قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ} أَمَّا أَنَا فَلا أَسْتطيعُ أَنْ أُخْبِرَكُم إِلَّا بِمَا أَخْبَرَنيهُ رَبِّي، فَمَا عَرَّفَنِي عَرَّفْتُ، وَمَا سَتَرَهُ عَنِّي أَمْسَكْتُ. وهذا الجوابُ مِنْ سيِّدِنا مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، عَنْ سُؤَالِ فِرعَونَ: {فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى} الآيةَ التي قبْلَها، جَوَابٌ سَريعٌ مُقْتَضَبٌ لِأَنّهُ لَا يُريدُ أَنْ يَخُوضَ فِي هَذَا المَوْضُوعِ، إِذْ ليسَ هَدَفَهُ، وَلَيْسَ مِنِ اخْتِصَاصِهِ؛ فَإنَّ الذي يُسْأَلُ عَنْها هوَ مَنْ يُحاسِبُها وَيُجازِيها، والذي يَعْلَمُ حَالَهَا، وَمَا هِيَ عَلَيْهِ مِنَ الإِيمانِ أَوِ الكُفْرِ؛ لِيُجازيها عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يَعْلَمُ هَذا إِلَّا هُوَ، وَمَا أَنَا إِلَّا عَبْدٌ مِثْلُكَ، فلَا أَعْلَمُ مِنْهُ إِلَّا مَا أَخْبَرَنِي بِهِ رَبِّي عَلَّامُ الْغُيُوبِ، وَعِلْمُ أَحْوالِ أَهلِ تِلْكَ القُرونِ المَاضِيَةِ مَكْتوبٌ عِنْدَهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ.
فقِيلَ: أَرادَ فِرْعونُ أَنْ يقولَ: فَمَا بَالُ أَهْلِ تِلْكَ القُرُونِ لأنَّهُمْ ذَهَبُوا وَقَدْ عَبَدُوا غَيْرَ رَبِّكَ.
وَقِيلَ: إِنَّمَا سَأَلَهُ فرعونُ عَنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْقُرُونِ الْأُولَى، فَأَعْلَمَهُ موسَى أَنَّهَا مُحْصَاةٌ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، وَمَحْفُوظَةٌ عِنْدَهُ فِي كِتَابٍ. وَعَنَى بِهِ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ. وَقِيلَ: هُوَ كِتَابٌ مَعَ بَعْضِ الْمَلَائِكَةِ.
لَقَدْ كانَ سُّؤَالُهُ لِمُوسَى عَنْهَا مُهَاتَرَةً وَهَزْلًا وَهُروبًا مِنْ فِرْعَوْنَ، وَلَيسَ لَهُ مَوْضِعٌ فِي هَذَا المَقامِ، لأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ حَالَ أَهلِ تلكَ القُرونِ إِلَّا اللهُ ـ سُبْحَانَهُ وتَعَالى، وَهوَ الذي سَيُجَازي كُلًا مِنْهُمْ بِمَا اكْتَسَبَ.
وَإِنَّما كانَ هَدَفُ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، هوَ تَبْليغَ رِسَالَةِ رَبِّهِ، وَلِذَلِكَ لَم يَلْتَفِتْ إِلَى حَدِيثِ فِرْعَونَ الذي أَرَادَ أَنْ يَشْغَلَهُ بِمَسَائلَ أُخْرى، بَعِيدًا عَنْ مَسْأَلتِهِ الأَساسِيَّةِ الَّتي كَلَّفَهُ اللهُ بِها، والَّتي جاءَ مِنْ أَجْلِها، وَلِذَلِكَ قَالَ في الجوابِ: "عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي"، وَلَا يَتَعَلَّقُ غَرَضِي بِأَحْوَالِهِمْ فَلَا أَشْتَغِلُ بِهَا، ثُمَّ عَادَ إِلَى تَتْمِيمِ كَلَامِهِ الْأَوَّلِ وَإِيرَادِ الدَّلَائِلِ الْبَاهِرَةِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللهِ تعَالَى، كَمَا سَيَأْتي. وَ "فِي كِتابٍ" أَيْ أَنَّ اللهَ ـ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كَتَبَ تِلْكَ الْأَحْكَامَ و أَثْبَتَها فِي كِتَابٍ عِنْدَهُ، لِيَظْهَرَ لِلْمَلَائِكَةِ {المُدَبِّراتِ أَمْرًا}، فَيَطَّلعونَ عَلَيْها لِيَقُومُوا بِالمَهامِّ التي خَلَقَهُمُ اللهُ مِنْ أَجْلِها، فَيَكُونُ ذَلِكَ زِيَادَةً لَهُمْ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ مُنَزَّهٌ عَنِ السَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ، لَا لِيَطَّلِعُ عَلَيْها هُوَ فإِنَّ "لَا يَضِلُّ رَبِّي ولا يَنْسَى" فَلَا يُتَوَهَّمَنَّ مُتوهِّمٌ أَنَّهُ ـ تَعَالَى جَدُّهُ وَعَزَّ شَأْنُهُ، مُحْتاجٌ فِي ذَلِكَ الْعِلْمِ إِلَى ذَلِكَ الْكِتَابِ.
