وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى
(9)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} هو اِسْتِفهامٌ يُرَادُ بِهِ التَّقْريرُ وَالخَبَرُ. لِتَنْبِيهِ النَّفْسِ إِلَى اسْتِمَاعِ مَا يُورَدُ عَلَيْهَا، مِنْ أَمْرٍ غَرِيبٍ يُرادُ إِخْبَارُها بِهِ. وَقَدِ اخْتِيرَ حَرْفُ "هَلْ" فِي هَذَا الْمَقَامِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّحْقِيقِ، لِأَنَّ "هَلْ" فِي الِاسْتِفْهَامِ مِثْلُ "قَدْ" فِي الْإِخْبَارِ.
وَتَكونُ "هَلْ" للإِخْبارِ، كَمَا هُوَ الحَالُ هُنَا، وكما هيَ في قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الإِنْسَان: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} الآيَةَ: 1، فإنَّ المَعْنَى: قَدْ أَتَى، وَمِنَ الخَبَرِ أَيْضًا قَوْلُكَ لِلرَّجُلِ: هَلْ أَعْطَيْتُكُ كَذَا، تُريدُ أَنْ يُقِرَّ بِأَنَّكَ قَدْ أَعْطَيْتَهُ ما ذَكَرتَ، كَمَا تَكونُ "هَلْ" للجُحودِ، كَأَن تَقولَ: وَهَلْ يَسْطِيعُ أَحَدٌ عَلَى فعْلِ هَذَا؟.
وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ هُنَا فِي التَّشْوِيقِ إِلَى الْخَبَرِ مَجَازًا، وَلَيْسَ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ، سَوَاءٌ كَانَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ قَدْ قُصَّتْ عَلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ قَبْلُ، أَمْ كَانَ هَذَا أَوَّلَ قَصِّهَا عَلَيْهِ.
وَالمُرادُ بِقولِهِ: "حَديثُ مُوسَى" قِصَّةُ مُوسَى، وخَبَرُهُ فِيمَا اجْتَبَاهُ اللهُ ـ تَبَارَكَ وتَعَالَى، لِنُبُوَّتِهِ، وَمَا حَمَّلَهُ إيَّاهُ مِنْ رِسالَتِهِ لِيُبَلِّغَها للنَّاسِ.
فَالْحَدِيثُ: الْخَبَرُ، وَهُوَ اسْمٌ لِلْكَلَامِ الَّذِي يُحْكَى بِهِ أَمْرٌ حَدَثَ فِي الْخَارِجِ، وَيُجْمَعُ عَلَى أَحَادِيثَ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ. وقَالَ الْفَرَّاءُ: وَاحِدُ الْأَحَادِيثِ: أُحْدُوثَةٌ، ثُمَّ جَعَلُوهُ جَمْعًا لِلْحَدِيثِ. يَعْنِي اسْتَغْنَوْا بِهِ عَنْ صِيغَةِ "فَعْلَاءَ".
وَهَذَا اسْتِئْنَافٌ مَسُوقٌ لِتَقْريرِ أَمْرِ تَوْحِيدِ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ، الذي إِلَيْهِ انْتَهَى مَساقُ الحَديثِ، وَبَيَانِ أَنَّهُ أَمْرٌ مُسْتَمِرٌّ فِيمَا بَيْنَ الأَنْبِيَاءِ ـ عليْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ، وَقَدْ خُوطِبَ بِهِ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، حَيْثُ قِيلَ لَهُ: {إِنَّني أَنَا اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فاعْبُدْني وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} الآيةَ: 14، مِنْ هذِهِ السُّورَةِ المُباركةِ، وَبِهِ خَتَمَ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، مَقَالَتَهُ، قَالَ: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} الآيةَ: 98، مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ الكريمةِ.
وقدْ قَفَّى ـ سُبْحانَهُ، تَمْهيدَ نُبُوَّتِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِقِصَّةِ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، لِيَأْتَمَّ بِهِ فِي تَحَمُّلِ أَعْبَاءِ النُّبُوَّةِ، وَتَبْليغِ الرِّسالَةِ، والصَّبْرِ عَلَى احْتِمَالِ المَصاعِبِ والشدائدِ، لِيَنَالَ الدَّرَجَاتِ العُلَى كَمَا نَالَهَا نَبِيُّ اللهِ مُوسَى فقد كانَتْ هَذِهِ السُّورَةَ المُباركةُ مِنْ أَوَائِلِ مَا نَزَلَ مِنْ كتابِ اللهِ تَعَالَى المُكَرَّمِ على نَبِيِّهِ ورَسولِهِ الأَعْظَمِ، سَيِّدِنا محمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آِّلِهِ وصحْبِهِ وَسَلَّمَ.
قولُهُ تَعَالَى: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} الواوُ: للاسْتِئْنَافِ، وَ "هَلْ" حَرْفٌ للاسْتِفْهامِ التَقْريرِيِّ، مَعْنَاهُ: أَلَيْسَ قَدْ أَتَاكَ حَديثُ مُوسَى، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: قَدْ أَتَاكَ. و "أَتَاكَ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ المُقدَّرِ على آخِرِهِ لتعَذُّرِ ظهورِهِ على الأَلِفِ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ على المَفْعُولِيَّةِ. و "حَدِيثُ" فاعِلُهُ مرفوعٌ بِهِ، وهوَ مُضافٌ. و "مُوسَى" مَجْرورٌ بالإِضافةِ إِلَيْهِ، وَليسَ لهَذِهِ الجُمْلَةِ مَحَلٌّ مِنَ الإعرابِ، لأَنَّها جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَقْريرِ أَمْرِ التَّوْحِيدِ، الذي انْتَهَى إِلَيْهِ مَسَاقُ الحَديثِ، وَبَيَانِ أَنَّهُ أَمْرٌ مُسْتَمِرٌ فِيمَا بَيْنَ الأَنْبِيَاءِ ـ عَلَيْهِمُ السَّلامُ.