وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي
(29)
قولُهُ ـ تَعَالى شأْنُهُ: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي} لَمَّا ذَهَبَ لِسَمَاعِ كَلامِ اللهِ تعالى حِينَ واعَدَهُ ربُّهُ بقولِهِ: {وَواعَدْنا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَة} الآيةَ: 142، مِنْ سورةِ الأَعْرافِ، ذَهَبَ بِمُفْرَدِهِ، لأنَّ في ذَهَابِهِ هَذَا الأُنْسُ والبَهْجَةُ، فَلِقاءُ الأَحِبَّةِ يُوجِبُ التَجَرُّدَ وَالانْفِرادَ، وَحِينَ أَرَادَ الذَّهَابَ إِلَى فِرْعَوْنَ طَلَبَ الرُّفْقَةَ، لِأَنَّ الذَّهَابِ إِلَى الخَلْقِ يُورثُ الغمَّ والوَحْشَةَ، فَقَدْ طَلَبَ صُحْبَةَ أَخِيهِ لِيُخَفِّفَ عَنْهُ كُلْفَةَ المَشَقَّةِ.
وَالْوَزِيرُ: المُعَاوِنُ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعل، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْأَزْرِ، وَهُوَ الْمَعُونَةُ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْأَزْرِ، أَيِ الْظَّهْرِ، أَوْ مِنَ الوِزْرِ ـ بكَسْرِ الواوِ، لِأَنَّهُ يَحْمِلَ مَعَهُ أَوْزارَ الأَمْرِ، أَوْ مِنَ الوَزَرِ ـ بِفَتْحِ الوَاوِ وَالزَّايِ، لَأنَّهُ يُلْجَأُ إِلَيْهِ فِي المُلِمَّاتِ، أَوْ مِنَ المُؤَازَرَةِ وهيَ المُعَاوَنَةُ والمُساعدةُ، وَسُمِيَّ مُسَاعِدُ المَلِكِ في إدارةِ شؤونِ المُلْكِ وَزِيرًا، أَيْ: مساعدًا وَمُعينًا وَظَهِيرًا. ولَمَّا أَرَادَ اللهُ ـ سُبْحَانَهُ، أَنْ يُخَوِّفَ النَّاسَ مِنْ أهوالِ الآخِرَةِ قَالَ: {كَلاَّ لَا وَزَرَ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المستقر} الآيتانَ: (11 و 12) مِنْ سَورَةِ القَيَامَةِ، أَيْ: لا مَلْجَأَ وَلَا مُعِينَ يُفْزَعُ إِلَيْهِ إِلَّا اللهُ، فَلا يُوجَدُ لَكُمْ فِيها يومئذٍ مُسَاعِدٌ، وَلا مُعينٌ، ولا مَلْجَأٌ تَلْتَجِئُونَ إِليْهِ فَيُنْجِيكم مِنْ أهوالها، أَوْ يُخَفِّفُ عَنْكم شَيئًا مِنْ عَذَابها، أَوْ يَحْمِلَ عَنْكُمْ. قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: أَصْلُ الوِزَارَةِ مِنْ الوِزْرِ، وَهُوَ الحِمْلُ، كَأَنَّ الوَزيرَ قَدْ حَمَلَ عَنِ السُّلْطانِ الثِّقْلَ. وَقَالَ أبو إسْحاقٍ الزَّجَّاجُ: اشْتِقَاقُهُ مِنَ الوَزَرِ، والوَزَرُ: الجَبَلُ الذي يُعْتَصَمُ بِهِ ليُنْجِي مِنَ الهَلَكَةِ، وَكَذَلِكَ وَزيرُ الخَلِيفَةِ، مَعْنَاهُ: الذي يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ فِي أُمورِهِ، وَيَلْتَجِئُ إِلى رَأْيِهِ. فَحَقُّهُ أَنْ يَكُونَ أَزِيرًا بِالْهَمْزَةِ إِلَّا أَنَّهُمْ قَلَبُوا هَمْزَتَهُ وَاوًا حَمْلًا عَلَى مُوَازِرٍ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَاهُ الَّذِي قُلِبَتْ هَمْزَتُهُ وَاوًا لِانْضِمَامِ مَا قَبْلَهَا. فَلَمَّا كَثُرَ فِي الْكَلَامِ قَوْلُهُمْ: مُوَازِرٌ وَيُوَازِرُ بِالْوَاوِ نَطَقُوا بِنَظِيرِهِ فِي الْمَعْنَى بِالْوَاوِ بِدُونِ مُوجِبٍ لِلْقَلْبِ إِلَّا الْحَمْلُ عَلَى النَّظِيرِ فِي النُّطْقِ، أَيِ اعْتِيَادِ النُّطْقِ بِهَمْزَتِهِ وَاوًا، أَيِ اجْعَلْ مُعِينًا مِنْ أَهْلِي. وقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالْوَزِيرُ: الْمُؤَازِرُ، كَ "الأَكيلِ: المُؤَاكِلُ، لِأَنَّهُ يَحْمِلُ عَنِ السُّلْطَانِ وِزْرَهُ، أَيْ ثِقَلَهُ. وفِي كِتَابِ النَّسَائِيِّ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قالَ: سَمِعْتُ عَمَّتِي تَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ وَلِيَ مِنْكُمْ عَمَلًا فَأَرَادَ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا جَعَلَ لَهُ وَزِيرًا صَالِحًا إِنْ نَسِيَ ذَكَّرَهُ وَإِنْ ذَكَرَ أَعَانَهُ). وأَخرجَ التِرْمِذِيُّ فِي كِتَابِ المَنَاقِبِ ـ باب: 16، مِنْ جامِعِهِ أَنَّهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((إِنَّ لِي فِي السَّمَاءِ وَزَيْرَيْنِ، وَفِي