وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ
(57)
قولُهُ ـ تَعالى شَأْنُهُ: {وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} التَّاءُ تَخْتَصُّ بِالقَسَمٍ بِاسْمِ الْجَلَالَةِ عَلَى أَمْرٍ مُتَعَجَّبٍ مِنْهُ.
وَالْكَيْدُ: التَّدْبيرُ في الخَفَاءِ وَالْتَّحايُّلُ لِإِلْحَاقِ الضُّرِّ فِي الخَصْمِ، بصورةٍ غيرِ مَكْشوفةٍ لَهُ. والكَيْدُ أَيْضًا: المَكْرُ وَالخُبْثُ، وَهوَ مِنَ الْمَكِيدَةِ، فيُقالُ: كَادَهُ يَكِيدُهُ كَيْدًا وًمَكِيدَةً. وَالظَّاهِرُ: أَنْ الكَيْدَ وَالمَكْرَ بِمَعنى، وَفَرَّقَ بعضُ فُقَهَاءِ اللُّغَة بَيْنَهُما، فقالَ: الكَيْدُ: المَضَرَّةُ وَالمَكْرُ: إِخْفَاءُ الكَيْدِ وَإِيصَالُ المَضَرَّةِ، وَقِيلَ: الكَيْدُ: الأَخْذُ عَلَى خَفَاءٍ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ إِظْهَارُ خِلاَفِ مَا أَبْطَنَهُ ويُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي المَكْرِ. وَأيضًا فالكَيْدُ: الحِيلَةُ، وَبِهِ فُسِّرَ قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ يُوسُفَ: {فَيَكْدُوا لَكَ كَيْدًا} الآيةَ: 5، أَي فَيحْتَالوا احتِيَالُا. وَقَولُهُ مِنْ سُورَةِ طهَ: {فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى} الآيةَ: 60. وَكُلُّ شَيْءٍ تُعالِجُهُ فَأَنْتَ تَكِيدُهُ. فَالكَيْدُ الاحْتِيالُ والاجْتِهَادِ، وَسُمِّيَتِ الحَرْبُ كَيْدًا لِاحْتِيالِ المُتَحَارِبِينَ فيها، كلٌّ يَحْتَالُ على خصمِهِ ليُوقِعِ بِهِ، وهو في الأَساسِ مِنَ المَجَازِ، وَالكَيْدُ أَيْضًا: القَيْءُ، لِقولِ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: إِذا بَلَغ الصائمُ الكَيْدَ أَفْطَر. وكَادَ الرَّجُلُ: إِذا قَاءَ. ومِنَ المَجَازِ: كادَ فلانٌ بِنَفْسِه كَيْدًا: جَادَ بِهَا جَوْدًا وَسَاقَ سِيَاقًا. وفي السيرةِ: أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دَخَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ ـ رَضِيَ اللهٌ عنهُ، وَهُوَ يَكيدُ بِنَفْسِهِ، فَقَالَ: ((جَزَاكَ اللهُ مِنْ سَيِّدِ قَوْمٍ)). يُريدُ النَّزْعَ. والكَيْدُ ـ أَيْضًا: الحَيْضُ، فكادَتْ المَرْأَةُ: حَاضَتْ، وِمِنْهُ حَديثُ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، أَنَّهُ نَظَر إِلى جَوَارٍ قَدْ كِدْنَ في الطَّريقِ، فَأَمَرَ أَن يَتَنَحَّيْنَ. مَعْنَاهُ: حِضْنَ. وكَادَ يَفْعَلُ كذا أَيْ: قَارَبَ، وَهَمَّ بِفِعْلِهِ. تَقولُ: مَا كِدْتُ أَصِلُ المكَانَ، وذِلِكَ بعدَ أَنْ تكونَ قَدْ وَصَلْتَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُدْخِلُ "كادَ" وَ "يكادُ" في اليَقِينِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الظَّنِّ، أَصْلُهُ الشَّكُّ، ثُمَّ يُجْعَل يَقينًا. كَ "كِيدَ" في لُغَةِ بَعْضِ القبائلِ العَرَبِيَّةِ، وَهُوَ شاذٌ، والتَكَايُدُ أَيْضًا: التَشَدُّدُ، وبِهِ فُسِّرَ قَوْلَ أَبي ضَبَّةَ الهُذَلِيِّ:
لَقَّيْتُ لَبَّتَهُ السِّنَانَ فَكَبَّهُ ........................ مِنِّي تَكَايُدُ طَعْنَةٍ وتَأْيُّدُ
ويَقولونَ: لَا أَفْعَلُ ذَلِكَ الأمْرَ وَلا كَيْدًا، يعنونَ: وَلَا هَمًّا، أَيْ: لَا أَكادُ وَلَا أَهُمُّ كَقَوْلِهِم: لَا مَكَادَةَ ولا مَهَمَّةَ. و "اكْتَادَ" بوزْنِ "افْتَعَلَ" مُشْتقٌّ مِنَ الكَيْدِ. ويَتَكَايَدَانِ: يكيدُ كلٌّ منهم لصاحِبِهِ. وقوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سورةِ يوسُفَ: {كَذلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} أَيْ: عَلَّمْنَاهُ الكَيْدَ عَلَى إِخْوَتِه. وتقولُ: كادَ فلانٌ فلانًا: إِذا أَرادَهُ بِسُوء. وكَيْدُ اللهِ للْكُفَّارِ: معناهُ استِدْراجُهم مِنْ حَيْثُ لَا يُعْمَلُون. والمُكَايَدَةُ: المُخَاتَلَة.
