قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72).
قوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَات} قالَ سَحرةُ فِرْعَوْنَ: لَنْ نَخْتَارَكَ عَلى اللهِ، ولنْ نُفَضِّلَكَ بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَلَنْ نَخُصَّكَ بِالطاعَةِ وَالعِبَادَةِ دونَ اللهِ الذي فَطَرَنَا، بَعْدَ مَا عايَنَّا مِنَ البَيِّنَاتِ الدالَّةِ عَلَى أُلُوهِيَّةِ اللهِ ـ تَعَالى، وَرُبُوبِيَّتِهِ وَوُجوبِ طاعتِهِ، وَلَزُومِ عِبَادَتِهِ.
فكيفَ نُفضِّلُ طَاعَتَكَ وعِبادَتَكَ، وكيفَ نَخْتَارُ دِينَكَ وشَريعَتَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ طَاعَتِهِ تَعَالَى، أَيْ لَا نُؤْثِرُكَ فِي الرُّبُوبِيَّةِ عَلَى الَّذِي فَطَرَنَا. وَإنّما كانَ ذَلِكَ الجوابُ مِنْهم رَدًّا عَلى وَعِيدِهِ وتَهْديدِهِ لَهُمْ بالتقطيعِ والتَّصْليبِ والعَذَابِ الشَّدِيدِ ثمَّ قالَ: {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} الآيةَ: 71، السَّابقة. أَيْ: أَنَا أَمْ مُوسَى؟ فإِنَّ المَبَارَزَةَ في نَظَرِهِ كانتْ مَعَ مَوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، فوَاجَهُوهُ بِهَذِهِ الحَقِيقَةِ الَّتي اتَّضَحَتْ للجَميعِ، وهِيَ أَنَّ المُبارزَةَ هِيَ مَعَ آياتِ اللهِ البَيِّنَاتِ الَّتِي أُرْسِلَ بِهَا مُوسَى، وليسَتْ مَعَ مُوسَى شخصِيًّا، وَلَنْ نُفَضِّلَكَ عَلَى آياتِ اللهِ بعدَ أَنْ شاهَدْناها وَاضِحَةً بَيِّنَةً جلِيَّةً.
"لنْ نُؤْثِرِكَ" لَنْ نُفَضِّلَك، وَالإيثارُ: التَّفْضِيلُ قَالَ تَعَالَى مِن سُورةِ يوسُفَ ـ علِيْهِ السَّلامُ، وَذَلِكَ عَلَى لِسانِ إِخْوتِهِ: {لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا} الآية: 91. وَهُوَ تَفْضِيلُ شَيْءٍ عَلَى شَيْءٍ فِي مَجَالٍ مُتَسَاوٍ، وآثرَ فُلانٌ غيرَهُ عَلَى نَفْسِه في أَمْرٍ مَّا أَوْ شيْءٍ مَّا، فضَّلَهُ على نفسِهِ وقدَّمَ مَصْلَحتَهُ عَلى مَصْلحَةِ نفسِهِ، كَمَا قالَ تعالى منْ سُورةِ الحَشْرِ في مَعْرِضٍ الثَّناءِ عَلى الأنْصارِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم، مِنْ أَصْحابِ سيِّدِنا رَسولِ اللهِ ـ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حينَ أَحْسنُوا معاملةَ المُهاجرينَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، فقاسَموهم أموالَهُمْ وما يَمْلُكونَ، فقالَ: {وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} الآيةَ: 9.
و "الْبَيِّناتِ" الآياتِ التي عايَنُوهَا فِي عَصَا مُوسَى ـ علَيْهِ السَّلامُ، فقد تحولَّتْ إلى ثُعْبَانٍ حقيقيٍّ، ثمَّ ابْتَلَعَتْ حبالَهُمْ وعِصِيَّهُمْ كلَّها فاختفتْ مِنَ الوجودِ حقيقةً، ولمْ يعدْ لها وُجودٌ البتَّةَ، ثمَّ إنَّها عادتْ عصًا كما كانتْ وكأَنَّ شَيْئًا لمْ يَكُنْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهما: يُرِيدُ مِنَ الْيَقِينِ وَالْعِلْمِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُ: لَمَّا سَجَدُوا أَرَاهُمُ اللهُ فِي سُجُودِهِمْ مَنَازِلَهُمْ فِي الْجَنَّةِ، فَلِهَذَا قَالُوا: "لَنْ نُؤْثِرَك".
