وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لَهُ: بَلْ قَالَ لَهَا لَوْ شِئْتِ فَاسْجُدِي لِي سَجْدَةً وَاحِدَةً حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْكِ الْمَالَ وَالْوَلَدَ، وَأُعَافِيَ زَوْجَكِ، فَرَجَعَتْ إِلَى أَيُّوبَ فَأَخْبَرَتْهُ بِمَا قَالَ لَهَا، فَقَالَ لَهَا أَيُّوبُ: أَتَاكِ عَدُوُّ الله لِيَفْتِنَكِ عَنْ دِينِكِ، ثُمَّ أَقْسَمَ لَئِنْ عَافَانِي اللهُ لَأَجْلِدَنَّكِ مِئَةَ جَلْدَةٍ. وَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ: "مَسَّنِيَ الضُّرُّ" يَعْنِي مِنْ طَمَعِ إِبْلِيسَ فِي سُجُودِي وَسُجُودِ زَوْجَتِي لَهُ، وَدُعَائِهِ إِيَّاهَا وَإِيَّايَ إِلَى الْكُفْرِ.
وَرُيَ وَهْبٍ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: كَانَتِ امْرَأَةُ أَيُّوبَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، تَعْمَلُ لِلنَّاسِ وَتَأْتِيهِ بِقُوتِهِ، فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِ الْبَلَاءُ سَئِمَهَا النَّاسُ، فَلَمْ يَسْتَعْمِلُوهَا، فَالْتَمَسَتْ ذَاتَ يَوْمٍ شَيْئًا مِنَ الطَّعَامِ، فَلَمْ تَجِدْ شَيْئًا، فَجَزَّتْ قَرْنًا مِنْ رَأْسِهَا، فَبَاعَتْهُ بِرَغِيفٍ، فَأَتَتْهُ بِهِ، فَقَالَ لَهَا: أَيْنَ قَرْنُكِ فَأَخْبَرَتْهُ بِذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ قَالَ: "مَسَّنِيَ الضُّرُّ".
وَرُويَ عنْ إِسْمَاعِيلٍ السُّدِّيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَقُلْ أَيُّوبُ "مَسَّنِيَ الضُّرُّ" إِلَّا لِأَشْيَاءَ ثَلَاثٍ:
أَحَدُهَا: قَوْلُ الرَّجُلَيْنِ لَهُ: لَوْ كَانَ عَمَلُكَ الَّذِي كُنَّا نَرَى للهِ ـ تَعَالَى، لَمَا أَصَابَكَ الَّذِي أَصَابَكَ.
وَثَانِيهَا: كَانَ لِامْرَأَتِهِ ثَلَاثُ ذَوَائِبَ، فَعَمَدَتْ إِلَى إِحْدَاهَا وَقَطَعَتْهَا وَبَاعَتْهَا، فَأَعْطَوْهَا بِذَلِكَ خُبْزًا وَلَحْمًا، فَجَاءَتْ إِلَى أَيُّوبَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ هَذَا؟ فَقَالَتْ: كُلْ فَإِنَّهُ حَلَالٌ. فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ، لَمْ تَجِدْ شَيْئًا، فَبَاعَتِ الثَّانِيَةَ، وَكَذَلِكَ فَعَلَتْ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، وَقَالَتْ: كُلْ فَإِنَّهُ حَلَالٌ. فَقَالَ: لَا آكُلُ مَا لَمْ تُخْبِرِينِي. فَأَخْبَرَتْهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ مِنْ أَيُّوبَ مَا اللهُ بِهِ عَلِيمٌ.
وَقِيلَ: إِنَّمَا بَاعَتْ ذَوَائِبَهَا لِأَنَّ إِبْلِيسَ تَمَثَّلَ لِقَوْمٍ فِي صُورَةِ بَشَرٍ، وَقَالَ: لَئِنْ تَرَكْتُمْ أَيُّوبَ فِي قَرْيَتِكُمْ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يُعْدِيَ إِلَيْكُمْ مَا بِهِ مِنَ الْعِلَّةِ، فَأَخْرَجُوهُ إِلَى بَابِ الْبَلَدِ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: إِنَّ امْرَأَتَهُ تَدْخُلُ فِي بُيُوتِكُمْ وَتَعْمَلُ وَتَمَسُّ زَوْجَهَا، أَمَا تَخَافُونَ أَنْ تُعْدِيَ إِلَيْكُمْ عِلَّتَهُ، فَحِينَئِذٍ لَمْ يَسْتَعْمِلْهَا أَحَدٌ، فَبَاعَتْ ضَفِيرَتَهَا.