وَتَسْمِيَتُهُ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ السَّلامُ، تَكْسِيرَهِ الْأَصْنَامَ كَيْدًا هُوَ مِنْ بِابِ الِاسْتِعَارَةِ، أَوِ الْمُشَاكَلَةِ التَّقْدِيرِيَّةِ لِأَنَّ الْذينَ يُخَاطِبُهُمْ يَزْعُمُونَ بِأَنَّ الْأَصْنَامَ تَدافَعُ عَنْ نَفْسِهَا فَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَمَسَّهَا بِسُوءٍ إِلَّا إِذا كادَ لَهَا، وَدَبَّرَ لِذَلِكَ.
قولُهُ: {بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} أَيْ: بعدَ أَنْ تُقْفِلُوا راجعينَ تاركينَ أصنامكمُ الَّتِي اتخذْتُموها آلهةً لكم تعبدونها منْ دونِ اللهِ ـ جلَّ وعزَّ. فَـ "مُدبرينَ": رَاجِعِينَ، مُوَلِّينَ، وَهُوَ مِنَ الدُبْرِ، أَوِ الدُبُرُ: وهوَ القَفَا أَوِ الظَهْرُ. قالَ اللهُ ـ تَعَالى جَدُّهُ، فِي الآيَةِ: 45، مِنْ سُورَةِ القَمَرِ: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ ويُوَلُّونَ الدُبُرَ}.
والدُبْرُ، والدُبُرُ: خِلافُ القُبُلِ. ودُبُرُ الأَمْرِ، ودُبْرُهُ: آخِرُهُ وعاقبتُهُ. وَمنْ ذَلِكَ قوْلُ الشَّاعِرِ الكُمَيْتِ الأَسَديِّ:
أَعَهْدَكَ مِنْ أُولَى الشَبِيبَةِ تَطْلُبُ .......... عَلى دُبُرٍ هَيْهات شَأْوٌ مُغَرِّبُ
والدِبْرُ، بالكسر: المالُ الكَثِيرُ، سَواءٌ واحِدُهُ وَجَمْعُهُ. يقال: مالٌ دِبْرٌ، ومالانِ دِبْرٌ، وأمْوالٌ دِبْرٌ. ورَجُلٌ ذو دِبْرٍ: كثير الضَيْعَةِ والمالِ. والدِبْرَةُ: خِلاَفُ القِبْلَةِ. وَفلانٌ مَالَهُ قِبْلةٌ وَلَا دِبْرَةٌ، أَيْ: لَمْ يَهْتَدِ لِجِهَةِ أَمْرِهِ. والدَبَرَةُ: واحِدَةُ الدَبَرِ والأَدْبارِ. والدَبْرَةُ، والدَبُرةُ: الهَزِيمة في القِتالِ، مِنَ الإِدْبَارِ، أَيْ التراجعِ والفِرارِ. ويَقولونَ: شَرُّ الرَأي الدَبَرُيُّ وهو الذي يَسْنَحُ أَخْيرًا عِنْدَ فَوْتِ الحَاجَةِ. وَفُلانٌ لَا يُصَلِّي الصَلاةَ إلَّا دَبَرِيًّا: أَيْ في آخِرِ وَقْتِهَا. والدَبران: خَمْسَةُ كَوَاكِبَ مِنْ بُرجِ الثَّورِ. والدَّابِرَةُ: آخر الرَمْلِ. ودابِرَةُ الإِنْسَان: عُرْقوبُهُ ومؤخَرَتُهُ. ودابِرَةُ الطائرِ: هيَ الَّتي يَضْرِبُ بِهَا، وَهِيَ كاَلإِصْبَعِ فِي بَاطِنِ رِجْلَيْهِ. وَالدَّابِرُ: التابِعُ، ومِنَ السِّهَامِ: الذي يَخْرُجُ مِنَ الهَدَفِ. والدابِرُ مِنَ القِداحِ: الخاسِرُ، وَصَاحِبُهُ مُدابرٌ. قال صَخْرُ الغَيِّ الهُذَليُّ يَصِفُ ما وَرَدَهُ:
فَخَضْخَضْتُ صُفْنيَ في جَمِّهِ ............. خِياضَ المُدابِرِ قِدْحًا عَطُوفَا
