الموسوعةُ القرآنيةُ (فيضُ العليم مِن معاني الذكْر الحكيم) سورةُ (طه) الآية: 14
إِنَّنِي أَنَا اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)
قَوْلُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {إِنَّنِي أَنَا اللهُ} أَيْ: تَقَدَّسْتُ فِي أَزلي، وتَنَزَّهْتُ، عَنِ الأَعْلالِ والأَشْكَالِ، وذَلِكَ باسْتِحْقَاقي لِجَلالِي وَجَمَالِي، فَأَنَا الواحدُ الأحَدُ الفَرْدُ المُتكَبِّرُ المُتَعالي.
وَهَذَا هوَ مَضْمُونُ قوْلِهِ تَعَالى فِي الآيَةِ: 13، الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى}، وَهَذَا هُوَ الَّذي أُمِرَ بِاسْتِمَاعِهِ سَيُّدُنا مُوسَى عَبْدُ اللهِ وَنَبِيُّهُ ورسُلُهُ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، حِينَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ في {الوادي المُقدَّسِ طُوى}، فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ بَدَلٌ مِنْ {مَا يُوحَى}، بَدَلًا مُطْلَقًا.
فقدْ أَخْبَرَ عَنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ "أَنَا" بِاسْمِهِ الْعَلَمِ "اللهُ" الدَّالِّ عَلَى الذَّاتِ الْوَاجِبِ الْوُجُودِ، الْمُسْتَحِقِّ لِجَمِيعِ الْمَحَامِدِ مِنْ كُلِّ "مَنْ"، وَ "مَا" هوَ مَوجودٌ.
وَقَدْ أُكِّدَتِ الْجُمْلَةُ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ "إنَّ" لِدَفْعِ أَيِّ شَكٍّ قَدْ يُداخِلُ نفسَ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ. وَهَذَا هُوَ أَوَّلُ مَا يَجِبُ عَلَى المُكَلَّفِ عِلْمُهُ مِنْ شُؤُونِ الْإِلَهِيَّةِ. وَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ الِاسْمَ الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ عَلَمًا عَلَيْهِ، لِأَنَّ هَذَا العِلْمَ هُوَ الْأَصْلُ لِجَمِيعِ مَا سَيُخَاطَبُ بِهِ العِبَادُ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُبَلَّغَةِ عَنْ رَبِّهِمْ ـ تباركَتْ أَسْماؤهُ، وجَلَّتْ صِفاتُهُ. أَمَّا تَوْسِيطُ ضَمِيرَ الْفَصْلِ "أَنَا" بِقَوْلِهِ "إِنَّنِي أَنَا اللهُ" فهو لِزِيَادَةِ تَقْوِيَةِ الْخَبَرِ، وَلَيْسَ بِمُفِيدٍ لِلْقَصْرِ، إِذْ لَا مُقْتَضَى لَهُ هُنَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْإِخْبَارُ بِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ هُوَ الْمُسَمَّى اللهُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَة: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} الآيةَ: 72. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ أَوَّلَ مَا يَجِبُ أَنْ يَتَعَارَفُ بِهِ الْمُتَلَاقُونَ، وَهُوَ أَنْ يُعْرِفُوا بِأَسْمَائهُمْ، فَقد أَشَارَ اللهُ ـ تعالى، إِلَى أَنَّهُ عَالِمٌ بَاسِمِ كَلِيمِهِ، فَكانَ أَولَ الحديثِ أَنْ نَادَاهُ: {يَا مُوسَى}، ثُمَّ أَعْلَمَ كَلِيمَهُ بِاسْمَهُ، فقال ـ عَزَّ مِنْ قائلٍ ـ "إِنَّنِي أَنَا اللهُ"، ثُمَّ عرَّفَهُ بأَحَقِّ وَصْفِهِ ـ وَأَوْصَافُهُ حَقٌّ كُلُّهَا، فقَالَ ـ جلَّ مِنْ قائلٍ: "لَا إِلَهَ إلَّا أنَا".