وَثَالِثُهَا: حِينَ قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ مَا قَالَتْ، فَحِينَئِذٍ دَعَا.
وَقِيلَ: سَقَطَتْ دُودَةٌ مِنْ فَخْذِهِ، فَرَفَعَهَا وَرَدَّهَا إِلَى مَوْضِعِهَا، وَقَالَ قَدْ جَعَلَنِي اللهُ ـ تَعَالَى، طُعْمَةً لَكِ، فَعَضَّتْهُ عَضَّةً شَدِيدَةً، فَقَالَ: "مَسَّنِيَ الضُّرُّ". فَأَوْحَى الله ـ تَعَالَى، إِلَيْهِ: لَوْلَا أَنِّي جَعَلْتُ تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ مِنْكَ صَبْرًا لَمَا صَبَرْتَ. أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ الْحَسَنِ البَصْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ.
وقَدْ طَعَنَ الْمُعْتَزِلَةُ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ وُجُوهٍ. فقَالَ الْجُبَّائِيُّ: ذَهَبَ بَعْضُ الْجُهَّالِ إِلَى أَنَّ مَا كَانَ بِهِ مِنَ الْمَرَضِ كَانَ فِعْلًا لِلشَّيْطَانِ سَلَّطَهُ اللهُ عَلَيْهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُ: "مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ" وَهَذَا جَهْلٌ، أَمَّا أَوَّلًا: فَلِأَنَّهُ لَوْ قَدَرَ عَلَى إِحْدَاثِ الْأَمْرَاضِ وَالْأَسْقَامِ وَضِدِّهِمَا مِنَ الْعَافِيَةِ لَتَهَيَّأَ لَهُ فِعْلُ الْأَجْسَامِ، وَمَنْ هَذَا حَالُهُ يَكُونُ إِلَهًا، وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ اللهَ ـ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْهُ وَعَنْ جُنُودِهِ بِأَنَّهُ قَالَ: {وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} الآيةَ: 22، مِنْ سُورةِ إِبْرَاهِيمَ، وَالْوَاجِبُ تَصْدِيقُ خَبَرِ اللهِ ـ تَعَالَى، دُونَ الرُّجُوعِ إِلَى مَا يُرْوَى عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ ـ رَضِيَ الله عَنْهُ.
وَهو اعْتِرَاضٌ ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْحِكَايَةِ أَنَّ الشَّيْطَانَ نَفَخَ فِي مَنْخَرِهِ فَوَقَعَتِ الْحَكَّةُ فِيهِ، فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّ الْقَادِرَ عَلَى النَّفْخَةِ الَّتِي تُوَلِّدُ مِثْلَ هَذِهِ الْحَكَّةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى خَلْقِ الْأَجْسَامِ، وَهَلْ هَذَا إِلَّا مَحْضُ التَّحَكُّمِ، وَأَمَّا التَّمَسُّكُ بِالنَّصِّ فَضَعِيفٌ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُقْدِمُ عَلَى هَذَا الْفِعْلِ مَتَى عَلِمَ أَنَّهُ لَوْ أَقْدَمَ عَلَيْهِ لَمَا مَنَعَهُ اللهُ ـ تَعَالَى عَنْهُ، وَهَذِهِ الْحَالَةُ لَمْ تَحْصُلْ إِلَّا فِي حَقِّ أَيُّوبَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَلَى مَا دَلَّتِ الْحِكَايَةُ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ اللهَ ـ تَعَالَى، فَأَذِنَ لَهُ فِيهِ، وَمَتَى كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَبْقَ بَيْنَ ذَلِكَ النَّصِّ وَبَيْنَ هَذِهِ الْحِكَايَةِ مُنَاقَضَةٌ.