الأَرْضِ وَزِيرَيْنِ، فَالَّلذَانِ فِي السَّمَاءِ جِبْرائيلُ وَمِيكائيلُ ـ عليهِما السَّلامُ، والَّلذانِ فِي الأَرْضِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ ـ رَضِيَ اللهُ ـ عنهُما)). وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ ـ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ((مَا بَعَثَ اللهُ مِنْ نَبِيٍّ، وَلَا اسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيفَةٍ، إِلَّا كَانَتْ لَهُ بِطَانَتَانِ، بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ فَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَهُ اللهُ)) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حديثِ أبي سعيدٍ الخُدريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. فَقد سَأَلَ مُوسَى اللهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَ لَهُ وَزِيرًا، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَكُونَ مَقْصُورًا عَلَى الْوَزَارَةِ حَتَّى لَا يَكُونَ شَرِيكًا لَهُ فِي النُّبُوَّةِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَجَازَ أَنْ يَسْتَوْزِرَهُ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ. وإنَّما يَطْلَبُ الوَزيِرُ حِينَ لَا يَسْتَطِيعُ صَاحِبُ الأَمْرِ القِيامَ بِهِ بِمُفْرَدِهِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى مَنْ يُعِينُهُ عَلَى أَمْرِهِ، فإذا كانَ ناصِحًا أَمينًا يُعِينُ صَاحِبَهُ بِصِدْقٍ فهُوَ وَزيرٌ، وإِذا كانَ غَاشًّا لَئِيمًا يَعْمَلُ لِصَالِحِ نَفْسِهِ، فَلَيْسَ بِوَزيرٍ، بَلْ كانَ وِزْرًا على صاحِبِهِ، قَالَ تَعَالى مِنْ سُورَةِ فاطِر: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} الآيةَ: 18.
"مِنْ أَهْلِي" فَقَدْ طَلَبَ سيِّدُنا مُوسَى ـ علَيْهِ السَّلامُ، أَنْ يكونَ وزيرُهُ مِنْ أَهلِهِ لِيَكونَ مُؤْتَمَنًا عَليْهِ، وليَسْتَطيعَ القِيامَ بِتَبْليغِ الرِّسالَةِ خَيْرَ قِيامٍ، ولِيُؤَدِّيَ هذا الواجِبِ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهِ.
وَيُشيرُ هَذَا الطَلَبُ مِنْ نبيِّ اللهِ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، إلى أَدَبٍ عَالٍ رَفيعٍ مِنْ آدَابِ النُّبُوَّةِ، فهوَ لَا يُريدُ أَنْ يُفاخِرَ بِشَرَفِ حَمْلِ الرِّسالَةِ مِنَ اللهِ إلى خَلْقِهِ، أَوْ يَتَعَالَى بِذَلِكَ على غيرِهِ مِنْ خلقِ اللهِ، أَوْ يَطْغَى، فلو أَنَّ أَحَدًا كلَّفهُ مَلِكٌ مِنْ ملوكِ الأرضِ بِحَمْلِ رِسالَةٍ مِنْهُ، لعاشَ بقيةَ دَهْرِهِ رَاوِيًا لِهَذِهِ المَأْثَرَةِ، مُفاخِرًا بهذا الشَّرَفِ العظيمِ.
قولُهُ تَعَالى: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي} الوَاوُ: للعَطْفِ، و "اجْعَلْ" فِعْلُ دُعَاءٍ ورجاءٍ وَطَلَبٍ، مَبْنيٌّ عَلى السُّكونِ، وَفَاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنْتَ) يَعُودُ إِلَى اللهِ تَعَالَى. وَ "لِي" اللامُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "اجْعَلْ"، وياءُ المُتكَلِّمِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ، والجارُّ والمجرورُ في محلِّ النَّصْبِ عَلَى كَوْنِهِ مَفْعُولًا ثَانِيًا مُقَدَّمًا، لِـ "اجْعَلْ". و "وَزِيرًا" مَفْعُولُهُ الأَولُ مَنْصُوبٌ بِهِ. وَ "مِنْ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِصِفةٍ لِـ "وزيرًا"، وَيَجُوزُ أَنْ يُعَلَّقَ بِـ "اجَعْلِ". وَ "أَهلي" مَجْرُورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ، مُضافٌ، وياءُ المُتَكَلِّمِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. والجملةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلةِ قولِهِ {اشْرَحْ} عَلى كَوْنِها في مَحَلِّ النَّصْبِ بِـ "قَالَ"، أَوْ اسْتِئْنافًا بَيَانِيًّا لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.