وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي
(27)
قوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} قِيلَ: كانَ ذَلِكَ التَعَقُّدُ خِلْقَةً في لِسَانِهِ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَسَأَلَ اللهَ تَعَالَى إِزَالَتَهُ.
وَقِيلَ: كانَ التَّعْقيدُ بِسَبَبِ حُرْقٍ فِي لِسَانِهِ وَهُوَ طفلٌ صَغِيرٌ، وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى كانَ ذات يوم فِي حِجْرِ فِرْعَوْنَ، فَلَطَمَ فِرْعَوْنَ لَطْمَةً على وَجْهِهِ، وأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ، فَقَالَ فِرْعُوْنُ لامْرَأَتِهِ آسِيَة: إِنَّ هَذَا الطِفلَ هُوَ مَنْ سيكونُ عَدُوًّا لِي ـ بِحَسَبِ ما كانَ تَنَبَّأَ لهُ المُنَجِّمُونَ، وَهَمَّ بِقَتْلِهِ. فَقَالَتْ آسِيَةُ: إِنَّهُ صَبِيٌّ لا يُمَيِّزُ وَلَا يَعْقِلُ، جَرِّبْهُ إِنْ شِئْتَ. فَجَاءَ بآنيتَيْنِ فِي إِحْداهُما جَمْرٌ مُلْتَهِبٌ، وفي الأُخْرَى جَواهِرُ برَّاقةٌ كالجَمْرِ، فَوَضَعَهُما بَيْنَ يَدَيِ مُوسَى الطِّفلِ، فَهَمَّ بِأَخْذِ جَوْهَرَةٍ، فَأَخَذَ جِبْرِيلُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، يَدَ مُوسَى، فَوَضَعَهَا عَلى جمرِ النَّارِ، فَأَخَذَ موسَى واحدَةً مِنَ الجَمْرِ، فَوَضَعَها فِي فِيهِ، فاحْتَرَقَ لِسَانُهُ، وَصَارَتْ عَلَيْهِ عُقْدَةٌ، وَقِيلَ بأَنَّ يدَهُ لمْ تَحْتَرِقْ، لأَنَّها هي التي سَوْفَ يأْخُذُ بِهَا العَصَا فِيمَا بَعْدُ، وَقِيلَ: بَلْ قَرَّبَ إِلَيْهِ ثَمَرَةً وَجَمْرَةً، فأخَذَ الجَمْرَةَ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي" قَالَ: عُجْمَةٌ بِجَمْرَةِ نَارٍ أَدْخَلَهَا فِي فِيهِ عَنْ أَمْرِ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ تَدْرَأُ بِهِ عَنْهُ عُقُوبَةَ فِرْعَوْنَ حِينَ أَخَذَ مُوسَى بِلِحْيَتِهِ وَهُوَ لَا يَعْقِلُ، قَالَ: هَذَا عَدُوٌّ لِي. فَقَالَتْ امْرَأَتُهُ: إِنَّهُ لَا يَعْقِلُ.
قالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ: إِنَّ تِلْكَ العُقْدَةَ زَالَتْ بِالْكُلِّيَّةِ، لَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا موسَى} الآية: 36، مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ المُباركَةِ. وضَعَّفَهُ بعضُهُم، بِأَنَّ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، لَمْ يَقُلْ: وَاحْلُلِ العُقْدَةَ مِنْ لِساني، بَلْ قالَ: "واحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي"، فإِذا حَلَّ عُقْدَةً وَاحِدَةً يَكونُ قَدْ أُوتيَ سُؤْلَهُ، والصَّحيحُ أَنَّ أَكْثَرَ العُقَدِ انْحَلَّ ولكنْ بَقِيَ شَيْءٌ منها، لِقَوْلِهِ تَعَالى في الآيَةِ: 52، مِنْ سُورَةِ (الزُّخْرُف) حِكايَةً عَنْ فِرْعَوْنَ: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ} إِذًا فقد بَقِيَ قَدْرٌ مِنِ انْعِقادِ لِسانِهِ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَقَدْ أُجِيبَ عَنْ هذا الرأَيِ بَأَنَّ المُرَادَ بِقَوْلِهِ: {وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ} أَيْ: لَا يَأْتي بِبَيَانٍ وَحُجَّةٍ. ثُمَّ إِنَّ معنى "كَادَ": قَرُبَ، فَلَوْ كَانَ المُرَادَ بَيَانُ اللِّسانِ، لَكَانَ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَا يُقَارِبُ البَيَانَ، فَكانَ فِيهِ نَفْيُ البَيَانِ بِالكُلِّيَّةِ، وَذَلِكَ بِاطِلٌ، لِأَنَّهُ خَاطَبَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ، وكانُوا يَفْهَمُونَ ما يَقولُ، فَكَيْفَ يُنْفَى عنْهُ البَيَانُ بالكُلِّيَّةِ، إذًا إِنَّمَا قَالَ فرعَوْنَ ما قالَهُ: تَمْويهًا لِيَصْرِفَ القَوْمَ عَنْ موسى ـ عليْهِ السَّلامُ، حتّى لا يستمعوا لَهُ. فإنَّ للنُّطْقِ فَضائلُ عَظِيمَةٌ، لا سِيَّما في الدعوةِ إِلى اللهِ تَعَالى، فَكَيْفَ يَحْرِمُ اللهُ رَسُولَهُ مِنْهَا؟ يَدُلُّ عَلَى ذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورةِ الرَّحْمَن: {خَلَقَ الإِنْسانَ عَلَّمَهُ البَيَانَ} الآيتان: (3 و 4)، ولذلكَ فقد عَرَّفوا الإِنْسَانَ بِأَنَّهُ (حَيَوَانٌ نَاطِقٌ)، وَقالُوا: (مَا الإنْسانُ لَوْلَا اللِّسانُ إِلَّا بَهِيمَةٌ مُرْسَلَةٌ).
وَقَدِ اتَّفَقَ العُقَلاءُ عَلى تَعْظِيمِ أَمْرِ اللَّسانِ، فَقَالَتِ العَرَبُ: المَرْءُ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ. وَقالُوا: المَرْءُ بِأَصْغَرَيْهِ: قَلْبِهِ وَلِسانِهِ. فعَدُّوا اللِّسَانَ نِصْفَ الإِنْسانِ، وَقالَ الشَّاعِرُ العَرَبيُّ الكَبِيرُ زُهَيْرُ بْنُ أَبي سُلْمى:
لِسَانُ الفَتَى نِصْفٌ وَنصْفٌ فُؤَادُهُ ...... فَلَمْ يَبْقَ إلاَّ صُورَةُ اللَّحْمِ وَالدَّمِ
وما ظَهَرَتْ فَضِيلَةُ أَبِينَا آدَمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، إِلَّا بِالنُّطْقِ، وَذَلِكَ في المُنَاظَرَةِ التي أَجْرَاهَا اللهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ المَلائِكَةِ الكِرامِ، حِينَ قالَ لَهُ اللهُ تَعَالى: {يَا آدَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ، فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إني أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} الآيةَ: 33، مِنْ سورةِ البقرةِ.
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي السَّبب الذي حَمَل موسى عَلَى طَلَبِهِ حَلَّ عُقْدَةِ لسانِهِ. فقالَ بعضُهُم: لِئَلَّا يُسْتَخَفَّ بِكلامِهِ فَيَنْفروا عَنْهُ وَلَا يَلْتفتوا إِلَيْهِ.
وقيلَ: لإِظْهَارِ المُعْجِزَةِ، فَكَمَا كانَ حَبْسُ لِسَانِ زَكَرِيَّا ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، عَنِ الكَلَام ِمُعْجِزةً لَهُ، فَكَذلكَ إِطْلاقُ لِسَانِ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، هو مُعْجِزَةٌ لَهُ. وَقيلَ: السَبَبُ أَلَّا يَقَعَ فِي خَلَلٍ عِنْدَ إِبلاغِ الوَحْيِ، واللهُ أَعْلَمُ.
قولُهُ تَعَالَى: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} الواوُ: للعَطفِ، و "احْلُلْ" فعلُ دعاءٍ مَجْزومٌ بالطَلَبٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ، عَطْفًا عَلَى {يَسِّرْ} مِنَ الآيَةِ التي قبلَها، وَفاعِلُهُ ضميرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنْتَ) يَعُودُ عَلَى اللهِ تَعَالَى. و "عُقْدَةً" مفعولُهُ مَنْصُوبٌ بِهِ، و "مِنِ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بـ "احْلُلْ"، أَوْ بِمَحْذوفٍ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِـ "عُقْدَةً"، والتقديرُ: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ عُقَدِ لِسَانِي، وهَذا أَحْسَنُ.