وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34)
قوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {ونَذْكُرَكَ كثيرًا} أَيْ: نَصِفكَ بِصِفَاتِ الجمالِ الجَلالِ والكِبْرِيَاء، ونَحْمَدُكَ عَلَى كُلِّ حَالٍ نكونُ فيهِ، وَنُثْنِي عَلَيْكَ بِمَا أنْتَ أَهْلٌ لهُ لِمَا أَوْلَيْتَنَا مِنْ نِعَمِكَ، في الصلاةِ وغيرِها، إِذِ الواجِبُ على العَبْدِ أنْ يكونَ دامِ الذِّكْرِ لِمَوْلَاهُ في كلِّ الأحوالِ والأَوْقَاتِ، كالذينَ وصفهم اللهُ تَعَالَى بقولِهِ في الآيَةِ: 191، مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}. وأَعْلى الذِّكْرِ هُوَ ذِكْرُ التَفَكُّرِ والتدبُّرِ في عَظَمَةِ الخالقِ الظاهرةِ في كلِّ مَا خَلَقَ، لقولِهِ في الآيةِ التي قبلَها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} الآيةَ: 190، مِنْ سورةِ آلِ عِمرانَ. فإِذا دَاوَمَ العَبْدُ عَلَى ذِكْرِ مَوْلَاهُ بِلِسَانِهِ مَعَ التَفَكُّرِ والتدَبُّرِ، ثَبَتَ هذا في قلبِهِ ورَسَخَ في ضميرِهِ وَلُبِّهِ، كانَ ذاكِرًا لربِّهِ حقًا، وَهُوَ المُعَوَّلُ عَلَيْهِ. والآياتُ والأحاديثُ الواردةُ في الذِكْرِ وحالاتِهِ وفضلِهِ وثوابِهِ أكثرُ مِنْ أنْ تُحصى، مِنْ ذلكَ قولُهُ ـ عَزَّ مِنْ قَائلٍ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} الآيات: (41 ـ 43) مِنْ سورةِ الأَحْزَابَ. ومنَ الحديثِ نكتفي بحديثٍ واحدٍ ممَا أَخرَجَهُ الإمامُ أحمَدٌ وغيرُهُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، قَالَ مَكِّيٌّ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِعْطَاءِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ، فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟)). قَالُوا: وَذَلِكَ مَا هُوَ يَا رَسُولَ اللهِ؟. قَالَ: ((ذِكْرُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ)). مُسْندُ أَحْمَدٍ: (5/195(22045). قالَ الحافظُ المُنْذِرِيُّ: (2/254)، والهَيْثَمِيُ: (10/73): إِسْنَادُهُ حَسَنٌ. وَأَخْرَجَهُ مَالِكٌ في "المُوَطَّأِ": (148). والتِّرمِذِيُّ: (3377). وابْنُ مَاجَةَ: (3790). والحاكم: (1/673، رقم 1825)، وقال: صَحِيحُ الإِسْنَادِ، وَالبَيْهَقِيُّ في شُعَبِ الإيمانِ: (1/394، رقم 519).
وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنْ مُعَاذِ بْنِ جبلٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ تَعَاطِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَمِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ غَدًا فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟)). قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: ((ذِكْرُ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ)). مُسْنَدُ أَحْمَدٍ: (5/239(22429 و22430). وللحديثِ أَطْرَافٌ أُخْرَى.
لقدِ اكْتَفَيْنَا بآيةٍ واحدةٍ وحَديثٍ واحدٍ لأَنَّ استقصاءَ ذلكَ يحتاجُ إلى سَفْرٍ ضَخْمٍ، وَلَيْسَ المُرَادُ بالذِّكْرِ هُنَا مَا يَكُونُ مِنْهُ بِالقَلْبِ، أَوْ فِي الخَلَواتِ وحسْبُ بَلْ مَا يَكونُ مِنْهُ فِي تَضَاعِيفِ أَداءِ الرِّسَالَةِ وَدَعْوَةِ المَرَدَةِ وَالعُتَاةِ إِلَى الحَقِّ أَيضًا.
قوْلُهُ تَعَالَى: {ونَذْكُرَكَ كثيرًا} الوَاوُ: للعَطْفِ، و "نَذْكُرَكَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَنْصوبٌ عطْفًا عَلَى {نُسَبِّحَكَ} مِنَ الآيةِ التي قَبْلَها، وفاعِلُهُ ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (نحنُ) يعودُ على موسى وأخيهِ هارونَ ـ عليهِما السَّلامُ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ مفعولٌ بِهِ، والجملةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قَوْلِهِ: {نُسَبِّحَكَ}، و "كثيرًا" تقدَّمَ إعرابُها في الآيةِ التي قبْلَها.