وَيَجوزُ أَنْ يَكونَ المَعْنَى أَنَّ بَقَاءَ تِلْكَ الْمَعْلُومَاتِ فِي عِلْمِهِ ـ جَلَّ وعَلا، كَبَقَاءِ الْمَكْتُوبِ فِي الْكِتَابِ لا يُغادِرُهُ، فَالْغَرَضُ إِذًا هُوَ التَأْكِيدُ عَلى أَنَّ أَسْرَارَ هَذِهِ المَعْلومَاتِ كلِّها مَعْلُومَةٌ للهِ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، حَيْثُ لَا يَتحَوَّلُ شَيْءٌ مِنْهَا عَنْ عِلْمِهِ ـ سُبْحانَهُ، وَهَذَا مَا يُؤَكِّدُهُ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: "لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى".
قوْلُهُ: {لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} تَنْزِيهٌ للهِ تَعَالَى عَنْ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ، وكانَ الْكَلَامُ قَدْ تَمَّ بِقَوْلِهِ تَعَالى: "فِي كِتَابٍ". إِذًا فَهُوَ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما: "لَا يَضِلُّ" لَا يُخْطِئُ، ، أَيْ: لَا يُخْطِئُ فِي التَّدْبِيرِ، فَمَنْ أَنْظَرَهُ فَلِحِكْمَةٍ أَنْظَرَهُ، وَمَنْ عَاجَلَهُ فَلِحِكْمَةٍ عَاجَلَهُ. وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ سُليمانَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: المَعنى: لَا يُخْطِئُ رَبِّي ذَلِكَ الْكِتَابَ وَلَا يَنْسَى مَا فِيهِ. وَقَالَ الإمامُ الْحَسَنُ البَصْرِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ: لَا يُخْطِئُ اللهُ وَقْتَ الْبَعْثِ وَلَا يَنْسَاهُ. وَكذا قَالَ الإِمامُ الطَّبَرِيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: لَا يُخْطِئُ فِي التَّدْبِيرِ فَيَعْتَقِدُ فِي غَيْرِ الصَّوَابِ كَوْنَهُ صَوَابًا وَإِذَا عَرَفَهُ لَا يَنْسَاهُ.
وقَالَ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: بِأَنَّ مَعْنَى اللَّفْظَيْنِ وَاحِدٌ، أَيْ: لَا يَغيبُ عَنْهُ شَيْءٌ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شيْءٌ، فَلَا يَضِلُّ عَنِ الْأَشْيَاءِ وَمَعْرِفَتِهَا، وَمَا عَلِمَ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَنْسَهُ أَبَدًا، فقد أَخْبَرَ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ، أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى كِتَابٍ، وَالْمَعْنَى لَا يَضِلُّ عَنْهُ عِلْمُ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ وَلَا مَعْرِفَتُهَا، وَلَا يَنْسَى مَا عَلِمَهُ مِنْهَا. فَـ "لا يَضَلُّ" إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِ عَالِمًا بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ، وَ "لا يَنْسى" دَلِيلٌ عَلَى بَقَاءِ ذَلِكَ الْعِلْمِ أَبَدَ الْآبَادِ، وَفيهِ إِشَارَةٌ إِلَى نَفْيِ التَّغَيُّرِ. وبِهِ قالَ أَكْثَرُ المُفسِّرينَ ـ رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى.
وقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: أَصْلُ الضَّلَالِ الْغَيْبُوبَةُ، وَالْمَعْنَى: لَا يَغِيبُ رَبّي عَنْ شَيْءٍ وَلَا يَغِيبُ عَنْهُ شَيْءٌ. "لَا يَضِلُّ" لَا يَغِيبُ. يُقَالُ: ضَلَّ النَّاسِي إِذَا غَابَ عَنْهُ حِفْظُ الشَّيْءِ. وَمَعْنَى "لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى" أَيْ: لَا يَغِيبُ عَنْهُ شَيْءٌ وَلَا يَغِيبُ عَنْ شَيْءٍ.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَنَّ مَعْنَى: "لَا يَضِلُّ" لَا يَهْلِكُ، وهوَ مِنْ قَوْلِهِ تعالى في الآيةِ: 10، مِنْ سورةِ السجدَة: {وقالوا أَئذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ}، وَلا يَنْسى شَيْئًا، نَزَّهَهُ عَنِ الْهَلَاكِ وَالنِّسْيَانِ.