وَهَذَا الِاسْمُ "اللهُ" هُوَ عَلَمُ الرَّبِّ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ. وَمَّا فِي اللُّغَةِ الْعَبْرَانِيَّةِ فإنَّ اسْمَهُ: (يَهْوَهْ)، أَوْ (أَهْيَهْ) ذُكِرُ هذا فِي الْإِصْحَاحيْنِ الثَّالِثِ والسَّادِسِ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ فِي (التَّوْرَاةِ). وَقَدْ ذُكِرَ اسْمُ "اللهِ" فِي مَوَاضِعَ أَخَرَ مِنَ التَّوْرَاةِ كَمَا في الْفَقْرَة الثَّامِنَة عَشْرَةَ ـ الإِصْحَاحَ الْحَادِيَ وَالثَلَاثِينَ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ، وَالْفِقْرَةِ السَّادِسَةَ عَشَرَةَ الإصْحاحَ الثَّانِي وَالثَّلَاثِينَ مِنْهُ.
قوُلُهُ: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} خَبَرٌ ثَانٍ عَنِ اسْمِ "إِنَّ". وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ حُصُولُ الْعِلْمِ لِمُوسَى بِوَحْدَانِيَّةِ اللهِ تَعَالَى. فَإِنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللهِ مَفْقُودٌ في وُجُودِ اللهِ، وَكُلَّ الأَطْلالَ والرُّسُومِ مَمْحوَّةٌ عِنْدَ تِجَلِيهِ. وهذِهِ شَهادَةٌ لا يَنْجُو المرْءُ مِنْ عَذابِ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ إِلَّا إِذا قالَهَا، وَشَهِدَهَا، وأَقَرَّ بِهَا، واعْتَقَدَ جازِمًا بِهَا، فلمْ يخالِطْها شَكٌّ ولا لم يمازِجْها رَيْبٌ. فَقَدْ أَخرج أَبُو الشَّيْخ رَحِمَهُ اللهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاس ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((مَكْتُوبٌ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ: إِنَّنِي أَنَا اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا، لَا أُعَذِّبُ مَنْ قَالَهَا)).
وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، عَن عَليِّ بْنِ أَبي طَالِبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ جِبْرِيلَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ: قَالَ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ: "إِنَّنِي أَنَا اللهُ لَا إِلَهُ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي" مَنْ جَاءَنِي مِنْكُم بِشَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ بِالإِخْلاصِ، دَخَلَ حِصْنِي، وَمَنْ دَخَلَ حِصْنِي أَمِنَ عَذَابي.
وهَذِهِ الآيَةُ هِيَ التي هَزَّتْ كَيَانَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ جَبَّارِ الجَاهِلِيَّةِ، فَأَخْرَجَتِ الشِّرْكَ مِنْ قَلْبِهِ، وأَضاءَتْهُ بِنُورِ الإيمانِ، واسْتَقَرَّتْ فيهِ.
