وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)
قولُهُ ـ تَعَالى شأْنُهُ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ} هَذَا اسْتِئْنَافٌ مُقَرِّرٌ لِمَا أُجْمِلَ فِيمَا قَبْلُ مِنْ كَوْنِ تَوْحِيدِ اللهِ ـ تَبَارَكَتْ أَسْماؤُهُ، هوَ مِمَّا نَطَقَتْ بِهِ جميعُ الكُتُبِ السَّماوِيَّةِ، وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ المُرْسَلُونَ ـ صلواتُ رَبِّي وسلامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمعينَ، وَتَأْيِيدٌ لِمَا كانَ لَقَّنَهُ إِيَّاهْ رَبُّهُ فِي الآيَةِ: 24، السَّابِقَةِ لِيُجِيبَهُمْ بِهِ عَنِ ادِّعائِهِمُ الشَّريكَ للهِ ـ عَزَّ وجَلَّ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ ..}، فَأَفَادَ التَعْمِيمَ فِي شَرَائِعِ سَائِرِ المُرْسَلِينَ جَمِعِهِمْ سَوَاءٌ مَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ كِتَابٌ، وَمَنْ لَمْ يُنْزَلْ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَسَوَاءٌ مَنْ كَانَ كِتَابُهُ بَاقِيًا كَمُوسَى وَعِيسَى وَدَاوُدَ، وَمَنْ انْدَثَرَ كِتَابُهُ كإِبْرَاهِيمَ ـ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ جَمِيعًا. وَهَوَ أَيْضًا تَعْميمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ، فَإِنَّ قَوْلَهَ في الآيةِ التي قبلَها {ذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ خَبَرٌ لِاسْمِ الإِشارَةِ {هَذا} مَخْصُوصٌ بِالْمَوْجُودِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ وَقْتَذَاكَ وَهُوَ الكُتُبُ الثَّلاثَةُ. فإِنَّ "مِنْ" هُنَا حَرْفُ جَرٍّ للشُّمُولِ وَالتَّعْمِيمِ، وتَعْنِي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الرُّسُلِ، أَيْ كُلَّ مَنْ يُقَالُ لَهُ رَسُولٌ. فَلَوَ أَنَّ شَخْصًا قالَ لَكَ مَثَلًا: مَا عِنْدِي مَالٌ، لمْ يَمْنَعْ هَذَا أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ القَلِيلَ مِنْهُ، كأَنْ يكونَ عندَهُ دُرَيْهِمَاتٍ أَوْ قُروشٍ قليلةٍ بحيثُ لَا تُسَمَّى مَالًا، لَكِنَّهُ إِذا قالَ لَكَ: مَا عِنْدِي "مِنْ" مَالٍ يكونُ قَدْ نَفَى وُجُودَ جِنْسِ المَالِ، أَيْ كُلَّ مَا يُسَمَّى مَالًا.
قوْلُهُ: {إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} صِيغَةُ المُضَارِعِ هذِهِ "يُوحَى" بِحَسَبِ قراءةِ الجُمهورِ، أَوْ "نُوحِي"، بحَسَبِ قراءَةِ بعضِهِمْ هِيَ لِحِكَايَةِ الحَالِ المَاضِيَةِ اسْتِحْضَارًا لِصُورَةِ الوَحْيِ، مُؤَكَّدَةً بـ "إلَّا" الَّتي تُفِيدُ الحَصْرَ، فَإنَّ قَضِيَّة التَّوْحِيدِ وَاضِحَةٌ مِنْذُ أَوَّلِ الرِّسَالاتِ إِلَى خَاتِمَتِها.
