َلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى} أَيْ فَلَمَّا جَاءَ سيِّدُنا مُوسَى عليْهِ السَّلامُ النَّارَ الَّتِي آنَسَهَا، وَجَدَهَا تَشْتَعِلُ فِي شَجَرَةٍ خَضْرَاءَ، وَكُلَّمَا ازْدَادَتِ النَّارُ تَوَهُّجًا وبَيَاضًا، ازْدَادَتِ الشَّجَرَةُ اخْضِرَارًا، فَلَا ضَوْءُ النَّارِ يُغَيِّرُ خُضْرَةَ الشَّجَرَةِ، وَلَا خُضْرَةُ الشَّجَرَةِ تُغَيِّرُ ضَوْءَ النَّارِ، فَوَقَفَ مُتَعَجِّبًا، مِمَّا يَرَى. وَكانَتْ هَذِهِ النَّارُ أَوَّلَ إِيناسٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ مُوسَى في هَذَا المَكانِ المُوحِشِ، وَكأَنَّ هَذَا المَنْظَرَ العَجِيبَ إِعْدادٌ إِلَهِيٌّ لَهُ حَتَّى يَتَلَقَّى عَنْ رَبِّهِ ـ سُبْحانَهُ.
فَنُودِيَ: مِنَ الشَجَرةِ في البُقْعَةِ المُباركةِ مِنَ جِهَةِ الوَادِي اليُمْنَى: يَا مُوسَى، كَمَا قالَ تَعَالى في الآيةِ: 30، مِنْ سُورةِ القَصَصِ: {نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللهُ}. فَرَدَّ سيِّدُنا مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، عَلَى الصَّوْتِ الَّذِي نَادَاهُ قَائِلًا: مَنِ المُتَكِلِّمُ؟.
واخْتَلَفَ المُفسِّرونِ في هَذِهِ الشَّجَرَةِ، ما هِيَ؟. فقَالَ عَبْدُ اللهِ ابْنُ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ: كَانَتِ الشَّجَرَةُ سَمُرَةً خَضْرَاءَ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: كَانَتْ شَجَرَةَ الْعُنَّابِ. وَقَالَ قَتَادَةُ، وَمُقَاتِلٌ، وَالْكَلْبِيُّ: كَانَتْ مِنَ الْعَوْسَجِ. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَ جَميعًا: كَانَتْ مِنَ الْعَلِيقِ. وَقَالَوا: لَمْ يَكُنِ الَّذِي رَآهُ مُوسَى نَارًا بَلْ كَانَ نُورًا، وَذُكِرَ بِلَفْظِ النَّارِ لِأَنَّ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، حَسِبَهُ كَذَلِكَ. وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: عَلَى أَنَّهُ نُورُ اللهِ ـ تَبَارَكَ وتَعَالَى، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَغَيْرِهِمَا ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: هِيَ النَّارُ بِعَيْنِهَا، وَهِيَ إِحْدَى حُجُبِ اللهِ تَعَالَى، يَدُلُّ عَلَيْهِ: مَا رُوِّينَا عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: ((حِجَابُهُ النَّارُ لَوْ كَشَفَهَا لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ في صحيحِهِ: (1/161 ـ 162، بِرَقَمْ: 179). وأَخرجهُ الإمامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ، لَا يَنَامُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، حِجَابُهُ النَّارُ، لَوْ كَشَفَهَا لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ كُلَّ شَيْءٍ أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ)). ثُمَّ قَرَأَ أَبُو عُبَيْدَةَ: {نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} الآيةَ: 8، مِنْ سُورَةِ النَّمْل.
وكانَ النِّداءُ بِأَداةِ النداءِ "يَا" التي تُستعملُ في نِداءِ البَعيدِ، لِبُعْدِ ما بَيْنَ المُنادي ـ جَلَّ جَلالُهُ، وَعَبْدِهِ، وقدْ شَرَّفَهُ اللهُ تَعَالَى بِأَنْ ذَكَرَ اسْمَهُ، وَرَفَعَ قَدْرَهُ بِهَذَا النِّداءِ الكَريمِ مِنْ رَبِّ العالمينَ. وَبُنِيَ لِلْمَفْعولِ زِيَادَةً فِي التَّشْوِيقِ إِلَى اسْتِطْلَاعِ الْقِصَّةِ، لأَنَّ إِبْهَامُ الْمُنَادِي يُشَوِّقُ السَامِعَ إِلَى مَعْرِفَتِهِ. وَلِأَنَّهُ أَدْخَلُ فِي تَصْوِيرِ تِلْكَ الْحَالَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا} الفاءُ: عَاطِفَةٌ عَلَى مَحْذوفٍ، والتَقْديرُ: فَيَمَّمَ شَطْرَ النَّارِ، فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ. وَ "لَمَّا" اسْمُ شَرْطٍ غَيْرِ جَازِمٍ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الزَّمانِيَّةِ، خافضٌ لِشَرْطِهِ، مُتَعَلِّقٌ بِجَوابِهِ. و "أَتَاهَا" فِعْلٌ ماضٍ مبنِيٌّ على الفتْحِ المُقدَّرِ على آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظهورِهِ عَلَى الأَلِفِ، وَفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى "مُوسَى" عليْهِ السَّلامُ، و "هَا" ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في محلِّ النَّصْبِ عَلى المَفْعُولِيَّةِ، وَالجُمْلَةُ: فِعْلُ شَرْطِ "لَمَّا" فِي مَحَلِّ الجَرِّ بِإِضافَةِ "لَمَّا" إِلَيْهَا.
قولُهُ: {نُودِيَ} نُودِيَ: فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ للمجهولِ (مُغَيَّرُ الصِّيغَةِ)، ونائبُ فاعِلِهِ: ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فِيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى "مُوسَى" عَلَيْهِ السَّلامُ، وَالجُمْلَةُ الفِعليَّةُ هَذِهِ جَوَابُ "لَمَّا" لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ، وَجْمْلَةُ "لَمَّا" مَعْطوفَةٌ عَلَى الجُمْلَةِ المَحْذوفَةِ المَذْكورَةِ آنِفًا
قولُهُ: {يَا مُوسَى} الياءُ: أداةُ نداءٍ للبعيدِ، و "موسي" مُنَادَى مُفْرَدُ العَلَمِ، مَبْنِيٌّ على الضَمِّ المُقَدَّرِ على آخِرِهِ لتعذُّرِ ظهورِهِ على الأَلِفِ، وَجُمْلَةُ النِّداءِ هّذِهِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ نائبُ فَاعِلٍ لِقَوْلٍ مَحْذوفٍ، والتَقْديرُ: نُودِيَ وَقِيلَ لَهُ يَا مُوسَى. وَقِيلَ: نائبُ الفاعلِ ضَمِيرُ المَصْدَرِ، أَيْ: نُودِيَ النِّداءَ. وَهُوَ قولٌ ضَعيفٌ، وقد مَنَعُوا أَنْ يَكونَ القائمُ مَقامَهُ جُمْلَةَ قوْلِهِ "يَا مُوسَى"؛ لِأَنَّ الفَاعِلَ لَا يَكونُ جُمْلَةً.