إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3)
قَوْلُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} أَيْ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَنْزَلَ كِتَابَهُ الكريمَ، وَأَرسلَ نَبِيَّهُ الرَّحِيمَ، تفضُّلًا مِنْهُ ورَحْمَةً بالعَالَمِينَ، فَرَحِمَ بِهِما عِبَادَهُ أَجْمَعِينَ، لِيُذَكِّرَ مَنْ يَخْشَى اللهَ ـ جَلَّ جَلالُهُ العظيمُ، وَيَخْشَعَ قَلْبُهُ لَهُ لربِّهِ، وَيَتَّعِظَ بِالإِنْذَارِ، وَيَنْتَفِعَ بِهِ، فَيْنْجُو مَنْ عذابٍ أَلِيمٍ في نارِ الجحيمِ بِحُسِنِ اسْتِعْدَادِهُ لِلْهُدَى، والنورِ المُبَينِ.
وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي هذِهِ الآيَةِ المُبَارَكَةِ: أَنَّها مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ، فيكونَ المَعْنَى: مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ إِلَّا تَذْكِرَةً، أَيْ إِلَّا لِأَجْلِ التَّذْكِرَةِ لِمَنْ يَخْشَى اللهَ فَيَتَّقيهِ وَيَخَاف عَذَابَهُ.
وَالتَّذْكِرَةُ: هِيَ الْمَوْعِظَةُ الَّتِي تَلِينُ لَهَا الْقُلُوبُ، وتَتَّعِظُ بها النُّفوسُ. فَتَمْتَثِلُ لِمَا أَمْرَ اللهُ بِهِ، وَتَجْتَنِبُ ما نَهَى عَنْهُ. وَهِيَ: خُطُورُ الْمَنْسِيِّ بِالذِّهْنِ، فَإِنَّ التَّوْحِيدَ مُسْتَقِرُّ فِي الْفِطْرَةِ وَالْإِشْرَاكُ مُنَافٍ لَهَا، فَالدَّعْوَةُ إِلَى الْإِسْلَامِ تَذْكِيرٌ لِمَا فِي الْفِطْرَةِ أَوْ تَذْكِيرٌ لِمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَدْ خَصَّ بِالتَّذْكِرَةِ مَنْ يَخْشَى اللهَ ـ تَعَالى، دُونَ غَيْرِهِمْ، لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِهَا حقيقةً، كَما قَالَ في الآيَةِ: 11، منْ سُورَةِ يس: { إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ}، وَقَالَ مِنْ سُورَةِ (ق): {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} الآيةَ: 45، وَقَالَ منْ سُورَةِ النازِعاتِ: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} الآية: 45. وإِنَّما كانَ التَّخْصِيصُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ المُبارَكاتِ بِمَنْ تَنْفَعُ فِيهِمُ الذِّكرَى لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِهَا لا غَيْر. وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ أَنَّهُ مَا أَنْزَلَ الْقُرْآنَ إِلَّا لِلتَّذْكِرَةِ بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كَتابِهِ الكريمِ، فقَالَ مِنْ سُورةِ الأَنْعَامِ: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} الآيةَ: 90، وَقَالَ مِنْ سُورَةِ التَّكْويرِ: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} الآيَتَانِ: (27 ـ 28) إِلَى غَيْرِها مِنَ آيَاتِ.
وَ "مَنْ يَخْشى" هُوَ الْمُسْتَعِدُّ لِلتَّأَمُّلِ وَالنَّظَرِ فِي صِحَّةِ الدِّينِ، وَهُوَ كُلُّ مَنْ يُفَكِّرُ فِي الْعَاقِبَةِ وكيفَ يَنْجَو مِنْ غضَبِ اللهِ و عذابِه فيها، فَالَخَشْيَةُ هُنَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْمَعْنَى الْعَرَبِيِّ الْأَصْلِيِّ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْمَعْنَى الْإِسْلَامِيُّ، وَهُوَ خَوْفُ اللهِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ الْفِعْلِ الْمَآلُ، أَي من يؤول أَمْرُهُ إِلَى الَخَشْيَةِ بِتَيْسِيرِ اللهِ تَعَالَى لَهُ التَّقْوَى، كَما قَالَ تَعَالَى مِنْ سورةِ البَقَرَة: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} الْآيةَ: 2، أَيِ الصَّائِرِينَ إِلَى التَّقْوَى.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّهُ قالَ: "إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى" قَالَ: إِنَّ اللهَ أَنْزَلَ كِتَابَهُ، وَبَعَثَ رَسولَهُ رَحْمَةً رَحِمَ بِهَا الْعِبادَ لِيَذْكُر ذَاكِرٌ، وَينْتَفِعَ رَجُلٌ بِمَا سَمِعَ مِنْ كِتَابِ اللهِ وَهُوَ ذِكْرٌ أَنْزَلَهُ اللهُ فِيهِ حَلَالُهُ وَحُرَمُهُ.