فالتَّوْحِيدُ قَاعِدَةُ العَقِيدَةِ، مُنْذُ فجْرِ رِسالاتِ اللهِ إِلَى النَّاسِ، واسْتَمَرَّتْ كَذلكَ بِلَا تَغْييرٍ فِيها، وَلاَ تَحْوِيلَ، ولا تبديلٍ، فَلاَ انْفِصَالَ بينَ الأُلُوهِيَّةِ والرُّبُوبِيَّةِ البَتَّةَ، وَلا مَجَالَ لِأَدْنَى الشِّرِكِ في الأُلُوهِيَّةِ، وَلَا فِي العِبَادَةِ. كما قالَ تعالى مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} الآيَةَ: 64، وقالَ مِنْ سُورةِ النِّساءِ: {وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} الآيةَ: 36، وَقَالَ مِنْ سُورةِ الأَنعَام: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} الآيةَ: 151، فجاءَ الشِّركُ في أَوَّلِ قائمةِ المُحرَّماتِ، ولوِ حاولنا جمعَ الآياتِ القرآنِيَّةِ الكَريمةِ والأحاديثِ النَّبوِيَّةِ الشَّريفةِ التي حَرَّمَتْ أَنْ يُشرَكَ باللهِ شَيْئًا لأَعْيَانَا ذَلِكَ، وَ "شَيْئًا" في ذَلِكَ كُلِّهِ تَعني أَيَّ شَيْءٍ يمكِنُ أَنْ يسمَّى شِرْكًا أَوْ يُوهِمَ ذَلِكَ مهما قَلَّ، فَكُلُ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللهُ تَعَالَى كَانَ يَدْعُو إِلى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَالْمُشْرِكُونَ باللهِ لَيْسَ لَهُمْ بُرْهَانَ عَلَى مَا يَدَّعُونَ. قَالَ قَتَادَةُ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: لَمْ يُرْسَلْ نَبِيٌّ إِلَّا بِالتَّوْحِيدِ، وَالشَّرَائِعُ مُخْتَلِفَةٌ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ والقُرْآنِ، وَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى الإِخْلَاصِ والتَّوْحيدِ.
قولُهُ: {فَاعْبُدُونِ} أَيْ: وَحِّدوني فِي الأُلُوهِيَّةِ، والعِبَادَةِ، والسَّمْعِ والطاعةِ، وَلَا تَصْرِفُوا التَّأْلِيهَ إِلَى غَيْرِي، وَلَا تُشْرِكُوا معَي فِي أُلُوهِيَّتِي مَنْ دُونِي مِنْ خَلْقِي، وَكُلُّ مَوجودٍ سِوايَ فأَنَا مَنْ خلَقَهُ وأَوْجَدَهُ. وَإليَّ فاصْرِفُوا العِبَادَةَ وأَدُّ واجِبَ الطاعَةِ، وَلَا تتَوجَّهوا بِالعِبَادَةِ والطَّاعةِ إِلى مَنْ دُونِي. وَكما قالَ تَعَالَى مِنْ سُورةِ النَّحْلِ: {وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} الآيةَ: 36. وَقَالَ مِنْ سُورةِ الزُّخْرُف: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} الآيةَ: 45، فَكُلُّ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللهُ يَدْعُو إِلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
قولُهُ تَعَالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ} الواوُ: اسْتِئْنَافِيَّةٌ. و "ما" نافِيَةٌ. و "أَرْسَلْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ مُتَحَرِّكٍ هوَ "نا" المُعظِّمِ نفسَهُ ـ سُبْحانَهُ، و "نا" التَّعظيمِ هَذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ فاعِلُهُ. و "مِنْ" حَرْفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِحَالٍ مِنْ "رَسُولٍ" لِأَنَّهُ في الأصْلِ صِفَةُ نَكِرَةٍ قُدِّمَتْ عَلَيْهَا، وَ "قَبْلِكَ" مَجْرُورٌ بحرفِ الجَرِّ، مُضافٌ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ. وَ "مِنْ" حَرْفُ جَرٍّ زائدٍ، وهوَ هُنَا للتَّعْمِيمِ والشُّمُولِ، فيشْمَلُ كُلَّ المُرْسَلينَ ـ عليهِمُ الصلاةُ والسَّلامُ أَجْمَعينَ، و "رَسُولٍ" مجرورٌ لفظًا بِـ "مِنْ" الزائدةِ، منصوبٌ مَحلًّا بالمَفْعُوليَّةِ لـ "أَرْسَلْنَا"، وَالجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ.