وَقَطَعَ اللهُ دَابِرَ القومِ، أَيْ: آخِرَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ. ورَجُلٌ أَدابِرٌ ك "أُباتِرٍ"، وَهُوَ الَّذي يَقْطَعُ رَحِمَهُ. وَلَا يَقْبَلُ قَوْلَ أَحَدٍ ولا يَلْوِي عَلَى شَيْءٍ. والدَبيرُ: ما أَدْبَرَتْ بِهِ المَرْأَةُ مِنْ غَزْلِها حِينَ تَفْتِلُهُ. والقَبيلُ: ما أَقْبَلْتَ بِهِ إِلى صَدْرِكَ، والدَبيرُ: ما أَدْبَرْتَ به عَنْ صَدْرِكَ. يقال: فلانٌ ما يَعْرِفُ قَبيلًا مِنْ دَبِيرٍ. وَدُبَارٌ: هُوَ يَوْمُ الأُرْبِعاءِ مِنْ أيامِ الأُسْبوعِ، والدَبارُ: الهَلاكُ. والدَبورُ: الرِّيحُ الَّتي تُقابِلُ ريحَ الصَبَا. ودَبَرَ بالشَّيْءِ: ذَهَبَ بِه. وَدَبَرَ النَّهارُ، وَأَدْبَرَ بِمَعْنًى. وَأَمْسِ الدابِرُ الذَّاهِبُ. قَالَ صَخْرُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الشَريدِ السُلَمِيِّ ـ أَخو الخَنْسَاءِ الصحابيَّةِ الشاعِرَةِ ـ رَضِيَ اللهُ عنها:
وَلَقَدْ قَتَلْتُكُمُ ثُنَاءَ وَمَوْحَدًا ................ وَتَرَكْتُ مُرَّةَ مِثْلَ أَمسِ الدَّابرِ
و "الدَّبْرُ" أَيْضًا: جَماعَةُ النَّحْلِ. لَا وَاحِدَ لَهَا، وَيُجْمَعُ عَلى دُبُورٍ. ومنهُ قوْلُ لَبِيدِ بْنِ ربيعةَ:
بِأَبْيَضَ مِنْ أَبْكارِ مُزْنِ سَحَابَةٍ ........... وَأرْيِ دَبُورٍ شَارَهُ النَحْلُ عَاسِلُ
وَيُقَالُ أَيْضًا للزَنابيرِ: دَبْرٌ.
قولُهُ تَعالى: {وَتَاللهِ} الواوُ: عاطِفَةٌ، وَالتاءُ: حَرْفُ جَرٍّ وَقَسَمْ، مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ قَسَمٍ مَحْذوفٍ وُجُوبًا والتقديرُ: أُقْسِمُ تَاللهِ. وَلَفْظُ الجَلَالَةِ "اللهِ" مُقْسَمٌ بِهِ مَجْرُورٌ بِتَاءِ القَسَمِ، والجُمْلَةُ القَسَمِيَّةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ {بَلْ رَبُّكمْ} مِنَ الآيَةِ الَّتي قَبَلَها عَلَى كَوْنِهَا مَقُولًا لِـ "قَالَ".
قولُهُ: {لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} اللَّامُ: مُوَطِّئَةٌ للْقَسَمِ. وَ "أَكيدَنَّ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَبْنِيٌّ على الفتْحِ لاتِّصالِهِ بنونِ التوكيدِ الثَّقيلةِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ، لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ وَالجازِمِ، والنُّونُ المُشَّدَةُ للتوكيدِ، وَفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تَقْديرُهُ (أَنا) يَعُودُ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيمَ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ. وَ "أَصْنَامَكُمْ" مَفُعُولُهُ مَنْصوبٌ بِهِ، وهوَ مُضافٌ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، والميمُ هي عَلامةُ الجَمعِ المُذكَّرِ. وَالجُمْلَةُ الفعلِيَّةُ هَذِهِ جَوَابُ القَسَمِ، فَلَيْسَ لَهَا أَيُّ مَحَلٍّ مِنَ الإِعْرَابِ.