قَوْلُهُ تَعَالى: {إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} إِلَّا: أَداةُ اسْتِثْناءٍ مُنْقَطِعٍ. و "تَذْكِرَةً" مَفْعُولٌ لِأَجِلِهِ منصوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذوفٍ، دَلَّ عَلَيْهِ المَذْكورُ، والتقديرُ: مَا أَنْزَلْنَاهُ "إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى" وهوَ ما اخْتَارَهُ صَاحِبُ الكَشَّافِ، قالَ: وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ {لِتَشْقَى} و "تَذْكِرَةً" عِلَّةٌ للْفِعْلِ، إِلَّا أَنَّهُ وَجَبَ مَجيءُ الأَوَّلِ مَعَ اللَّامِ؛ لِأَنَّهُ لَيْس لِفَاعِلِ الفِعْلِ المُعَلَّلِ، فَفَاتَهُ شَرطُ الانْتِصابِ عَلَى المَفْعُولِيَّةِ، وجَازَ قَطْعُ اللَّامِ عنِ الثاني وَنَصْبُهُ لِاسْتِجْمَاعِ الشَّروطِ، وَعَلى هَذَا جَرى مُعْظَمُ المُعْرِبِينَ وَالمُفَسِّرينَ، وَقَالَ أَبُو البَقاءِ العُكْبُريُّ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكونَ مَفْعولًا لِأَجْلِهِ لِـ {أَنْزَلْنَا} المَذْكورِ في الآيةِ قبلَها؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَعَدَّى إِلى مَفْعُولٍ لَهُ هناكَ، وَهُوَ {لِتَشْقَى} فَلَا يِتَعَدَّى لِمَفْعُولٍ آخَرَ مِنْ جِنْسِهِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا {لِتَشْقَى} لِفَسَادِ المَعْنَى. وَقِيلَ: "تَذْكِرَةً" مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الحَالِ، وقالَ الكَرْخِيُّ: الاسْتِثْناءُ منقطعٌ فِي قَوْلِهِ: "إِلَّا تَذْكِرَةً"، وَ "تَذْكِرَةً" مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، والعاملُ "أَنْزَلْنَاهُ" المُقَدَّرُ لَا المَذْكُورُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ {لِتَشْقَى} وَ "تَذْكِرَةً" عِلَّةٌ لِقَوْلِهِ: {مَا أَنْزَلْنَا}، وَتَعَدَّى فِي {لِتَشْقَى} بِـ (اللَّامِ) لِاخْتِلافِ العامِلِ؛ لأَنَّ ضَميرَ {أَنْزَلْنَا} يعودِ للهِ، وَضَميرُ {لِتَشْقَى} يعودُ للنَّبِيِّ، فَلَمْ يَتَّحِدِ الفاعِلِ، وَاتَّحَدَ فِي "تَذْكِرَةً" لِأَنَّ المَذْكورَ هوَ اللهُ تَعَالى، وهوَ المُنَزِّلُ فَنُصِبَ بِغَيرِ لامٍ. و "لِمَنْ" اللامُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعلِّقٌ بِـ "تَذْكِرَةً"، و "منْ" اسمٌ مَوْصولٌ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الجرِّ بحرْفِ الجَرِّ. وقد زيدَتِ اللامُ في المَفْعولِ هنا تَقْويَةً لِلْعامِلِ لِكَونِه فَرْعًا، وَيَجوزُ أَنْ يَكونَ مُتَعَلِّقًا بِمَحْذوفٍ عَلى أَنَّهُ صِفَةٌ لِـ "تَذْكِرَةً". و "يَخْشَى" فِعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ منَ الناصِبِ والجازمِ، وعلامةُ رفعِهِ ضمَّةٌ مقدَّرةٌ على آخرِهِ لتعذُّرِ ظهورِها على الألِفِ، وفاعِلُهُ: ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلى "مَنْ" والجُمْلَةُ: صِلَةُ المَوْصولِ فلا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ.