وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولى (133)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ} أَيْ: وقالَ المُشْركونَ: هَلَّا أَتَانَا مُحَمَّدٌ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، بِآيَةٍ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ كَمَا أَتَى بِهَا الأَنْبِيَاءُ مِنْ قَبْلُ، كَ "عَصَا مُوسَى" و "نَاقَةِ صَالِحٍ" ـ عَلَيْهِمَا الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، إِلى آخِرِ مَا هُنَالِكَ، إِنْ كانَ نَبِيًّا مِثْلَهُمْ حَقًا. وَنَظيرُ هَذِهِ الآيةِ قولُهُ مِنْ سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} الآيَتَانِ: (50 م 51). قَالَ أَبُو إِسْحاقٍ الزَّجَّاجُ: (وَقَدْ أَتَتْهُمُ الآياتُ، وَلَكِنَّهُمْ طَلَبُوا أَنْ يَأْتِيهِمْ مَا يَقْتَرِحُونَ). مَعَانِي القُرْآنِ وإِعْرَابِهِ، لَهُ: (3/381).
قولُهُ: {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولى} الِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ هنا، فقد أُنْكِرَ بِهِ نَفْيُ إِتْيَانِ آيَةٍ لَهُمُ الَّذِي اقْتَضَاهُ تَحْضِيضُهُمْ عَلَى الْإِتْيَانِ بِآيَةٍ. وَالْبَيِّنَةُ: الْحُجَّةُ. وهذا رَدٌّ عَلَى هؤلاءِ المُشْرِكِينَ، لِلْمُفَسِّرينَ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقاويلَ هِيَ:
الأَوَّلُ: أَوَ لَمْ تَأْتِهِمْ ـ يَا مُحَمَّدُ، فِي الْقُرْآنِ بِبَيَانِ مَا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَغَيْرِهما مِنَ الكُتُبِ المُتَقَدِّمَةِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عنْهُ، فِي قَوْلِهِ ـ جلَّ وعَزَّ: "أَوَ لَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى" قَالَ: التَّوْرَاةُ والإِنْجيلُ.
وَهَذَهِ آيَةٌ مِنْ أَعْظَمِ الآياتِ، لأَنَّها مِنْ أُمِّيٍّ لَمْ يَقْرَأْ كتابًا مِنْ قَبْلُ وَلَا سَبَقَ لَهُ أَنِ اطَّلَعَ عَلَى هَذِهِ الكُتُبِ فهي عندَ أَحْبَارِ وَرُهْبَانِ مَنْ أَنْزِلَتْ عَلَيْهِمْ، لَا يُطْلِعُونَ أَحَدًا عَلَى مَا فِيهَا، وَلَا يَسْمَحُونَ لِأَحَدٍ بِقِرَاءَتِهَا، فَإِنَّ إِخْبَارَ سيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَمَّا في هَذِهِ الكُتُبِ أَوْضَحُ دليلٍ على أَنَّ الذي أَطْلَعَهُ عَلَيْهَا هُوَ اللهُ الذي أَنْزَلَهَا، وهِيَ مِنْ أَعْظَمِ المُعجِزاتِ لَهُ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الثَّانِي: أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بِبَيَانِ مَا فِي كُتُبِهِمْ مِنْ أَنْبَاءِ الأُمَمِ الَّتِي أَهْلَكْنَاها عِنْدَمَا كَفَرُوا بالآياتِ الَّتي سَأَلُوهَا، أَفَلَا يَخْشَى هؤلاءِ أَنْ يَكونَ حَالُهم كَحَالِ أُولَئِكَ، إِذا أَتيتَهُمْ بالآياتِ الَّتي سَأَلُوهَا وكَذَّبوا بِهَا كما فعلَ الذينَ مِنْ قبلِهِم؟.
الثالثُ: أَنَّ المُرادَ بـ "بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى" مَا تَقَدَّمَ في تِلَكَ الكُتُبِ والصُّحِفِ الَّتي أُنْزِلَتْ عَلَى الأمَمِ السَّابقةِ مِنَ البِشَارَةِ بسيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ، وَبَيَانِ نَعْتِهِ وَصِفَتِهِ، فإنَّهُ ما مِنْ نبيٍّ منَ الأَنْبِيَاءِ السَّابقينَ إِلَّا بَشَّرَ بِهِ، وذكَرَ لقومِهِ صِفَتَهُ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، ونَعتَهُ، وأخذَ العهدَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ ويتَّبِعَوهُ وينصُرُوهُ، قَالَ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرانَ: {وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} الآيةَ: 81. فقد كانَ كلُ نَبِيٍّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ ـ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، يُبَلِّغُ قومَهُ بهَذَا وَيَأْخُذُ العَهْدَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ مِنْ أَوَّلِهِمْ حَتَّى آخِرِهِم، وهوَ سيُّدُنا عِيسَى بْنُ مريَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ: قَالَ اللهُ تَعَالَى في الآيةِ: 6، مِنْ سُورَةِ الصَّفِّ: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}. والْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا وَقَدْ أُعْطِي مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَى اللهُ إِلَيَّ. فَأَنَا أَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ)). حَدِيثٌ مُجْمَعٌ عَلَى صِحَّتِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، وهذا نَصُّ ابْنِ منْدَهْ في "الإيمان": (1/487).