وَقَيلَ: "لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى" فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لَـ "كِتابٍ"، أَيِ: أَنَّ الْكِتَابَ هوَ غَيْرُ ضَالٍّ عَنِ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ، أَيْ غَيْرُ ذَاهِبٍ عَنْهُ. "وَلا يَنْسى" أَيْ: غَيْرُ نَاسٍ لَهُ فَهُمَا نَعْتَانِ لِـ "كِتابٍ".
وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْكَلَامُ مُتَّصِلًا، وَلَا يُوقَفُ عَلَى "كِتابٍ". تَقُولُ الْعَرَبُ. ضَلَّنِي الشَّيْءُ إِذَا لَمْ أَجِدْهُ، وَأَضْلَلْتُهُ أَنَا إِذَا تَرَكْتَهُ فِي مَوْضِعٍ فَلَمْ تَجِدْهُ فِيهِ.
وَكما تُلاحَظُ فإنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ كُلَّها مُتَقَارِبَةُ المَعَانِي، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ أَصوبَها هُوَ أَوَّلُها، وَاللهُ أَعْلَمُ.
قالَ الفَرَّاءُ: يُقالُ: "ضَلَلْتُ" الشَّيْءَ ـ بِفَتْحِ اللَّامِ، وَ "ضَلِلْتُ" ـ بِكَسْرِها لُغَتَانِ، إِذا أَخْطأَ فِي مَكَانِهِ، فلم يَهْتَدِ لَهُ، كَقَوْلِكَ: ضَلَلْتُ الطَّريقَ والمَنْزِلَ، وَلَا يُقَالُ: أَضْلَلْتُهُ إِلَّا إِذَا ضَاعَ مِنْهُ كَالدَّابَّةِ وشِبْهِها إِذا انْفَلَتَتْ مِنْهُ وذهَبتْ.
وَنَقَلَ الرُّمَّانيُّ عَنِ بعضِ العَرَبِ، أَنَّهم فرَّقوا بَيْنَ "ضَلَلْتُ"، و "أَضْلَلْتُ"، فقال: "ضَلَلْتُ مَنْزِلِي"، بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَ "أَضْلَلْت بَعِيري"، ونَحْوَهُ مِنَ الحَيَوانِ بِالأَلِفِ.
قالَ الإِمامُ القُرْطُبيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى: تَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ وَنَظَائِرُهَا مِمَّا تَقَدَّمَ وَيَأْتِي عَلَى تَدْوِينِ الْعُلُومِ وَكَتْبِهَا لِئَلَّا تُنْسَى. فَإِنَّ الْحِفْظَ قَدْ تَعْتَرِيهِ الْآفَاتُ مِنَ الْغَلَطِ وَالنِّسْيَانِ. وَقَدْ لَا يَحْفَظُ الْإِنْسَانُ مَا يَسْمَعُ فَيُقَيِّدُهُ لِئَلَّا يَذْهَبَ عَنْهُ. وَرُوِّينَا بِالْإِسْنَادِ الْمُتَّصِلِ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: أَنَكْتُبُ مَا نَسْمَعُ مِنْكَ؟ قَالَ: وَمَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَكْتُبَ وَقَدْ أَخْبَرَكَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ أَنَّهُ يَكْتُبُ، فَقَالَ: "عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى". تفسير القُرْطُبِيِّ "الجامعُ لأحكامِ القرآنِ: (11/205 ، 206).
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وغيرِهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ، أَنَّهُ قَال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَمَّا قَضَى اللهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابٍ عَلَى نَفْسِهِ، فَهُوَ مَوْضُوعٌ عِنْدَهُ: أَنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي)). أَخْرَجَهُ الإمامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ: (2/131(8112)، وَمُسْلِمٌ في صحيحِهِ: (8/95)، وَغَيْرُهُمَا.
وَأَسْنَدَ الترمِذِيُّ، وابْنُ عدِيٍّ، وَالْخَطِيبُ أَبُو بَكْرٍ البغداديُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يَجْلِسُ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَسْتَمِعُ مِنْهُ الْحَدِيثَ وَيُعْجِبُهُ وَلَا يَحْفَظُهُ، فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي أَسْمَعُ مِنْكَ الْحَدِيثَ يُعْجِبُنِي وَلَا أَحْفَظُهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((اسْتَعِنْ بِيَمِينِكَ)). وَأَوْمَأَ إِلَى الْخَطِّ. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ: (5/39، برقم: 2666)، وابْنُ عَدِيٍّ: (3/59)، وأَبو بكْرٍ الخَطِيبُ البغداديُّ في "الجامِعِ لِأَخْلاقِ الراوي": (1/249، برقم: 503). وَهَذَا نَصٌّ في الكَتْبِ.