قوْلُهُ: {إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ} إِلَّا: أَدَاةُ اسْتِثْنَاءٍ مُفَرَّغٍ، للحَصْرِ. و "نُوحِي" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مرْفوعٌ لتجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ نَصْبِهِ فتحةٌ مُقدَّرةٌ على آخِرِهِ لثِقَلِها على الياءِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (نحن) يَعُودُ عَلَى اللهِ تَعَالى. و "إِلَيْهِ" إلى: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "نُوحِي"، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَل ِّالنَّصْبِ على الحالِ مِنْ فَاعِلِ "أَرْسَلْنَا"، والتقديرُ: وَمَا أَرْسَلْنَا رَسُولًا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا حَالَةَ كَوْنِنَا مُوحينَ إِلَيْهِ أَنَّهُ: "لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فاعْبُدون".
قوْلُهُ: {أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} أَنَّهُ: "أَنَّ" حَرْفٌ نَاصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفعلِ للتوكيدِ. وَالهَاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ اسْمُهَا. و "لَا" نافِيَةٌ للجِنْسِ عامِلةٌ عَمَلَ "إِنَّ". وَ "إِلَهَ" اسْمُهَا مَنْصوبٌ بِها، وَخَبُرُها مَحْذوفٌ، والتَّقْديرُ: لِا إِلَهَ مَوْجُودٌ. و "إِلَّا" أَدَاةُ اسْتِثْنَاءٍ. وَ "أَنَا" ضَمِيرُ المُتَكَلِّمِ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ المُسْتَكِنِّ فِي خَبَرِ "لَا" تقديرُهُ: موجودٌ، وَجُمْلَةُ "لَا" فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "أَنَّ"، وُجُمْلَةُ "أَنَّ" فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَنْصوبٍ عَلَى كَوْنِهِ مَفْعُولَ "نُوحِي"، والتقِديرُ: إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ عَدَمَ وُجُودِ إِلَهٍ إِلَّا أَنَا.
قوْلُهُ: {فَاعْبُدُونِ} الفاءُ: هِيَ الفَصِيحَةُ أَفْصَحَتْ عَنْ جَوابِ شَرْطٍ تَقْديرُهُ: إِذَا عَرَفْتُمْ ثُبُوتَ الوَحْدَانِيَّةِ لِي، وَأَرَدتُّمْ بَيَانَ اللازِمِ لَكُمْ، فَأَقُولُ: "اعْبُدُونِ". و "اعبُدُو" فِعْلُ أَمْرٍ مبنيٌّ عَلى حَذْفِ النُّونِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفعالِ الخَمْسَةِ، ووَاوُ الجماعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ فاعِلُهُ. وَالنُّونُ لِلْوِقَايَةِ، وَيَاءُ المُتَكَلِّمِ المَحْذوفَةِ اجْتِزَاءً عَنْهَا بِكَسْرَةِ نُونِ الوِقَايَةِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بالقوْلِ لِجَوَابِ "إِذَا" المُقَدَّرَةِ، وُجُمْلَةُ "إِذا" المقدرَة مُسْتَأْنفةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قرَأ الجُمهورُ: {إِلَّا يُوحَى إِلَيْهِ} بِالْيَاءِ وَفَتْحِ الْحَاءِ عَلَى بِنَاءِ الْفِعْلِ الْمَجْهُولِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ "نُوحِي إِلَيْهِ" بِالنُّونِ وَكَسْرِ الْحَاءِ عَلَى التَّعْظِيمِ، لِقَوْلِهِ قَبْلُ: "وَمَا أَرْسَلْنَا".