قولُهُ تَعَالَى: {وَقالُوا} الواوُ: اسْتِئنافيَّةٌ، وَ "قَالُوا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، وَالجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها ممِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ} لولا" حَرْفٌ للتَّحْضِيضِ دَالٌّ عَلَى شِدَّةِ الْحَضِّ بِمَعْنَى "هَلَّا". و "يَأْتِينَا" فِعْلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رفعِهِ ضمَّةٌ مُقدَّرةٌ على آخِرِهِ لِثِقَلِ ظهورِها عَلَى اليَاءِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى سيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ، وَ "نَا" ضميرُ جماعةِ المُتكلِّمينَ مُتَّصِلٌ بهِ في محلِّ النَّصْبِ على المَفْعُوليَّةِ. و "بِآيَةٍ" الباءُ: جرفُ َجَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يَأْتِي"، و "آيةٍ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ. و "مِنْ" حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِصِفَةٍ لِـ "آيَةٍ"، و "رَبِّهِ" ربَّ: اسْمٌ مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ، مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إليْهِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لِـ "قَالُوا".
قوْلُهُ: {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولى} أَوَلَمْ: الهَمْزَةُ: للاسْتِفْهَامِ التَّقْريرِيِّ، دَاخِلَةٌ عَلَى مَحْذوفٍ، وَالواوُ: عَاطِفَةٌ عَلَى ذَلِكَ المَحْذوفِ، و "لَمْ" حَرْفُ جَزْمٍ ونَفْيٍ وَقَلْبٍ. و "تَأْتِهِمْ" فِعْلٌ مُضارعٌ مجزومٌ بِـ "لَمْ"، وعلامَةُ جَزْمِهِ حذْفُ حرفِ العلَّةِ (الياءِ) مِنْ آخِرِهِ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى المَفْعُولِيَّةِ، والميمُ علامةُ التَذْكيرِ. و "بَيِّنَةُ" "فَاعِلُهُ مَرْفوعٌ بِهِ، وهوَ مُضافٌ، وَ "مَا" مَوْصُولَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى السُّكونِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "فِي" حَرْفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِصِلَةٍ لِـ "مَا"، وَ "الصُّحُفِ" مَجْرُورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ. و "الْأُولَى" صِفَةٌ لِـ "الصُّحُفِ" مجرورةٌ مِثْلُها، وعلامةُ جَرِّهِ كَسْرَةٌ مُقَدَّرَةٌ عَلى آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظهورِها على الألِفِ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مَعْطوفَةٌ عَلَى تِلْكَ المَحْذوفَةِ، وَالتَّقْديرُ: أَلَمْ يَأْتِهِمْ سائِرُ الآياتِ وَأَلَمْ يَأْتِهِم بَيَانُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى. وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى تِلْكَ المَحْذُوفَةِ، وَالجُمْلَةُ المَحْذوفَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعْرابِ.
قَرَأَ الْجُمْهورُ: {يأْتِهِمْ بَيِّنَةُ} بِتَحْتِيَّةِ الْمُذَكَّرِ لِأَنَّ تَأْنِيثَ "بَيِّنَةُ" مَجَازِيٌّ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، وَأَصْلُ الْإِسْنَادِ التَّذْكِيرُ لِأَنَّ التَّذْكِيرَ لَيْسَ عَلَامَةً وَلَكِنَّهُ الْأَصْلُ فِي الْكَلَام. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبو عَمْرٍو، وَحَفَصٌ، وَابْنُ جَمَّازٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ "تَأْتِهِمْ" بِتَاءِ الْمُضَارِعِ لِلْمُؤَنَّثِ.
قَرَأَ العامَّةُ: {بَيِّنَةُ ما} بِإِضَافَةِ "بَيِّنَةُ" إِلَى "ما" مَرْفُوعَةً، وَهِيَ وَاضِحَةٌ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو فِيمَا رَوَاهُ أَبُو زَيْدٍ بِتَنْوينِ "بَيِّنَةٌ" مَرْفوعَةً. وَعَلَى هَذِهِ القِراءَةِ، وعَلَيْهِ فَـ "ما" بَدَلٌ مِنْ "بَيِّنَةٌ" بَدَلَ كُلٍّ مِنْ كُلٍّ. وَيَجوزُ أَنْ تَكونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مُضْمَرٍ، أَيْ: هِيَ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى. ويَجُوزُ أَيْضًا أَنْ تَكونَ "ما" نَافِيَةً، وقدْ أُريدَ بِذَلِكَ مَا فِي القُرْآنِ مِنَ النَّاسِخِ وَالْفَصْلِ مِمَّا لَمْ يَكُنْ فِي غَيْرِهِ مِنَ الكُتُبِ.
وَقَرَأَتْ جَمَاعَةٌ: "بَيِّنَةً" بِتَنْوينِ النَّصْبِ. وَالوَجْهُ في ذَلِكَ أَنْ تكونَ "مَا" فاعِلَةً، وَ "بَيِّنَةً" نَصْبًا عَلَى الحَالِ.