وَقَدْ أَمَرَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِكَتْبِ الْخُطْبَةِ الَّتِي خَطَبَ بِهَا فِي الْحَجِّ لِأَبِي شَاهٍ (رَجُلٌ مِنَ الْيَمَنِ) ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، لَمَّا سَأَلَهُ كَتْبَهَا. فقد أَخْرَجَ الأئمَّةُ: أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ ـ وَالنَّصُّ لهُ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَةَ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: (لَمَّا فَتَحَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَكَّةَ قَامَ فِي النَّاسِ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: ((إِنَّ اللهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ، وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ كَانَ قَبْلِي، وَإِنَّهَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، فَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلَا يُخْتَلَى شَوْكُهَا، وَلَا تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ، وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُفْدَى، وَإِمَّا أَنْ يُقِيدَ)). فَقَالَ الْعَبَّاسُ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عنْهُ، إِلَّا الْإِذْخِرَ، فَإِنَّا نَجْعَلُهُ لِقُبُورِنَا وَبُيُوتِنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِلَّا الْإِذْخِرَ)). فَقَامَ أَبُو شَاهٍ "رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ" فَقَالَ: اكْتُبُوا لِي يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((اكْتُبُوا لِأَبِي شَاهٍ)). قُلْتُ لِلْأَوْزَاعِيِّ مَا قَوْلُهُ اكْتُبُوا لِي يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ هَذِهِ الْخُطْبَةَ الَّتِي سَمِعَهَا مِنْ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. مُسْنَدُ أَحْمَد: (2/238(7241) وسُنَنُ الدارِمِي: (2603) وصحيحُ البُخاري: (1/38(112)، وصحيحُ مُسْلِم: (4/110 و111)، وسُنن أبي داود: (2017) وسنن ابْنِ ماجةَ: (2624)، وسنن التِّرمِذي: (1405)، والنَّسائي: (8/38) وَفي "الكُبْرَى": (5824 و 6961).
وَرَوَى عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (قَيِّدُوا الْعِلْمَ بِالْكِتَابَةِ). رَوَاه ابْنُ أَبي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ: (9/49)، والدَّارِمِيُّ فِي سُنَنِهِ برقم: (503). عَنْ أَنَسِ بْنِ مالكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، ورَواهُ الحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ (1/106) عَنْ أَميرِ المُؤمنينَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، مَوْقوفًا، ورواهُ الخطيبُ البِغْدادِيُّ في تَقْييدِ العِلْمِ: (ص: 70) مِنْ حَديثٍ أَنَسٍ مرفوعًا، ورَواهُ الحَاكِمُ فِي المُسْتَدْرَكِ: (1/106)، وَابْنُ عَبْدِ البَرِّ فِي (جَمْعِ بَيَانِ العِلْمِ): (1/73) مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، مَرفوعًا والمَوْقوفُ أَصَحّ. وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ، والطَبَرانِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ.
وَقَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ: مَنْ لَمْ يَكْتُبِ الْعِلْمَ لَمْ يَعُدْ عِلْمُهُ عِلْمًا. وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى الْمَنْعِ مِنَ الْكَتْبِ، فَرَوَى أَبُو نَضْرَةَ المُنْذِرُ بْنُ مَالِكِ بْنِ قُطْعَةَ العبديُّ. قَالَ: قِيلَ لِأَبِي سَعِيدٍ: أَنَكْتُبُ حَدِيثَكُمْ هَذَا؟ قَالَ: لِمَ تَجْعَلُونَهُ قُرْآنًا؟ وَلَكِنِ احْفَظُوا كَمَا حَفِظْنَا. وَمِمَّنْ كَانَ لَا يَكْتُبُ الشَّعْبِيُّ وَيُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ وَخَالِدٌ الْحَذَّاءُ ـ قَالَ خَالِدٌ: مَا كَتَبْتُ شَيْئًا قَطُّ إِلَّا حَدِيثًا وَاحِدًا، فَلَمَّا حَفِظْتُهُ مَحَوْتُهُ، وَابْنُ عَوْنٍ وَالزُّهْرِيُّ. وَقَدْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَكْتُبُ فَإِذَا حَفِظَ مَحَاهُ، مِنْهُمْ: مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، وَعَاصِمُ بْنُ ضَمْرَةَ. وَقَالَ هِشَامُ بْنُ حَسَّانٍ: مَا كَتَبْتُ حَدِيثًا قَطُّ إِلَّا حَدِيثَ الْأَعْمَاقِ (اسْمُ مَوْضِعٍ مِنْ أَطْرَافِ المَدينَةِ) فَلَمَّا حَفِظْتُهُ مَحَوْتُهُ. وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ مِثْلَ هَذَا. وَحَدِيثِ الْأَعْمَاقِ أَخَرجَهُ مُسْلِمٌ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ مِنْ صَحيحِهِ عَن أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَنْزِلَ الرُّومُ بِالْأَعْمَاقِ (مكانٌ خارجَ المدينةِ المنوَّرَةِ)، أَوْ بِدَابِقٍ (سوق مِنْ أَسْواقها)، فَيَخْرُجُ إِلَيْهِمْ جَيْشٌ مِنْ الْمَدِينَةِ مِنْ خِيَارِ أَهْلِ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ، فَإِذَا تَصَافُّوا قَالَتْ الرُّومُ: خَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الَّذِينَ سَبَوْا مِنَّا نُقَاتِلْهُمْ، فَيَقُولُ الْمُسْلِمُونَ: لَا وَاللهِ لَا نُخَلِّي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا. فَيُقَاتِلُونَهُمْ، فَيَنْهَزِمُ ثُلُثٌ لَا يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ أَبَدًا، وَيُقْتَلُ ثُلُثٌ هُمْ أَفْضَلُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ اللهِ، وَيَفْتَتِحُ الثُّلُثُ لَا يُفْتَنُونَ أَبَدًا فَيَفْتَتِحُونَ قُسْطَنْطِينِيَّةَ، فَبَيْنَمَا هُمْ يَقْتَسِمُونَ الْغَنَائِمَ، قَدْ عَلَّقُوا سُيُوفَهُمْ بِالزَّيْتُونِ، إِذْ صَاحَ فِيهِمْ الشَّيْطَانُ: إِنَّ الْمَسِيحَ قَدْ خَلَفَكُمْ فِي أَهْلِيكُمْ، فَيَخْرُجُونَ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ، فَإِذَا جَاءُوا الشَّأْمَ خَرَجَ، فَبَيْنَمَا هُمْ يُعِدُّونَ لِلْقِتَالِ يُسَوُّونَ الصُّفُوفَ إِذْ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ، فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَّهُمْ، فَإِذَا رَآهُ عَدُوُّ اللهِ ذَابَ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ، فَلَوْ تَرَكَهُ لَانْذَابَ حَتَّى يَهْلِكَ، وَلَكِنْ يَقْتُلُهُ اللهُ بِيَدِهِ، فَيُرِيهِمْ دَمَهُ فِي حَرْبَتِه)). صحيحُ مُسْلِم: (4/2221، برقم: 2897). والمُسْتدركُ للحاكم: (4/529، برقم: 8486)، وقالَ: صَحيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وأَخْرَجَهُ أَيْضًا الدانيُّ في (السُنَنُ الوارِدَةُ فِي الفِتَنِ). وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَحْفَظُ ثُمَّ يَكْتُبُ مَا يَحْفَظُ مِنْهُمُ الْأَعْمَشُ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ إِدْرِيسَ، وَهُشَيْمٌ، وَغَيْرُهُمْ. وَهَذَا احْتِيَاطٌ عَلَى الْحِفْظِ. وَالْكَتْبُ أَوْلَى عَلَى الْجُمْلَةِ، وَبِهِ وَرَدَتِ الْآياتُ وَالْأَحَادِيثُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَجَابِرٍ، وَأَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَجمعينَ، وَمَنْ يَلِيهِمْ مِنْ كُبَراءِ التَّابِعِينَ كَالْحَسَنِ، وَعَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم أَجْمَعينَ.