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ، قَالَ: لَمَّا وَقَعُوا سُجَّدًا رَأَوْا أَهْلَ النَّارِ وَأَهْلَ الْجَنَّةِ وَثَوابَ أَهْلِيهِمَا، فَقَالُوا: "لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ". واللهُ أَعْلَمُ.
قوْلُهُ: {وَالَّذِي فَطَرَنَا} يُقْسِمونَ عَلَى عدَمِ خوفهِمْ مِنْ فِرعونَ، وعَدَمَ مُبَالاتِهِم بِتَهديدِهِ ووعيدِهِ، وَشَديدِ عَذابِهِ، بِخَالِقِهِمْ ـ تَبَاركَ وَتَعَالَى، تأكيدًا لِثَبَاتِهِم عَلَى مَوقِفِهِم، وَتَيْئيسًا لِفِرْعَوْنَ مِنْ جَدْوَى ما يهدِّدُهُمْ بِهِ. فسُبحانَ مَنْ هداهم إِلَيْهِ، وقَذَفَ في قلوبِهِمِ هذا الإيمانَ القَوِيَّ بحيثُ تمكَّنَ مِنْ قُلوبِهِمْ وهَيْمَنَ عَلى مَشاعِرِهِم في وَقْتٍ قَصيرٍ جِدًّا، فَلْمْ يَعُودُوا يَعْبَؤُونَ بِفَرْعَوْنَ الذي كانَ يُرْعِبُهُم قَبْلَ قَليلٍ بِسَطْوَتِهِ وَجَبَرُوتِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ المعنى: وَلَنْ نُؤْثِرَكَ أَيْضًا عَلَى اللهِ الذي فَطَرَنَا. أَوْ: لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا من البينات، وَعَلى الذي فَطَرَنَا. وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى "مَا جَاءَنَا" وإِنَّما أُخِّرَ لِأَنَّ مَا فِي ضِمْنِهِ آيَةٌ عَقْلِيَّةٌ نَظَرِيَّةٌ، وَمَا شَاهَدوهُ آيَةٌ حِسِّيَّةٌ ظاهِرَةٌ، وذِكْرُهُمُ اللهَ تَعَالَى بِفَاطِرِيَّتِهِ لَهُمْ للإِشْعَارِ بِعِلَّةِ الحُكْمِ، فإِنَّ خَالِقِيَّتَهُ تَعَالَى لَهُمْ ولِفِرْعَوْنَ وغَيْرِهِ مِنَ المَخْلوقَاتِ مِمَّا يُوجِبُ عَدَمَ إِيثارِهِمْ لَهُ عَلى اللهِ الخالِقِ ـ سُبْحانهُ وَتَعَالَى. وَقَدِ اتَّضَحَ لَنَا عُمْقُ إِيمانِهم بِقَوْلِهِمْ مِنَ الآيَةِ: 70، السَّابِقَةِ: {آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} وَلَمْ يَقُولُوا: آمَنَّا بِهَارُونَ وَمُوسَى، لأَنَّهُمْ عَلِمُوا يَقِينًا أَنَّهُ ليسَ بوسِعِهما ولا بِوِسْعِ أَحَدٍ أَنْ يُحْدِثَ تَغْييرًا في جوْهَرِ الأَشْيَاءِ ـ كَالذي حَدَثَ للعَصا، غَيْرُ الذي خَلَقَ جَوْهَرَ الأَشْياءِ وَعَرَضَها.
قولُهُ: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} أَيْ: نَفَّذْ فِينا مَا حَكَمْتَ بِهِ عَلَيْنا مِنْ تَقْطيعِ الأَيْدي وَالأَرْجُلِ، أَوْ اقْضِ مَا شِئْتَ مِنْ أُمُورٍ أُخْرَى، وافْعَلَ بِنَا مَا تُريدُ، فَلَمْ تَعُدْ تُخِيفُنا هَذِهِ التَّهْديداتِ. قَالُوا ذَلِكَ إِمْعانًا مِنْهُم في الاسْتِهانَةِ بِفِرْعونَ، وَتَعْبِيرًا عَنْ ثباتِهِمْ، وإِظْهارًا للتَحَدِّي، وليسَ عَلى سبيلِ الأَمْرِ لَهُ بِأَنْ يُصْدِرَ ما يشاءُ مِنَ الأحكامِ بحقِهِم.