فقدْ أَخْرَجَ ابنُ شيبةَ في ابْنُ سَعْدٍ في طبقاتِهِ، وَأَبُو يَعْلَى في مُسْنَدِهِ، وَالْحَاكِمُ في مُسْتَدْرَكِهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي (دَلَائِلِ النَّبوَّةِ)، والضياءُ المَقدِسِيُّ، في مختاراتِه، وابْنُ شَبَّةَ في تاريخِ المَدينةِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: "خَرَجَ عُمَرُ مُتَقَلِّدًا السَّيْفَ، فَلَقِيَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُهْرَةَ قَالَ: أَيْنَ تَعْمَدُ يَا عُمَرُ؟ فَقَالَ: أُرِيدُ أَنْ أَقْتُلَ مُحَمَّدًا، قَالَ: وَكَيْفَ تَأْمَنُ فِي بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي زُهْرَةَ وَقَدْ قَتَلْتَ مُحَمَّدًا؟. قَالَ فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَرَاكَ إِلَّا قَدْ صَبَوْتَ وَتَرَكْتَ دِينَكَ الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ. قَالَ: أَفَلَا أَدُلُّكَ عَلَى الْعَجَبِ يَا عُمَرُ؟ إِنَّ خَتَنَكَ وَأُخْتَكَ قَدْ صَبَوَا وَتَرَكَا دِينَكَ الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ. قَالَ: فَمَشَى عُمَرُ ذَامِرًا حَتَّى أَتَاهُمَا، وَعِنْدَهُمَا رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ يُقَالُ لَهُ خَبَّابٌ، قَالَ: فَلَمَّا سَمِعَ خَبَّابٌ حِسَّ عُمَرَ تَوَارَى فِي الْبَيْتِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِمَا، فَقَالَ: مَا هَذِهِ الْهَيْنَمَةُ الَّتِي سَمِعْتُهَا عِنْدَكُمْ؟ قَالَ: وَكَانُوا يَقْرَؤُونَ (طَهَ)، فَقَالَا: مَا عَدَا حَدِيثًا تَحَدَّثْنَاهُ بَيْنَنَا، قَالَ: فَلَعَلَّكُمَا قَدْ صَبَوْتُمَا، قَالَ: فَقَالَ لَهُ خَتَنُهُ: أَرَأَيْتَ يَا عُمَرُ إِنْ كَانَ الْحَقُّ فِي غَيْرِ دِينِكَ؟. قَالَ فَوَثَبَ عُمَرُ عَلَى خَتَنِهِ فَوَطِئَهُ وَطْئًا شَدِيدًا، فَجَاءَتْ أُخْتُهُ فَدَفَعَتْهُ عَنْ زَوْجِهَا، فَنَفَحَهَا بِيَدِهِ نَفْحَةً فَدَمَّى وَجْهَهَا، فَقَالَتْ وَهِيَ غَضْبَى: يَا عُمَرُ، أَنْ كَانَ الْحَقُّ فِي غَيْرِ دِينِكَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، فَلَمَّا يَئِسَ عُمَرُ قَالَ: أَعْطُونِي هَذَا الْكِتَابَ الَّذِي عِنْدَكُمْ فَأَقْرَأَهُ ـ قَالَ: وَكَانَ عُمَرُ يَقْرَأُ الْكُتُبَ، فَقَالَتْ أُخْتُهُ: إِنَّكَ رِجْسٌ، وَ {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} الآية: 79، مِنْ سورةِ الواقعة، فَقُمْ فَاغْتَسِلْ أَوْ تَوَضَّأْ، قَالَ: فَقَامَ عُمَرُ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ أَخَذَ الْكِتَابَ فَقَرَأَ {طَهَ}، حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ: {إِنَّنِي أَنَا اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعَبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي" الآيةَ: 14، قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: دُلُّونِي عَلَى مُحَمَّدٍ. فَلَمَّا سَمِعَ خَبَّابٌ قَوْلَ عُمَرَ خَرَجَ مِنَ الْبَيْتِ، فَقَالَ: أَبْشِرْ يَا عُمَرُ، فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ تَكُونَ دَعْوَةُ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَكَ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ: ((اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَوْ بِعَمْرِو بْنِ هِشَامٍ)) قَالَ: وَرَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي الدَّارِ الَّتِي فِي أَصْلِ الصَّفَا، فَانْطَلَقَ عُمَرُ حَتَّى أَتَى الدَّارَ، قَالَ: وَعَلَى بَابِ الدَّارِ حَمْزَةُ، وَطَلْحَةُ، وَأُنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَأَى حَمْزَةُ وَجَلَ الْقَوْمِ مِنْ عُمَرَ قَالَ حَمْزَةُ: نَعَمْ، فَهَذَا عُمَرُ، فَإِنْ يُرِدِ اللهُ بِعُمَرَ خَيْرًا يُسْلِمْ، وَيَتَّبِعِ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ يُرِدْ غَيْرَ ذَلِكَ يَكُنْ قَتْلُهُ عَلَيْنَا هَيِّنًا. قَالَ: وَالنَّبِيُّ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلَامُ، دَاخِلٌ يُوحَى إِلَيْهِ. قَالَ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ أَتَى عُمَرُ، فَأَخَذَ بِمَجَامِعِ ثَوْبِهِ، وَحَمَائِلِ السَّيْفِ، فَقَالَ: ((أَمَّا أَنْتَ مُنْتَهِيًا يَا عُمَرُ حَتَّى يُنْزِلَ اللهُ بِكَ مِنَ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ مَا أَنْزَلَ بِالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، اللَّهُمَّ هَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، اللَّهُمَّ أَعِزَّ الدِّينَ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ)) قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ، فَأَسْلَمَ وَقَالَ: اخْرُجْ يَا رَسُولَ اللهِ".