أمَّا الآياتُ الواردةُ في الكِتَابةِ: قَولُهُ تَعَالَى منْ سُورَةِ الأَعْرَافِ: {وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} الآية: 145. وَفي الآيةِ: 156، مِنْهَا قَالَ: {وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً}. وَقَالَ مِنْ سورةِ الأَنْبِياءِ: {وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ} الآية: 105. وَقَالَ مِنْ سورةِ القمر: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} الآيتانِ: ( 52 و 53). وقالَ هُنَا: "عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ" إِلَى غَيْرِ هَذَا مِنَ الْآيِ. وَلَا يُضْبَطُ الْعِلْمُ إِلَّا بِالْكِتَابِ أَوَّلًا، وَإِنَّمَا كَرِهَ الْكَتْبَ مَنْ كَرِهَ مِنَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ لِقُرْبِ الْعَهْدِ، وَتَقَارُبِ الْإِسْنَادِ لِئَلَّا يَعْتَمِدَهُ الْكَاتِبُ فَيُهْمِلَهُ، أَوْ يَرْغَبَ عَنْ حِفْظِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ، فَأَمَّا وَالْوَقْتُ مُتَبَاعِدٌ، وَالْإِسْنَادُ غَيْرُ مُتَقَارِبٍ، وَالطُّرُقُ مُخْتَلِفَةٌ، وَالنَّقَلَةُ مُتَشَابِهُونَ، وَآفَةُ النِّسْيَانِ مُعْتَرِضَةٌ، وَالْوَهْمُ غَيْرُ مَأْمُونٍ، فَإِنَّ تَقْيِيدَ الْعِلْمِ بِالْكِتَابِ أَوْلَى وَأَشْفَى، وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِهِ أَقْوَى، فَإِنِ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الخِدْريِّ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: ((لَا تَكْتُبُوا عَنِّي، وَمَنْ كَتَبَ غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ)) خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ، فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ كان متقدما، فهو مَنْسُوخٌ بِأَمْرِهِ بِالكِتَابَةِ، وَإِبَاحَتِهَا لِأَبِي شَاهٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، وَلغَيْرِهِ. وَأَيْضًا كَانَ ذَلِكَ لِئَلَّا يُخْلَطَ بِالْقُرْآنِ مَا لَيْسَ مِنْهُ. وَكَذَا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَيْضًا: حَرَصْنَا أَنْ يَأْذَنَ لَنَا النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكِتَابَةِ فَأَبَى ـ إِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَهُوَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَحِينَ كَانَ لَا يُؤْمَنُ الِاشْتِغَالُ بِهِ عَنِ الْقُرْآنِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ: يَنْبَغِي أَنْ يُكْتَبَ الْحَدِيثُ بِالسَّوَادِ، ثُمَّ الْحِبْرُ خَاصَّةً دُونَ الْمِدَادِ لِأَنَّ السَّوَادَ أَصْبَغُ الْأَلْوَانِ، وَالْحِبْرَ أَبْقَاهَا عَلَى مَرِّ الدُّهُورِ. وَهُوَ آلَةُ ذَوِي الْعِلْمِ، وَعُدَّةُ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ. وذَكَرَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: رَآنِي الشَّافِعِيُّ وَأَنَا فِي مَجْلِسِهِ وَعَلَى قَمِيصِي حِبْرٌ وَأَنَا أُخْفِيهِ، فَقَالَ: لِمَ تُخْفِيهِ وَتَسْتُرُهُ؟ إِنَّ الْحِبْرَ عَلَى الثَّوْبِ مِنَ الْمُرُوءَةِ لِأَنَّ صُورَتَهُ فِي الْأَبْصَارِ سَوَادٌ، وَفِي الْبَصَائِرِ بَيَاضٌ.
وَقَالَ خَالِدُ بْنُ زَيْدٍ: الْحِبْرُ فِي ثَوْبِ صَاحِبِ الْحَدِيثِ مِثْلُ الْخَلُوقِ فِي ثَوْبِ الْعَرُوسِ. وَقد أَخَذَ هَذَا الْمَعْنَى أَبُو عَبْدِ اللهِ الْبَلَوِيُّ فَقَالَ:
مِدَادُ الْمَحَابِرِ طِيبُ الرِّجَالِ ................ وَطِيبُ النِّسَاءِ مِنَ الزَّعْفَرَانْ
فَهَذَا يَلِيقُ بأثواب ذا ....................... وهذا يَلِيق بِثَوْبِ الحَصَانْ
وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ عُبَيْدَ اللهِ ابْنَ سُلَيْمَانَ، فِيمَا حُكِيَ، رَأَى عَلَى بَعْضِ ثِيَابِهِ أَثَرَ صُفْرَةٍ، فَأَخَذَ مِنْ مِدَادِ الدَّوَاةِ وَطَلَاهُ بِهِ، ثُمَّ قَالَ: الْمِدَادُ بِنَا أَحْسَنُ مِنَ الزَّعْفَرَانِ، وَأَنْشَدَ:
إِنَّمَا الزَّعْفَرَانُ عِطْرُ الْعَذَارَى ................ وَمِدَادُ الدُّوِيِّ عِطْرُ الرِّجَالِ
وَعَلَى جَوَازِ كَتْبِ الْعِلْمِ وَتَدْوِينِهِ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ـ رُضْوانُ اللهِ تَعَالى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.
قولُهُ تَعَالى: {قَالَ} فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، وفاعِلُهُ ضَمْيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلى "مُوسَى" ـ عَلَيْهِ السَّلامُ. والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ} عِلْمُهَا: مَرفوعٌ بالابْتِداءِ، وَهُوَ مُضافٌ، و "هَا" ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، والأظهرُ عَوْدُهُ عَلَى القُرونِ. ويجوزُ أنْ يَعودَ عَلى القيَامَةِ لدَّلالةِ ذِكْرِ القُرونِ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ بَعْثِ الأُمَمِ، وَالبَعْثُ يَدُلُّ عَلَى القِيَامَةِ. وَ "عِنْدَ" مَنْصوبٌ على الظَّرْفِيَّةِ، مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذوفِ خَبَرِ المُبْتَدَأِ، وهو مُضافٌ. وَ "رَبِّي" لفْظٌ مَجْرورٌ بالإضافَةِ إِلَيْهِ، وَهُوَ مُضافٌ، وياءُ المُتكَلِّمِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ. ففي خَبَرِ هَذَا المُبْتَدَأِ أَوْجُهٌ، أَحَدُها: أَنَّهُ "عِنْدَ رَبِّي" وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ "فِي كِتَابٍ" مُتَعَلِّقٌ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ الظَّرْفُ مِنَ الاسْتِقْرَارِ، أَوْ يَتَعَلَّقُ بِمَحْذوفٍ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ المُسْتَتِرِ فِي الظَّرْفِ، أَوْ خَبَرٌ ثَانٍ.