قوْلُهُ: {إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} اسْتِخْفَافٌ بعذابِ فِرْعَوْنَ، وَتَعْلِيلٌ لِعَدَمِ مُبالاتِهِم بقضائهِ فيهِمْ، بِأَنَّ قضاءَهُ إِنّما هوَ في هذِهِ الحياةِ الدنيا الزائلةِ آثارُها، والمُنْقَضِيَةِ أَحْكامُها، وَالقَصِيرَةِ آجالُها، فإنَّكَ مخلوقٌ يُمْكِنُ أَنْ يَمُوتَ فِي أَيِّ وَقْتٍ، فَمَا تَقْضِي إِلَّا مُدَّةَ حَيَاتِكَ وحَسْبُ، فقدْ يَأْتي بَعْدَكَ مَنْ هوَ أَفْضَلُ مِنْكَ، فَلَا يَدَّعِي مَا ادَّعَيْتَهُ أَنْتَ مِنَ الأُلُوهِيَّةِ والرُّبوبِيَّةِ. وفيهِ أَيْضًا إِشارةٌ إلى أَنَّهُمْ يَطْمَعُونِ فِيما عِنْدَ اللهِ ـ مَوْلاهُمُ الحَقُّ، مِنْ نعيمٍ دائمٍ مُقِيمٍ، وَحَيَاةٍ خالِدَةٍ في جَنَّاتٍ عَرْضُها السَّمواتُ والأرضُ، لَا زَوَالَ لِنَعِيمِها، وَلَا انْقِضاءَ لِآجَالِها. بَيْنَما نَعِيمُ الدُنْيا إِمَّا أَنْ تَفُوتَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَفوتَكُ.
قوْلُهُ تَعَالَى: {قَالُوا} فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِّ لِاتِّصالِهِ بِوَاوِ الجَمَاعَةِ، وواوُ الجَمَاعَةِ هَذا ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ، والأَلِفُ هي الفَارِقَةٌ، وَالجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ.
قوْلُهُ: {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَات} لَنْ: حرفٌ نَّاصِبٌ، وَ "نُؤْثِرَكَ" فِعْلٌ مُضارِعٌ منصوبٌ بِهِ، وَفَاعِلُهُ: ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (نحنُ) يَعُودُ عَلَى السَّحَرَةِ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى المفعوليَّةِ. و "عَلَى" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "نُؤْثِرَ"، و "ما" اسْمٌ موصولٌ بمعنى "الذي" مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الجرِّ بحرْفِ الجَرِّ، والجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ النّصْبِ بـ "قَالُوا". و "جَاءَنَا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفَتْحِ، وَفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلى "مَا" الموصولةِ. وضميرُ جماعةِ المتكلِّمينَ "نا" متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى المَفْعُولِيَّةِ. و "مِنَ" حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِحالٍ مِنْ فاعِلِ "جَاءَنَا"، و "الْبَيِّنَاتِ" مَجْرُورٌ بحرفِ الجَرِّ. وَالجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ صِلَةُ "مَا" المُوصًولةِ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.
