عَلَى مَنْ ناوأَهُمْ وَعَاداهُمْ، وأَظْهَرْنَا دِينَهُمْ، وَالرِّسالَةَ الَّتِي حَمَلْناهَا لَهُمْ، فَكَذَلِكَ سَنَفْعَلُ مَعَ رَسُولِنا الخَاتَمِ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِذَلِكَ فاحْذَرُوا أَنْ تُكَذِّبُوهُ وتُخالِفُوهُ، فإِنَّ "ثُمَّ" حَرْفٌ لِلْعَطْفِ وَالتَّرَاخِي، وَهَذا عَطْفٌ عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنْ وَحْيِهِ تَعَالَى إِلَيْهِمْ، فَكَأَنَّما قِيلَ: أَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ مَا أَوْحَيْنَا، ثُمَّ صَدَقْنَاهُمْ فِي الوَعْدِ، الذي وَعَدٍنَاهُمْ فِي تَضَاعِيفِ الوَحْيِ.
قولُهُ: {فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ} أَيْ: فَأَنْجَيْنَاهُمْ مِنَ العَذَابِ الَّذي وَعَدْنَاهُمْ أَنْ نُنْزِلَهُ بِمَنْ كَذَّبَهُمْ، وَأَنْجَيْنا معَهُمْ مَنْ نَشَاءُ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَغَيْرِهِمْ، مِمَّنِ اقْتَتْ حِكْمَتُنا إِبْقَاءَهُ، لِيُؤْمِنَ فيما بَعْدُ هُوَ أَوْ بَعْضٌ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ وَفُرُوعِهِ.
وَقَدْ كانَ هَذا سِرَّ عَدَمِ إِنْزالِ عذابِ الاسْتِئْصَالِ بالعرَبِ، أُمَّةِ سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ أُمَّتَهُ لَا تُسْتَأْصَلُ، وإِنْ بَقِيَ بَعْضُهُمْ على عنادِهِ وَكُفْرِ بِاللهِ تَعَالَى، وقدْ رأَيْنَا مِنْ فروعِ هَؤُلاءِ الكَفَرةِ الذينَ ناصَبُوا النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، العِداءَ، رَأَيْنَا مِنْ نَسْلِهِمْ مَنْ كانوا في مُقَدَّمَةِ الفاتحينَ الذينَ نَشَرُوا دِينَ اللهِ كَعِكْرِمَةَ بْنِ أَبي جَهْلٍ وغيرِهِ، ولِذَلِكَ لَمْ يَدْعُ النبيُّ عليهِمْ بالهلاكِ لعلَّ اللهَ يُخْرِجُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يُوَحِّدُ اللهَ تَعَالَى، كما قالَ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ.
قوْلُهُ: {وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ} أَيْ فأَنْجى اللهُ تَعَالَى رُسُلَهُ وَمَنْ معهمْ مِنَ المُؤمِنِينَ وأَهلكَ "الْمُسْرِفِينَ" وهمُ المُشْرِكونَ الَّذينَ تَجَاوَزوا الحَدَّ فِي الكُفْرِ وَالمَعَاصِي، وَتَطَاوَلُوا عَلَى أَنْبِيائِهِمُ المُرْسَلينَ الكِرَامِ، وأَعْرَضُوا عَنْ دَعْوَتِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "ثُمَّ صدقناهم الْوَعْد" إِلَى قَوْلِهِ: "وَأَهْلَكْنَا المُسْرِفِينَ" قَالَ: هُمُ الْمُشْركُونَ.
وَفِي هَذَهِ الآيةِ تَخْويفٌ لِكُفَّارِ مَكَّةَ، وإنْذارٌ لهُمْ وتحْذيرٌ، كما فيها وعْدٌ للمُؤْمنينَ وَتَبْشيرٌ.
قوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ} ثُمَّ: حَرْفُ عَطْفٍ وَتَرْتِيبٍ وتراخٍ. وَ "صَدَقْنَاهُمُ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَميرِ رَفعٍ مُتَحَرِّكٍ هوَ "نا" المُعظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهُ، و "نا" التَّعظيمِ هَذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والهاءُ: ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعُولُهُ الأَوَّلُ، والميمُ: علامةُ الجَمْعِ المُذكَّرِ. وَ "الْوَعْدَ" مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الخَافِضِ؛ وَالأَصْلُ "فِي الوَعْدِ"، لِأَنَّ الفعْلَ "صَدَقَ" يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ اثْنَيْنِ، والمَفْعُولُ الثاني يَتَعَدَّى إِلَيْهِ بِحَرْفِ الجَرِّ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مَعْطوفَةٌ عَلى مَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: {وَمَا أَرْسَلْنَا} الَخ، كَأَنَّما قِيلَ: أَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ مَا أَوْحَيْنَا، ثُمَّ صَدَقْنَاهُمْ فِي الوَعْدِ الذي وَعَدْنَاهُمْ بِهِ فِي تَضَاعِيفِ الوَحْيِ بِإِهْلاكِ أَعْدائهم.
قوْلُهُ: {فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ} الفاءُ: عَاطِفَةٌ، و "أَنْجَيْنَاهُمْ" مِثْلُ "صَدَقْنَاهُمْ" مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ، وَلَهُ نَفْسُ الإِعْرَابِ. وَ "وَمَنْ" الواوُ: للعَطْفِ، أوْ للمعيَّةِ. و "مَنْ" اسْمٌ مَوْصُولٌ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَطْفًا عَلَى الهَاءِ، مِنْ قولِهِ: "أَنْجَيْنَاهُمْ". وَ "نَشَاءُ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مرفوعٌ لتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وَفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجُوبًا تقديرُهُ (نحن) يَعُودُ عَلَى اللهِ تَعَالى، وَالجُمْلَةُ الفعليَّةُ هذِهِ صِلَةُ المَوْصُولِ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْراب، والعائدُ مَحْذوفٌ، والتَّقديرُ: وَمَنْ نَشَاءُ إِنْجاءَهُ.
قوَلُهُ: {وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ} الوَاوُ: حرفٌ للعَطْفِ، وَ "أَهْلَكْنا" مِثْلُ "أَنْجَينا" مَعْطوفٌ عَلَيْهِ وَلَهُ نَفْسُ إعْرابِهِ، و "المُسْرِفينَ" مَفْعُولُهُ مَنْصوبٌ بِهِ، وعلامةُ نَصْبِهِ الياءُ لِأَنَّهُ جَمْعُ المُذكَّرِ السَّالمُ، وَالنُّونُ هي عِوَضٌ مِنَ التنوينِ في الاسْمِ المُفْرَدِ.