وَقَالُوا: مَا رُوِيَ أَنَّهُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمْ يَسْأَلْ إِلَّا عِنْدَ أُمُورٍ مَخْصُوصَةٍ فَبَعِيدٌ، لِأَنَّ الثَّابِتَ فِي الْعَقْلِ أَنَّهُ يَحْسُنُ مِنَ الْمَرْءِ أَنْ يَسْأَلَ فِي ذَلِكَ رَبَّهُ، وَيَفْزَعَ إِلَيْهِ، كَمَا يَحْسُنُ مِنْهُ الْمُدَاوَاةُ، وَإِذَا جَازَ أَنْ يَسْأَلَ رَبَّهُ عِنْدَ الْغَمِّ مِمَّا يَرَاهُ مِنْ إِخْوَانِهِ وَأَهْلِهِ، جَازَ أَيْضًا أَنْ يَسْأَلَ رَبَّهُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَا يَجُوزُ أَنَّهُ ـ تَعَالَى، تَعَبَّدَهُ بِأَنْ لَا يَسْأَلَ الْكَشْفَ إِلَّا فِي آخِرِ أَمْرِهِ، قُلْنَا: يَجُوزُ ذَلِكَ بِأَنْ يُعْلِمَهُ بِأَنَّ إِنْزَالَ ذَلِكَ بِهِ مُدَّةً مَخْصُوصَةً مِنْ مَصَالِحِهِ وَمَصَالِحِ غَيْرِهِ لَا مَحَالَةَ، فَعَلِمَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِلْمَسْأَلَةِ فِي هَذَا الْأَمْرِ الْخَاصِّ، فَإِذَا قَرُبَ الْوَقْتُ، جَازَ أَنْ يَسْأَلَ ذَلِكَ، مِنْ حَيْثُ يَجُوزُ أَنْ يَدُومَ وَيَجُوزُ أَنْ يَنْقَطِعَ.
وَقَالُوا: انْتِهَاءُ ذَلِكَ الْمَرَضِ إِلَى حَدِّ التَّنْفِيرِ عَنْهُ غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّ الْأَمْرَاضَ الْمُنَفِّرَةَ مِنَ الْقَبُولِ غَيْرُ جَائِزَةٍ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ ـ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَهَذَا جُمْلَةُ مَا قِيلَ فِي هَذِهِ الْحِكَايَةِ.
قولُهُ: {وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} وَقَالَ مِنْ سُورَةِ آل عِمْرَانَ: {واللهُ خَيْرُ المَاكِرينَ} الآيةَ: 54، وقالَ مِنْ سُورةِ المُؤْمِنُونَ: {فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِين} الآيةَ: 14، فأَثْبَتَ لِعبادِهِ اتِّصافهُمْ بِهَذِهِ الصِّفاتِ الَّتَي هِيَ مِنْ صِفاتِهِ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالى، وَذِلِكَ أَنَّها مُسْتمَدَّةٌ مِنْ صفاتِهِ لِيُعْرَفَ في خلقِهِ، فَلَولا وُجودُ هَذِهِ الصِّافاتِ في الخلقِ ما عَرفنا حَقِيقَتَهَا، وَعَلَى هَذَا نَفْهَمُ معنى قولِهِ ـ تَباركتْ أَسْماؤهُ، في الحديث القُدْسيِّ: (كُنْتُ كنزًا مخفيًّا فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُعْرَفَ فَخَلَقْتُ الخَلْقَ وتعَرَّفتُ إِلَيْهِمْ، فَبِي عَرَفُونِي). وقولَهَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((إِنَّ اللهَ خَلقَ آدَمَ على صُورَتِهِ)). وَذَلِكَ بِأَنْ أَوْدَعَ فيهِ مِثالًا لِصِفَاتِهِ. وَقَدْ أَثْبَتَ اللهُ لِعِبَادِهِ تَحَلِّيهِمْ بِهَذِهِ الصِّفاتِ في الآياتِ المَذْكورةِ آنفًا، كَمَا أَثبَتَهَا النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ علَيْهِ وسَلَّمَ، في أَحاديثَ شَريفَةٍ منها قولُهُ ـ علَيْهِ الصَلاةُ والسَّلامُ: ((الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ)). وقولُهُ: ((ارْحَمُوا مَنْ في الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ)). فَالرَّحْمَةُ تَخَلُّقٌ بِأَخْلاقِ الحَقِّ ـ سُبْحانَهُ، كما قالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((تخلَّقوا بِأَخْلاقِ اللهِ)).
إِذًا: للخَلْقِ نَصيبٌ مِنْ صِفَةِ الرَّحْمَةِ، لَكِنَّ اللهَ ـ تَعالى، هوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ رَحْمَتَهُ ـ سُبْحانَهُ، قَدْ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ.
أَمَّا قَوْلُهُ: "وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ" فَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ ـ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى، أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ أُمُورٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّ كُلَّ مَنْ رَحِمَ غَيْرَهُ فإنَّما رَحِمَهُ لغايةٍ في نَفسِهِ، فَرَحْمَتُهُ معْلولَةٌ، فَهوَ إِمَّا أَنْ يَرْحَمَهُ طَلَبًا لِمدحِ الخلْقِ وثَنَائِهِمْ عَليْهِ فِي الدُّنْيَا، أَوِ طمَعًا بِثَوَابِ اللهِ ـ تَعَالى فِي الْآخِرَةِ، أَوْ بِدَافِعِ رِقَّةِ جِنْسِهِ وَطَبْعِهِ، إِذًا إِنَّما هَدَفُ ذَلِكَ الرَّاحِمِ مَنْفَعَةُ نَفْسِهِ، أَمَّا اللهُ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَإِنَّهُ يَرْحَمُ عِبَادَهُ دونَ أَيِّ وَجْهٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ.
وَثَانِيهَا: أَنَّ كُلَّ مَنْ يَرْحَمُ غَيْرَهُ فإنَّهُ يَحتاجُ في ذَلِكَ إِلى مَعُونَةِ رَحْمَةِ اللهِ ـ جَلَّ وَعَلا، لِأَنَّ كلَّ مَا سوفَ يُعْطَيهِ إِيَّاهُ سواءٌ كانِ طَعَامًا، أَوْ ثَوْبًا، أَوْ دَفَعَ ضُرٍ عَنْهُ، أَوْ غَيرَ ذلكَ، فَهوَ مِنْ خَلْقِ اللهِ، وَكَذَلِكَ القوَّةُ والجاهُ، وَلولاهُ ـ سُبحانهُ، مَا قَدَرَ أَحَدٌ عَلَى الإِعْطَاءِ والمُساعَدَةِ، حَتَّى بَعْدَ إِيصُالِ تِلْكَ الْعَطِيَّةِ، فَإِنَّ اللهَ ـ سُبْحَانَهُ، هوَ الذي يَجْعَلُها سَبَبًا لِلرَّاحَةِ والسَّعادةِ، فلَوْلَاهُ ـ تعالى، مَا حَصَلَ النَّفْعُ بِذَلِكَ. إِذًا فَرَحْمَةُ الْعِبَادِ مَسْبُوقَةٌ بِرَحْمَةِ اللهِ ـ تَعَالَى، وَمَلْحُوقَةٌ بِها، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ـ تَعَالَى، هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.
وَثَالِثُهَا: أَنّهُ لَوْ لَمْ يَخْلُقِ اللهٌ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ تِلْكَ الدَّوَاعِيَ وَالْإِرَادَاتِ، لَاسْتَحَالَ صُدُورُ هَذِهِ الأَفْعالِ عَنْهُ، فَكَانَ الرَّاحِمُ الحقُّ هُوَ الْحَقُّ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ هُوَ الَّذِي تِلْكَ الدَّواعِي في عِبَادِهِ، لتصْدُرَ الرَّحمةُ عَنْهُم، فَثَبَتَ أَيضًا أَنَّهُ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.
فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَكُونُ أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ مَعَ أَنَّهُ ـ سُبْحَانَهُ، مَلَأَ الدُّنْيَا مِنَ الْآفَاتِ، وَالْأَسْقَامِ، وَالْأَمْرَاضِ، وَالْآلَامِ، وَسَلَّطَ الْبَعْضَ عَلَى الْبَعْضِ بِالذَّبْحِ وَالْكَسْرِ وَغيرِهِ مِنْ ألوانِ الْإِيذَاءِ، وَكَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يُغْنِيَ كُلَّ وَاحِدٍ عَنْ إِيلَامِ الْآخَرِ وَإِيذَائِهِ؟.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ كَوْنَهُ ـ سُبْحَانَهُ ضَارًّا، لَا يُنَافِي كَوْنَهُ نَافِعًا، بَلْ هُوَ الضَّارُّ النَّافِعُ، فَإِضْرَارُهُ لَيْسَ لِدَفْعِ مَشَقَّةٍ عنْهُ، وَإِنْفَاعُهُ لَيْسَ لِجَلْبِ مَنْفَعَةٍ لَهُ، بَلْ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وهمْ يُسْألونَ، والحمدُ للهِ رَبِّ العالَمِينَ.
