الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى
(5)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} الرَّحْمَنُ: الَّذي عَمَّتْ رحمَتُهُ جَميعَ مَخْلُوقاتهِ دونَ اسْتِثْناءٍ، و "العَرْشُ" سَريرُ المُلْكِ، و "اسْتَوَى" اسْتَقَرَّ، واسْتَوْلَى، وَالاسْتِيلاءُ هُنَا كِنَايَةٌ عَنْ المُلْك لِأنَّهُ مِنْ تَوَابِعِ المُلْكِ، فَذُكِرَ اللَّازِمُ وَأُريدَ المَلْزومُ، فَيُقالُ: اسْتَوَى المَلِكُ عَلَى سَريرِ المُلْكِ للإخْبَارِ بِأَنَّهُ مَلَكَ، وإِنْ لَمْ يَقْعُدْ عَلى السَّريرِ المَعْهودِ أَصْلًا، فالمُرادُ بَيَانُ تَعَلُّقِ إِرادَتِهِ ـ جَلَّ جلالُهُ العظيمُ، بإيجادِ الكَائِنَاتِ، وَتَدْبِيرِ الأُمورِ، وَلذلكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، يُرِيدُ خَلَقَ مَا كَانَ، وَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَبَعْدَ الْقِيَامَةِ. إِذِ البَارِي ـ سُبْحانَهُ، مُنَزَّهٌ عَنِ الحُلُولِ والانْتِقَالِ، مُقدَّسٌ عَنِ المَكَانِ لأَنَّهُ هوَ الذي خلَقَ المَكانَ كما خلقَ الزَّمَانَ وكلَّ شَيْءٍ كانَ، وَإِلَّا لَزِمَ قِدَمُ المَكانِ، وَلَا قَديمَ سِوَى اللهِ الواحِدِ الأَحَدِ الديَّانِ. فإِنَّهُ ـ تَعَالَى، لَمْ يُرِدْ مِنَ الاسْتِوَاءِ الاسْتِقْرَارَ والجُلُوسَ والاسْتِقْرارَ بَلْ شَيْئًا آخَرَ، يَجِبُ أَلَّا نَشْتَغِلَ بِتَعْيِينِهِ، وَيجِبَ عَلَيْنَا أَنْ نُفَوِّضَ إِلى اللهِ تَعَالى فلا نَتَأَوَّلَ المُتَشابِهَاتِ مِنَ الآياتِ، وَهوَ ما عَلَيْهِ أَكْثَرُ السَّلَفِ الصالِحِ رِضْوانُ اللهِ عَلَيْهِم، فقد رُوِي عَنِ الإماميْنِ الجَلِيلَيْنِ مَالِكٍ وأَحْمَدَ قولُهُما: الاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ، والكَيْفِيَّةُ مَجْهُولَةٌ، والبَحْثُ عَنْهَا بِدْعَةٌ. فهُوَ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ بِغَيْرِ حَدٍّ وَلَا كَيْفٍ، لَا كَمَا يَكُونُ اسْتِوَاءُ الْمَخْلُوقِينَ.
وَإِنَّما خَلَقَ العَرْشَ العَظيمَ لِيَعْلَمَ المُتَعَبِّدونَ في السَّماءِ إِلى أَيْنَ يَتَوَجَّهونَ بِقُلوبِهِمْ في الصلاةِ وَالعِبادَةِ وَالدُّعاءِ: {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} الآيةَ: 75، مِنْ سُورَةِ الزَّمَر، كَمَا خَلَقَ الكَعْبَةَ في الأَرْضِ لِيَعْلَمَ أَهلُ الأَرْضِ إِلى أَيْنَ يُوَجِّهونَ وُجُوهَهُمْ فِي صَلواتِهِمْ وعِباداتهم، فتَتَوَحَّدَ قِبْلَتُهم وَقُلُوبُهِمْ، قَالَ ـ سًبحانَهُ وتَعَالَى، مِنْ سُورَةِ البَقَرَة: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} الآيةَ: 125، وإِلَّا فاللهُ مَوْجُودٌ في كُلِّ الوُجُودِ: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} الآيةَ: 115، مِنْ سورةِ البَقَرَةِ.
فَالحَمْدُ للهِ الحنَّانِ المَنَّانِ القديمِ الإحْسَانِ، الواحِدِ الديَّانِ، أَنِ اسْتَوَى عَلى الأَكْوَانِ باسْمِهِ "الرّحْمَنِ" لِيَدُلَّ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وإِرادَتِهِ، وعَظِيمِ رَحْمَانِيَّتِهِ وَرَحْمَتِهِ.
قوْلُهُ تَعَالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} الرَّحْمَنُ: رُفْعٌ عَلَى المَدْحِ أَيْ: هُوَ الرَّحْمَنُ، وللمَرْفوعِ مَدْحًا حُكْمُ الصِّفَةِ الجَارِيَةِ فِي مَا قَبْلَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَابِعًا لَهُ فِي الإِعْرَابِ، وَلِذَلِكَ الْتَزَمُوا حَذْفَ المُبْتَدَأِ لِيَكونَ فِي صُورَةِ مُتَعَلَّقٌ مِنْ مُتَعَلَّقاتِهِ، وَيَجُوزُ فيهِ النَّصْبُ عَلَى الْمَدْحِ. وَالْخَفْضُ عَلَى الْبَدَلِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ: الرَّفْعُ بِمَعْنَى هُوَ الرَّحْمَنُ. وقالَ أبو جعفرٍ النَّحَّاسُ: يَجُوزُ الرَّفْعُ بِالِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ: "لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ"، فَلَا يُوقَفُ عَلَى "اسْتَوى"، وَعَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْمُضْمَرِ فِي "خَلَقَ" فَيَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى "اسْتَوى". وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ خَبَرَ ابْتِدَاءٍ مَحْذُوفٍ وَلَا يُوقَفُ عَلَى "الْعُلى". وَ "عَلَى" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "اسْتَوَى"، و "الْعَرْشِ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ. وَجُمْلَةُ "اسْتَوَى" خَبَرٌ ثانٍ لِـ "هوَ" المُقَدَّرَةِ، أَوْ خَبَرُ "الرَّحْمَنُ" إِذَا أُعربَ رَفْعًا بالابْتِداءِ وَالجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قرَأَ العامَّةُ: {الرَّحْمَنُ} مَرْفوعًا، وَقَرَأَ جَنَاحُ بْنُ حُبَيْشٍ: "الرَّحْمَنِ" مَجْرُورًا. عَلى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ المَوْصُولِ. أَوْ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ صَريحَةٌ لَهُ، وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ الأَسْمَاءَ النَّاقِصَةَ لَا يُوصَفُ مِنْهَا إِلَّا "الذي" وَحْدَهُ، هَوَ مَذْهَبُ الكُوفِيِّينَ. لَا يُقالُ إِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى البَدَلِ بِالمُشْتَقِّ، وَهوَ قَلِيلٌ؛ لِأَنَّ "الرَّحْمَن" جَرَى مَجْرَى الجَوَامِدِ لِكَثْرَةِ إِيلائِهِ العَوَامِلَ.