وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ
(82)
قوْلُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ} أَيْ: وَسَخَّرْنَا لَهُ مِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُ لَهُ في البِحَارِ العَمِيقَةِ، وَيَسْتَخْرِجُ لَهُ مِنْ قِيعانِها وأَجْوافِها، كاللآلِئِ وَالمَرْجانِ، والأَصْدافِ النَّادِرَةِ الأَشْكالِ والأَلْوانِ، والأسماكِ لذيذةِ الطعومِ وَالحِيتَانِ، وَالاسْفنْجِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا في باطِنِها مِنْ أَحجارٍ نَفَيسَةٍ كَرِيمَةٍ، وَدُرَرٍ قيمَةٍ ثَمِينَةٍ.
وَالْغَوْصُ: النُّزُولُ تَحْتَ مَاءِ البِحارِ، والدُّخُولُ فيها، وَالْغَوَّاصُ: هُوَ الَّذِي يَغُوصُ الْبَحْرَ لِيَسْتَخْرِجَ مِنْهُ اللُّؤْلُؤَ والمَرْجَانَ وَنَحْوَهُما. قَال النَابِغَةُ:
أَوْ دُرَّةٌ صَدَفِيَّةٌ غَوَّاصُهَا ................... بَهِجٌ مَتَى يَرَهَا يُهِلَّ وَيَسْجُدِ
غَاصَ يَغُوصُ غَوْصًا، وغِيَاصَةً، فَهُوَ غائصٌ، وَغَوّاصٌ، وهُمْ غاصَةٌ وغَوَّاصُونَ، ومَوْضِعُ اسْتِخْراجِ اللُّؤْلُؤِ يُسَمَّى الغَوْصُ. وفي الحديثِ الشريفِ نَهَى النَّبِيُّ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، عَنْ ضَرْبةِ الغَائِصِ، وَهُوَ أَنْ يَقولَ الرَّجُلُ للرَّجُلِ: أَغُوصُ في البَحْرِ غَوْصَةً بِكَذَا، فَمَا أَخْرَجْتُهُ فَهُوَ لَكَ. وذَلِكَ لِما فيهِ مِنْ غَرَرٍ. فَقَدْ أَخرجَ الإِمامُ أَحْمَدٌ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ شِرَاءِ مَا فِي بُطُونِ الْأَنْعَامِ حَتَّى تَضَعَ، وَعَمَّا فِي ضُرُوعِهَا إِلَّا بِكَيْلٍ، وَعَنْ شِرَاءِ الْعَبْدِ وَهُوَ آبِقٌ، وَعَنْ شِرَاءِ الْمَغَانِمِ حَتَّى تُقْسَمَ، وَعَنْ شِرَاءِ الصَّدَقَاتِ حَتَّى تُقْبَضَ، وَعَنْ ضَرْبَةِ الْغَائِصِ. المُسْنَدُ: (3/42، برقم: 11397). وسُنَنُ ابْنِ مَاجَةَ: (2196). وَالتِّرْمِذِيِّ: (1563). وأَخرجَهُ أَيْضًا: عَبْدُ الرَّزَّاقِ الصَّنْعانيُّ في مُصَنَّفِهِ: (8/76، رقم 14375). والطَّبَرَانِيُّ: (11341)، وَالدَّارَقُطْنِيُّ: (3/15)، ولهُ روايةٌ عنْ أَنَسٍ عندَ البخاريِّ في التاريخِ، وَفِي البابِ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: (1513)، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، فِي "المُسْنَدِ: (2/144)، وَفيهِ عَنْ عَلِيٍّ أَيْضًا ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ.
وَأَيْضًا فَالغَوْصُ عَلَى الشَّيْءِ: الهُجُومُ عَلَيْهِ. والغائِصَةُ الحائِضُ الَّتي لَا تُعْلِمُ زَوْجَها أَنَّها حَائِضٌ لِيَتَجَنَّبَها فَلَا يُجامِعَها. وَالمُتَغَوِّصِةُ بِخِلافِها فَهِيَ الَّتي تَدَّعِي الحَيْضَ لِيَمْتَنِعَ زَوْجُهَا عنْ إِتْيانِهَا. وَفِي الحَديثِ الشَّريفِ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَهُ قالَ: ((لُعِنَت الغائصةُ والمُتَغَوِّصَةُ)). وَفِي رِوَايَةٍ وَالمُغَوِّصَةُ.