وَلَقَدْ أَلْطَفَ أَيُّوبُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي سُؤَالِ مولاهُ حَيْثُ وَصَفَ نَفْسَهُ بِمَا يَسْتَمْطِرُ الرَّحْمَةَ عَلَيْهَا، وَوصَفَ رَبَّهُ بِعظيمِ الرَّحْمَةِ وغَايَتِها وَمُنْتَهَاهَا، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِمَطْلُوبِهِ مِنْ رَبِّهِ، وَلَا تَقْدَحُ شَكْوَاهُ لمَولاهُ في كَوْنِهِ صَابِرًا عَلَى ما ابتلاهُ بِهِ، لِأَنَّهُ لمْ يكُنْ في ذلكَ ساخطًا ولا متبرِّمًا، بَلْ كانَ راضيًا مُحْتَسِبًا. قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: مَنْ شَكَا إِلَى اللهِ، فَإِنَّهُ لَا يُعَدُّ ذَلِكَ جَزَعًا، إِذَا كَانَ فِي شَكْوَاهُ رَاضِيًا بِقَضَاءِ اللهِ ـ تَعَالَى، إِذْ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الصَّبْرِ اسْتِحْلَاءُ الْبَلَاءِ، أَلَمْ يَقُلْ يَعْقَوبَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، في الآية: 86، مِنْ سُورةِ يوسُفَ: {إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ}؟.
قوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَيُّوبَ} الواوُ: عَاطِفَةٌ. وَ "أَيُّوبَ" مَفْعُولٌ بِهِ منصوبٌ لفِعْلٍ مَحْذوفٍ تَقْديرُهُ: وَاذْكُرْ أَيُّوبَ، وهوَ منصوبٌ بِهِ وَلَكِنَّهُ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، والتَقْديرُ: وَاذْكُرْ خَبَرَ أَيُّوبَ، وَالجُمْلَةُ المَحْذُوفَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قَوْلِهِ: {وَإبْراهِيمَ}.
قولُهُ: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ} إِذْ: ظَرْفٌ لِمَا مَضْى مِنَ الزَّمَانِ، مبنيٌّ على السُّكونِ، في محلِّ النَّصْبِ، مُتَعَلِّقٌ بالفعلِ المَحْذوفِ، وهوَ بَدَلٌ مِنَ المُضافِ المُقَدَّرِ فِي "أَيُّوبَ" عَلى كَوْنِهِ مَعْمُولًا لِمَحْذُوفٍ تَقْديرُهُ: وَاذْكُرْ خَبَرَ أَيُّوبَ حِينَ نَادَى رَبَّهُ. وَ "نَادَى" فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ المُقدَّرِ على آخِرِهِ، لتَعَذُّرِ ظهورهِ عَلَى الألِفِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى أَيُّوبَ ـ عليْهِ السَّلامُ. و "رَبَّهُ" مَفْعُولُهُ منصوبٌ بِهِ، وهوَ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ الجَرِّ فإضافةِ "إِذْ" إِلَيْهَا.
قولُهُ: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} أَنِّي: أَنَّ: حرفٌ ناصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفِعلِ، للتوكيدِ، وياءُ المُتَكَلِّمِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصِبِ اسْمُهُ. و "مَسَّنِيَ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ، والنونُ للوقايةِ، والياءُ: ضميرُ المتكلِّمِ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ عَلى المَفْعُولِيَّةِ. وَ "الضُّرُّ" فاعِلُهُ مَرْفوعٌ بِهِ، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "أَنَّ"، وَجُمْلَةُ "أَنَّ" وَمَعْمُولَيْهَا فِي مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ جَرٍّ مَحْذوفٍ تَقْديرُهُ: بِأَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ.
قوْلُهُ: {وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} الواوُ: حَالِيَّةٌ. و "أنت" ضميرٌ منفصِلٌ مبنيٌّ على الفتْحِ في محلِّ الرَّفْعِ بالابتِداءِ. وَ "أَرْحَمُ" خبرُهُ مَرْفوعٌ، وهوَ مُضافٌ. وَ "الرَّاحِمِينَ" مَجْرُورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ، وعلامةُ جَرِّهِ الياءُ لأنَهُ جمعُ المُذَكَّرِ السَّالِمُ. وَالجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنْ فاعِلِ الفِعْلِ المَحْذوفِ، والتقديرُ: فَارْحَمْني وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمينَ. أَوْ حَالٌ مِنْ "رَبَّهُ" ويكونُ عَلَى طَريقَ الالْتِفَاتِ.