وَالثاني: أَنَّ الخَبَرَ هو قوْلُهُ "فِي كِتَابٍ" فَعَلَى هَذَا يكونُ قَوْلُهُ "عِنْدَ رَبِّي" مَعْمُولًا لِلِاسْتِقْرارِ الذي تَعَلَّقَ بِهِ "فِي كِتابٍ" كَمَا تَقَدَّمَ فِي عَكْسِهِ، أَوْ يَكونُ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ المُسْتَتِرِ فِي الجَارِّ الوَاقِعِ خَبَرًا. وَفِيهِ خِلافٌ ـ أَعْنِي تَقْديمَ الحَالِ عَلى عَامِلِهَا المَعْنَوِيِّ. وَالأَخْفَشُ يُجِيزُهُ مُسْتَدِلًّا بِقِراءَةِ "وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٍ بِيَمِينِهِ} الآيةَ: 67، مِنْ سورةِ الزُّمَرِ، وَبِقَوْلِ النابغة الذُّبْيَانِيِّ:
رَهْطُ ابنِ كوزٍ مُحْقِبيْ أَدْراعِهمْ ............. فِيهِمْ ورَهْطُ رَبيعَةَ بْنِ حُذارِ
وَقالَ بَعَضُ النَّحْويِّيِنَ: إِنَّهُ إِذَا كانَ العامِلُ مَعْنَوِيًّا، وَالحَالُ ظَرْفٌ، أَوْ عَديلُهُ، حَسُنَ التَّقْديمُ ـ عِنْدَ الأَخْفَشِ وَغَيْرِهِ، وَهَذَا مِنْهُ. أَوْ يَكونُ ظَرْفًا للعِلْمِ نَفْسِهِ، أَوْ يَكونُ حَالًا مِنَ المُضافِ إِلَيْهِ وَهُوَ الضَّمِيرُ فِي "عَلَيْهَا". وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ "فِي كِتَابٍ" بـ "عِلْمها" عَلَى قَوْلِنَا إِنَّ "عِنْدَ رَبِّي" هو الخَبَرُ، كَمَا جازَ تَعَلُّقُ "عِنْدَ" بِهِ لِئَلَّا يَلْزَمَ الفَصْلُ بَيْنَ المَصْدَرِ وَمَعْمُولِهِ بِأَجْنَبِيٍّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا يُخْبَرُ عَنِ المَوْصُولِ إِلَّا بَعْدَ تَمَامِ صِلَتِهِ.
الثالثُ: أَنْ يَكونَ الظَّرْفُ وَحَرْفُ الجَرِّ مَعًا خَبَرًا وَاحِدًا في المَعْنَى، فَيَكونَ بِمَنْزِلَةِ "هَذَا حُلْوٌ حامِض" قَالَهُ العُكْبُريُّ أَبُو البَقَاءِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ إِذْ كُلٌّ مِنْهَا يَسْتَقِلُّ بِفَائِدَةِ الخَبَرِيَّةِ، بِخِلافِ "هَذَا حُلْوٌ حَامِضٌ". وهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْميَّةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لـ "قَالَ". وَ "فِي" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذوفِ حَالٍ مِنْ الضَمِيرِ في "عِلْمُهَا"؛ أَيْ: حَالَةَ كَوْنِهَا مَكْتُوبةً "فِي كِتَابٍ". وَ "كِتَابٍ" مَجْرُورٌ بحرفِ الجَرٍّ. أَوْ العكسُ فـ "فِي كِتَابٍ" هوَ الخَبَرُ، و "عِنْدَ رَبِّي" حَالٌ، أَوْ هُمَا خَبَرٌ "إِنَّ"، أَوْ هُمَا خَبَرٌ وَاحِدٌ عَلى حَدِ قَوْلِكَ الرُّمَّانُ حُلُوٌ حَامِضٌ؛ أَيْ: مزٌّ.