قَوْلُهُ: {بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} بَعْدَ: مَنْصوبٌ على الظَّرْفيَّةِ الزَّمانِيَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَكيدَنَّ". و "أَنْ" حَرْفُ نَصْبٍ مَصْدَرِيُّ. و "تُوَلُّوا" فِعْلٌ مُضارِعٌ مَنْصُوبٌ بِها وعلامةُ نَصْبِهِ حَذْفُ النُّونِ لِأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ، والألِفُ للتَّفْريقِ. وَمُتَعَلِّقُ هَذَا الفِعْلِ مَحْذُوفٌ، والتَّقْديرُ: تُوَلُّوا إِلى بُيُوتِكُمْ، وَنَحْوُهُ. وَ "مُدْبِرِينَ" مَنْصُوبٌ عَلَى الحَالِ مِنْ فَاعِلِ "تُوَلُّوا"، وعلامةُ نَصْبِهِ الياءُ لِأَنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السَّالِمُ، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرُورٍ بِإِضَافَةِ الظَّرْفِ إِلَيْهِ؛ والتَّقْديرُ: بَعْدَ تَوَلِيَتِكُمْ مُدْبِرينَ.
قَرَأَ العامَّةُ: {وتَاللهِ} بِالتَّاءِ المُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقُ. وَقَرَأَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، بالبَاءِ المُوَحَّدَةِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ في كشَّافِهِ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا الفَرْقُ بَيْنَ البَاءِ وَالتَّاءِ؟ قُلْتُ: الباءُ هِيَ الأَصْلُ، والتَّاءُ بَدَلٌ مِنَ الوَاوِ المُبْدَلِ مِنْهَا، وَإِنَّ التَّاءَ فِيهَا زِيادَةُ مَعْنًى، وَهُوَ التَّعَجُّبُ، كَأَنَّهُ تَعَجَّبَ مِنْ تَسْهِيلِ الكَيْدِ عَلَى يَدِهِ وَتَأَتِّيهِ. فَقَوْلُهُ: إِنَّ الباءَ هِيَ الأَصْلُ. يَدُلُّ عَلَيْهِ تَصَرُّفُها في البابِ، بِخِلَافِ الواوِ وَالتَّاءِ، وَإِنْ كَانَ الإمامُ السُّهَيْلِيُّ قَدْ رَدَّ كَوْنَ الواوِ بَدَلًا مِنْهَا. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبو حيَّان الأندَلُسِيُّ في تَفْسِيرِهِ (البحرُ المُحيط): النَّظَرُ يَقْتَضِي أَنَّ كُلًّا مِنْهَا أَصْلٌ. وَأَمَّا قَوْلُ الزمخشريِّ: "التَّعَجُّبُ" فَنُصوصُ النَّحْوِيِّينَ أَنَّهُ يَجُوزُ فِيها التَّعَجُّبُ وَعَدَمُهُ، وإِمَّا يَلْزَمُ ذَلِكَ مَعَ اللَّامِ كَقَوْلِ الشاعرِ مالِكِ بْنِ خَالِدٍ الخُنَاعِيِّ الهُذَلِيِّ:
للهِ يَبْقى على الأيَّامِ ذو حِيَدٍ ............... بمُشْمَخِرّ به الظَّيَّانُ والآسُ
أَرَادَ الشَّاعرُ بـ "ذو حِيَدٍ" وَعْلًا في قَرْنِهِ حِيَدٌ، وحِيَدٌ جَمْعُ حَيْدَةٍ والمُشْمَخِرُّ الجَبَلُ المُرتفعُ، والآسُ العَسَلُ بَقِيَّةُ العَسَل في الخَلِيَّةِ، واسْمُ شجَرٍ أَيْضًا.
قَرَأَ العَامَّةُ: {تُوَلُّوا} ـ بِضَمِّ التَّاءِ وَاللَّامِ، مُضَارِعَ "وَلَّى" مُشَدَّدًا. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ "تَوَلَّوا" ـ بِفَتْحِهِمَا، مُضارعَ "تَوَلَّى" وَالأَصْلُ "تَتَوَلَّوا"، فَحَذَفَ إِحْدَى التَّاءَيْنِ: إِمَّا الأُولَى عَلَى رَأْيِ ابْنِ هِشَّامٍ، وَإِمَّا الثَّانِيةَ عَلَى رَأْيِ البَصْريِّينَ. تُؤَيِّدُها قِراءَةُ الجَميعِ في الصَّافَّاتِ: {فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ} الآيةَ: 90، وَلَمْ يَقْرَأْ أَحَدٌ "فَوَلَّوْا" وَهِيَ قِياسُ قِرَاءَةِ النَّاسِ هُنَا. وَعَلَى كِلْتَا القِرَاءَتَيْنِ، فَلَامُ الكَلِمَةِ مَحْذُوفٌ، وَهُوَ الياءُ، لِأَنَّهُ مِنْ الفعلِ الماضِي: "وَلِيَ".