قَوْلُهُ: {وَالَّذِي فَطَرَنَا} الواوُ: وَاوُ القَسَمِ، وَالمَوْصُولُ مُقْسَمٌ بِهِ. مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الجَرِّ بِوَاوِ القَسَمِ، الجَارُّ والمَجْرورُ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ قَسَمٍ مَحْذوفٍ، والتَقْديرُ: نُقْسِمُ وَالَّذِي فَطَرَنَا، وَجَوَابُ القَسَمِ: مَحْذوفٌ، والتقْديرُ: وَحَقِّ الذي فَطَرَنَا لَا نُؤْثِرَكَ عَلَى الحَقِّ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكونَ "لَنْ نُؤْثِرَكَ" هوَ الجوابَ عِنْدَ مَنْ يَجَوِّزُ تَقْديمَ الجَوَابِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُجابُ القَسَمُ بـ "لَنْ" إِلَّا فِي شَاذِّ الكَلامِ. وَجُمْلَةُ القَسَمِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لـ "قَالُوا". وَيَجُوزُ أَنْ تَكونَ الواوُ عَاطِفَةً، عَطَفَتْ المَوْصُولَ عَلَى "مَا جاءَنَا" أَيْ: لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى الَّذي جَاءَنَا، وَلَا عَلَى الذي فَطَرَنَا. وَإِنَّمَا أَخَّرُوا ذِكْرَ الفاطِرِ ـ سُبحانَهُ، لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ التَرَقِّي مِنَ الأَدْنَى إِلَى الأَعْلَى، وَ "الَّذِي" اسْمٌ مَوْصُولٌ فِي مَحَلِّ الجَرِّ عَطْفًا عَلَى "مَا". وَ "فَطَرَنَا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلى الفَتْحِ، وَفاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هوَ)، يعودُ عَلى "الذي"، و "نَا" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالمَفْعُولِيَّةِ، وَالجُمْلَةُ صِلَةُ المَوْصُولِ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {فَاقْضِ ما أَنْتَ قَاضٍ} الفاءُ: هيَ الفَصيحَةُ؛ أَفْصَحَتْ عَنْ جَوَابِ شَرْطٍ تَقديرُهُ: إِذَا عَرَفْتَ مَا قُلْنَا لَكَ، وَأَرَدْتَ بَيَانَ غَايَةِ مَا نَقُولُ لَكَ. فَنَقولُ: اقْضِ مَا أَنْتِ قاضٍ. و "اقْضِ" فِعْلُ أَمْرٍ مَبْنِيٌّ عَلى حذْفِ حَرْفِ العِلَّةِ مِنْ آخِرِهِ، وَفَاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تَقديرُهُ (أَنْتَ) يَعُودُ عَلَى "فِرْعَوْنَ"، وَ "مَا" الأَظْهَرُ أَنَّهَا مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى "الذي"، في محلِّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ، وَ "أَنْتَ" ضميرٌ مُنْفَصِلٌ مَبْنِيٌّ علىَ الفتْحِ في محلِّ الرَّفْعِ بالابْتِداءِ. و "قاضٍ" خبرُهٌ مرفوعٌ، وعَلامَةُ رفعِهِ حَذْفُ الياءِ مِنْ آخرِهِ لأنَّهُ اسْمٌ منقوصٌ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ، صِلَةُ "مَا" المَوْصُولَةِ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ، وَالعَائِدُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: قَاضِيهِ. وَجَازَ حَذْفُهُ، وإِنْ كانَ مَخْفُوضًا، لِأَنَّهُ مَنْصُوبُ المَحَلِّ. أَيْ: فَاقْضِ الذي أَنْتَ قاضِيْهِ. وَقال أبو البقاءِ العُكْبُريُّ: "مَا" مَصْدَرِيَّةٌ ظَرْفِيَّةً، والتَّقْديرُ: فَاقْضِ أَمْرَكَ مُدَّةَ مَا أَنْتَ قاضٍ. وَقَدْ مَنَعَ ذلكَ بَعْضُهُم لِأَنَّ: "ما" المَصْدَرِيَّةَ لَا تُوْصَلُ بالجُمْلَةِ الاسْمِيَّةِ. لكنَّ هَذَا المَنْعَ غيْرُ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ، بَلْ جَوَّزَهُ جَمَاعَةٌ كَثيرَةٌ مِنْ النُّحاتِ. وَنَقَلَ ابْنُ مَالِكٍ أَنَّ ذَلِكَ يَكْثُرُ إِذَا دَلَّتْ "ما" عَلَى الظَرْفِيَّةِ، وَأَنْشَدَ على ذلكَ قولَ الشاعِرِ:
واصِلْ خليلَكَ مَا التواصُلُ مُمْكِنٌ ....... فَلأَنْتَ أَوْ هُوَ عن قليلٍ ذاهِبُ
وَيِقلُّ إنْ كانَتْ غَيْرَ ظَرْفِيَّةٍ. وَأَنَشَدَ عليْهِ قولَ الكُمَيْتِ بْنِ زَيْدٍ الأَسَدِيِّ يَمْدَحُ أَهْلَ البَيْتِ:
أحْلامُكُمْ لِسَقَامِ الجَهْلِ شافيةٌ .......... كما دِماؤُكُمُ تَشْفي مِن الكَلَبِ
وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقَولُ القولِ لِجَوابِ "إِذا" المُقَدَّرَةِ، وَجُمْلَةُ إِذَا المُقَدَّرَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ عَلى كَوْنِهَا مَقُولًا لِـ "قَالُوا".