قَوْلُهُ: {لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} لَا: نافيةٌ. و "يَضِلُّ" فعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ. و "رَبِّي" فاعِلُهٌ مَرْفوعٌ بِهِ، وعلامةُ رَفْعِهِ ضمَّةٌ مُقدَّرةٌ على آخِرِهِ لانْشِغالِ المَحَلِّ بالحركةِ المُناسِبَةِ لياءِ المُتَكَلِّمِ، وهو مُضافٌ وياءُ المُتكلِّمِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ، وَالجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ عَلَى كَوْنِهَا مَقُولَ "قَالَ"، ويَجوزُ أَنْ تكونَ في مَحَلِّ الجَرِّ صِفَةً لـ "كتابٍ"، والعائدُ مَحْذُوفٌ، والتقديرُ: فِي كتابٍ لَا يَضِلُّهُ رَبِّي، أَوْ لَا يَضِلُّ حِفْظَهُ رَبِّي، فـ "رَبِي" فاعِلُ "يَضِلُّ" عَلَى هَذَا التَّقْديرِ، وَقِيلَ: تَقْديرُهُ: الكِتَابَ رَبِّي. فَيَكونُ فِي "يَضِلُّ" ضَميرٌ يَعُودُ عَلَى "كِتَابٍ"، وَ "رَبِّي" مَنْصُوبٌ عَلَى التَّعْظِيمِ. وَكانَ الأَصْلُ: "عَنْ رَبِّي"، فَحُذِفَ الحَرْفُ اتِّساعًا، يُقَالُ: ضَلَلْتُ كَذَا وَضَلَلْتُهُ بِفَتْحِ اللَّامِ وَكَسْرِهَا، لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ ـ كما تقدَّمَ في مبحثِ التفسيرِ، وشُهْرَاهُما الفَتْحُ. وَيجوزُ أَنْ تكونَ مُسْتَأْنَفَةً لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ، سَاقَهَا اللهُ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالى لِمُجَرَّدِ الإِخْبَارِ بِذَلِكَ حِكَايَةً عَنْ مُوسَى ـ عليْهِ والصَّلاةُ وَالسَّلامُ.
قولُهُ: {وَلَا يَنْسَى} الواوُ: للعَطْفِ، و "لا" للنفيِ. و "يَنْسَى" فعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازمِ، وعلامةُ رفعِهِ ضمَّةٌ مُقدَّرةٌ على آخِرِهِ لِتَعْذُّرِ ظهورها على الأَلِفِ، وفاعِلُهُ ضميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تَقديرُهُ (هو) يعودُ على "ربي" أي: ولا ينسى ربي ما أَثْبَتَه في الكتاب. والجملةُ معطُوفةٌ عَلَى جملةِ "لا يَضِلُّ" ولها مِثلُ إِعْرَابِها. وَيَجوزُ أَنْ يعودَ عَلَى الكِتَابِ عَلَى سَبيلِ المَجَازِ، كَمَا أُسْنِدَ إِلَيْهِ الإِحْصَاءُ مَجازًا في قَوْلِهِ تعالى مِنْ سُورةِ الكهفِ {إِلَّا أَحْصَاهَا} الآيةَ: 49، لَمَّا كَانَ مَحَلًّا للإِحْصَاءِ.
قرأَ العامَّةُ: {لَا يَضِلُّ} بفتْحِ الياءِ، وَقَرَأَ الحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، والجَحْدَرِيُّ، وَعِيسَى بنُ عمرَ الثَّقَفِيُّ، وابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، وعاصِمٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ ـ فِيمَا رَوَى شِبْلٌ عَنْهُ: "لَا يُضِلُّ" بِضَمِّ الياءِ أَيْ: لَا يُضِلُّ رَبِّي الكِتَابَ، أَيْ: لَا يُضَيِّعُهُ، منْ قَولِهم: أَضْلَلْتُ الشيءَ أَيْ: أَضَعْتُهُ، فَـ "ربي" فاعِلٌ عَلى هَذا التَقْديرِ. وَقيِلَ: تَقْديرُه: لَا يُضِلُّ أَحَدٌ رَبِّي عَنْ عِلْمِهِ، أَيْ: عَنْ عِلْمِ الكِتَابِ، فَيَكونُ الرَّبُّ مَنْصُوبًا عَلَى التَّعْظِيمِ. عَلَى مَعْنَى لَا يُضَيِّعُهُ رَبِّي وَلَا يَنْسَاهُ. قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: الضَّلَالَةُ عِنْدَ الْعَرَبِ سُلُوكُ سَبِيلٍ غَيْرِ الْقَصْدِ، يُقَالُ: ضَلَّ عَنِ الطَّرِيقِ، وَأَضَلَّ الشَّيْءَ إِذَا أَضَاعَهُ. وَمِنْهُ قَرَأَ مَنْ قَرَأَ" لَا يَضِلُّ رَبِّي" أَيْ لَا يُضِيعُ، هذا مذهب العرب.