وَقَدْ ذَكَرَ ـ جَلَّ وَعَلَا، فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَيْضًا أَنَّ الشَّيَاطِينَ الْمُسَخَّرِينَ لَهُ يَعْمَلُونَ لَهُ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ، أَيْ: سِوَى ذَلِكَ الْغَوْصِ الْمَذْكُورِ، كَبِنَاءِ الْمَدَائِنِ، وَالْقُصُورِ، وَعَمَلِ الْمَحَارِيبِ، وَالتَّمَاثِيلِ، وَالْجِفَانِ العَظِيمَةِ، وَالْقُدُورِ الرَّاسِيَاتِ، والقَوَاريرِ والأَوَانِي الزُّجاجيَّةِ الشَّفَّافةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنِ المُخْتَرَعاتِ البَدِيعَةِ، والصَّنَائِعِ الْعَجِيبَةِ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ أَيْ: مِنْ أَنْ يَزِيغُوا عَنْ أَمْرِهِ، أَوْ يُبَدِّلُوا أَوْ يُغَيِّرُوا، أَوْ يُوجَدَ مِنْهُمْ فَسَادٌ فِيمَا هُمْ مُسَخَّرُونَ فِيهِ. وَقدْ جَاءَتْ هَذِهِ الْمَسَائِلُ الثَّلَاثُ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مُبَيَّنَةً فِي غَيْرِهَا مِنْ آيِ الذِّكْرِ الحكيمِ، كَقَوْلِهِ مِنْ سُورةِ سَبَأٍ: {وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ} الآيةَ: 12، وَقَوْلِهِ في الآيَةِ: 13، بَعْدَها: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ}. وكقولِهِ ـ تَعاَلَى، فِي الْآيةِ: 37، منْ سُورَةِ (ص): {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ}.
قوْلُهُ: {وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ} كَبِنَاءِ المَحاريبِ، والتَمَاثِيلِ، المُدُنِ، وَالقُصُورِ، والأَسْوَارِ العَظِيمَةِ، والقِيَامِ بِالصَّنَائِعِ البَديعَةِ وَالغَريَبَةِ، كالقُدُورِ والجِفانِ العَظَيمَةِ، وَالقَوَاريرِ، وَالأَوَانِي، وَغيْرِها مِنَ الأَعْمَالِ الصَّعْبَةِ الشَّاقَّةِ، الَّتِي قدْ يَسْتَحِيلُ عَلَى بَنِي الإِنْسانِ القِيامُ بِهَا.
قولُهُ: {وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} أَيْ: حَفِظَهُمْ مِنْ أَنْ يَزِيغُوا عَنْ أَمْرِهِ، كما قَالَ ـ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ سَبَأٍ: {وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} الآيةَ: 12. أَوْ أَنْ يَنَالَهُ أَحَدُ الشَّيَاطِينِ بِسُوءٍ، بَلْ كُلٌّ في قَبْضَتِهِ، وتَحْتَ قَهْرِهِ، فَلَا يَتَجَاسَرُ أَيٌّ مِنْهُمْ عَلَى الدُّنُوِّ إِلَيْهِ، وَالْقُرْبِ مِنْهُ. فَقيلَ: وَكَّلَ بِهِمْ جَمْعًا مِنَ المَلائكةِ وَجَمْعًا مِنْ مُؤْمِنِيِّ الجِنِّ، بَلْ هُوَ مُحَكَّمٌ فِيهِمْ، إِنْ شَاءَ أَطْلَقَ منهم مَنْ شاءَ، وَحَبَسَ مَنْ شَاءَ منهم؛ وَهَذَا معنى قولِهِ تَعَالى مِنْ سُورَةِ (ص): {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ} الآية: 38. أَوْ أَنْ يُفْسِدُوا في مُلْكِهِ، أَوْ يُخَرِّبوا ما كانُوا صَنَعُوهُ ـ عَلى مَا هُوَ طبْعُهُمْ ومُقْتَضَى جِبِلَّتِهِمْ، إِذْ رُوِيَ أَنَّ الذي كانَ مُسَخَّرًا لِسُلَيْمانَ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، كانَوا هُمْ الكُفَّارَ مِنَ الجانِّ وَليسَ المُؤْمِنُينَ مِنْهُمْ لِقَوْلِهِ ـ تَعَالَى: "وَمِنَ الشَّيَاطِينِ".