قوْلُهُ: {إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} إِنَّمَا: أَدَاةُ حَصْرٍ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكونَ "مَا" فِي "إِنَّمَا" مَصْدَرِيَّةً، وَيَجُوزُ فِي "ما" هَذِهِ أَنْ تَكونَ المُهَيِّئَةَ لِدُخُولِ "إِنَّ" عَلَى الفِعْلِ، وَ "الحياةَ الدنيا" ظَرْفٌ لـ "تَقضي"، وَمَفْعُولُهُ مَحْذوفٌ، أَيْ: تَقْضِي غَرَضَكَ وَأَمْرَكَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكونَ "الحياةَ" مَفْعُولًا بِهِ عَلَى الاتِّساعِ، يَدُلُّ لِذَلِكَ قراءةُ أَبي حَيَوَةَ "تُقْضَى هَذِهِ الحَيَاةُ" بِبِنَاءِ الفِعْلِ للمَفْعُولِ، وَرَفْعِ "الحَيَاةِ" لِقِيامَهَا مَقَامَ الفاعِلِ؛ وَذَلِكَ أَنَّه اتُّسِعَ فِيهِ فَقَامَ مقامَ الفَاعِلِ فَرُفِعَ. ويَجوزُ أَنْ تَكونَ "مَا" مَصْدَرِيَّةً هِيَ اسْمُ "إِنَّ"، وَالخَبَرُ هوَ الظَّرْفُ. وَالتَقْديرُ: إِنَّ قَضَاءَكَ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، يَعْنِي: إِنَّ لَكَ الدُّنْيَا فَقَطَ، أمَّا الآخِرَةُ فهي لَنَا.
وَقال أَبو البَقَاءِ العُكْبُريُّ: فإِنْ كانَ قَدْ قُرِئَ بِالرَّفْعِ فَهُوَ خَبَرُ إِنَّ. يَعْني لَوْ قُرِئَ بِرَفْعِ "الحياة" لَكَانَ خَبَرًا لـ "إِنَّ" وَيَكونُ اسْمُهَا حِينَئِذٍ "ما"، وَهِيَ اسمٌ مَوْصُولٌ بِمَعْنَى "الذي"، وَعائِدُها مَحْذوفٌ والتقديرُ: إِنَّ تَقْضِيهِ هَذِهِ الحَيَاةُ لَا غَيْرُها. و "تَقْضِي" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازمِ، وعلامةُ رفعِهِ ضمَّةٌ مُقدَّرةٌ عَلى آخِرِهِ لتَعَذُّرِ ظهورِها على الأَلِفِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنْتَ) يَعودُ عَلَى "فِرْعَوْنَ"، والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بالقوْلِ لـ "قَالُوا". و "هَذِهِ" الهاءُ: للتنبيهِ، و "ذهِ" اسمُ إشارةٍ مبنيٌّ على الكَسْرِ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الزمانيَّةِ، مُتَعَلِّقٌ بِـ "تَقْضِي". و "الْحَيَاةَ" منصوبٌ على أنَّهُ بَدَلٌ مِنِ اسْمِ الإِشَارَةِ. و "الدُّنْيَا" صِفَةٌ لِـ "الْحَيَاةَ" منصوبةٌ مِثْلُها، وَمَفْعُولُ "تَقْضِي" مَحْذوفٌ والتقديرُ، إِنَّمَا تَقْضِي غَرَضَكَ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، ويَجُوزُ أَنْ تَكونَ "الْحَيَاةَ" مَفْعُولًا بِهِ عَلَى الاتِّسَاعِ ـ كَمَا تقدَّمَ، وَجُمْلَةُ "تَقْضِي" مَعَ "مَا" فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَنْصوبٍ عَلَى كَوْنِهِ اسْمَ "إِنَّ" وَخَبَرُها الظَّرْفُ، وَالتَقْديرُ: إِنَّ قَضَاءَكَ كَائِنٌ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيا فَقَطْ، بِمَعْنَى إِنَّ لَكَ الدُّنْيَا فَقَطْ، وَلَنَا الآخِرَةُ. وَيَجُوزَ أَنْ تَكونَ مَوْصُولَةً في محلِّ النَّصْبِ اسِمَ "إِنَّ" والعائدُ مَحْذوفٌ؛ والتقديرُ: إِنَّ الذي تَقْضِيهِ كائنٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا. واللهُ أعلمُ.