فَقَدْ قَالَ أَبو إِسْحاقٍ الزَّجَّاجُ: كَانَ يَحْفَظُهُمْ مِنْ أَنْ يُفْسِدُوا مَا عَمِلُوا، وَكانَ دَأْبُهُمْ أَنْ يُفْسِدُوا بِاللَّيْلِ مَا عَمِلُوهُ بِالنَّهَارِ.
قوْلُهُ تَعَالى: {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ} الواوُ: للعطْفِ، وَ "مِنَ" حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِخَبَرٍ مُقَدَّمٍ. وَ "الشَّيَاطِينِ" مَجرورٌ بحرفِ الجَرِّ، وعلامةُ جَرِّهِ الياءُ لأَنَّهُ جمْعُ المُذَكَّرِ السَّالمُ. و "مَنْ" اسْمٌ مَوْصُولٌ بِمَعْنَى "الذي" مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلَّ الرَّفْعِ بالابْتِداءِ مُؤَخَّرٌ، ويجوزُ أنْ يكونَ نَكِرةً مَوْصوفةً، وَهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مَعْطوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قَوْلِهِ: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ} عَطْفَ اسْمِيَّةٍ عَلَى فِعْلِيَّةٍ، وَلَكَ أَنْ تَعْطِفَ "مَنْ" المَوْصُولَةَ عَلى {الرِّيحَ}، فتكونُ جملةُ "وَمِنَ الشَّيَاطِينِ" في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلى الحالِ مِنْ "مَنْ" المَوْصُولَةِ. وَ "يَغُوصُونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازمِ، وعلامةُ رَفعِهِ ثبوتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ وَواوُ الجَماعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفَاعِلِيَّةِ، والجملةُ الفعليَّةُ هَذِهِ صِلَةٌ لـ "مَنْ" المَوْصُولَةِ لا مَحلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ، وَجَمَعَ الضَّمِيرَ حَمْلًا عَلى مَعْنَى "مَنْ"، وقدْ حَسَّنَ ذَلِكَ تَقَدُّمُ الجَمْعِ قَبْلَهُ في قولِهِ "الشَّياطين"، فهوَ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ جَرانِ العَوْدِ في وَصْفِ نِساءٍ ذَكَرَهُنَّ فِي شِعْرٍ لَهُ:
وإنَّ مِن النَّسْوان مَنْ هي روضةٌ ............ تَهِيْجُ الرياضُ قبلَها وتَصُوْحُ
ومِنْهُنَّ غُلٌّ مُقْفَلٌ ما يُفُكُّهُ ........... مِنَ النَّاسِ إِلَّ الأَحْوَذِيُّ الصَّرَنْقَحُ
فقد رَاعَى التَأْنِيثَ لِتَقَدُّمِ قَوْلِهِ: "وإنَّ مِن النِّسْوانِ". و "لَهُ" اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يَغُوصُونَ"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ فِ محلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ.
قوْلُهُ: {وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ} الواوُ: حرُفُ عطْفٍ، وَ "يَعْمَلُونَ" مثلُ "يَغُوصُونَ" معطوفٌ عَلَيْهِ ولهُ مِثْلُ إِعْرابِهِ. و "عَمَلًا" مَفْعُولُهُ مَنْصوبٌ بِهِ، أَوْ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ. و "دُونَ" مَنْصوبٌ عَلى الظَّرْفِيَّة الاعتِباريَّةِ، مُتَعَلَّقٌ بِمَحْذوفِ صِفَةٍ لِـ "عَمَلًا"، وَهُوَ مُضافٌ، وَ "ذَلِكَ" ذا: اسْمُ إِشارةٍ مَبِنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِالإِضافَةِ إِلَيْهِ، واللامُ: للبُعدِ والكافُ للخطابِ. والجملةُ معطوفةٌ على التي قبلَها.
قولُهُ: {وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} الوَاوُ: اسْتِئنافيَّةٌ، و "كُنَّا" فِعْلٌ ماضٍ ناقصٌ مبنيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَميرِ رَفْعٍ مُتحَرِّكٍ هوَ "نَا" المُظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهُ وتَعالى، و "نَا" التَّعظِمِ هَذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ اسْمُ "كان". وَ "لَهُمْ" اللامُ: حَرْفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِالخَبَرِ "حَافِظِينَ"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ، والميمُ علامةُ الجَمعِ المُذكَّر. و "حَافِظِينَ" خَبَرُ "كان" منصوبٌ بها، وعلامةُ نَصْبِهِ الياءُ لأَنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السَّالمُ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.