قوُلُهُ: {فاعْبُدْني} أَيْ فأَطِعْني في كلِّ ما آمُرُكَ بِهِ وأَنْهَاكَ عَنْهُ، ولا تَجْعَلْ قَلْبَكَ يَتَعَلِّقْ بِغَيْري، واعتمدْ في أُمُورِكَ كُلِّها عَلَيَّ دونَ سِوَايَ، فإِنَّ الجميعَ خلقٌ مِنْ خلقي كما أَنْتَ خلقٌ مِنْ خَلْقِي، والخيرُ كلُّهُ عِنْدِي، أَقْسِمُهُ بينَ مخلوقاتي كما أشاءَ، فَالنَّفْعُ كما الضَرُّ بَيَدي أُصيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وأَصْرِفُهُ عمَّنْ أَشاءُ، وَأَنا المَعْبُودُ الذي لَا تَصْلُحُ العِبَادَةُ إِلَّا لَهُ، فَلَا تَعْبُدْ غَيْرِي، فإنَّ العِبَادَةَ لا تَصْلُحُ لِسِوَاي، فَأَخْلِصْها لِيَ وَحْدي، وَكُلُّ مَنْ دُونِي فهوَ عبدٌ لِي، وأَنا المَخْصُوصُ بالعَبَادَةِ كما أَنّي مُخْتَصٌّ بِالأُلُوهِيَّةِ، فَأَنْفِذْ أَمرِي، وَاخْضَعْ لِجَبَرُوتِ سُلْطاني، وَتَذَلَّلْ لِحُكْمي.
قوُلُهُ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} خُصَّتِ إِقَامَةُ الصلاةِ بالذِكْرِ مِنَ بينِ الْعِبَادَاتِ، لِأَنَّها تَجْمَعُ كُلَّ أَحْوَالِ الْعِبَادَةِ. وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ: إِدَامَتُهَا، وعَدَمُ الْغَفْلَةِ عَنْهَا. وَمِنْ إِقامَتِهَا مُلاحَظَةُ مَعَانِيهَا، وحُضُورُ القَلَبِ فِيها، وشُهُودُ الحَقِّ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالى، في كلِّ مَا يَقُولُهُ وَيَفْعُلُهُ مُؤَدِّيها، فإذا أَقَامَ العَبْدُ صَلاتَهُ عَلَى نَعْتِ الشُّهودِ، وَالوُقوفِ عَلَى مَحَلِّ النَّجْوَى، وَالْتَحَقُّقِ بِخَصاِئصِ القُرْبِ وَالزُلْفَةِ، كانَ لَهَا مُقِيمًا، وصارَ لَهَا مُديما، وحَصَّلَ في الآخرةِ، جنَّةً ونَعِيمًا، جَعَلَنَا اللهُ مِنْ أَهْلِهَا، إنَّهُ مُحْسِنٌ كَريم.
إِنَّ أَوَّلَ وَاجِبٍ عَلَى الْمُكَلَّفِ هُوَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى وَاحِدٌ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ، ولا نِدَّ لَهُ ولَا شَرِيكَ، وَهُوَ خَالِقُ المَخْلُوقَاتِ ورَبُّهَا، وَالمُتَصَرِّفُ فِيهَا، فَقُمْ بِعِبَادَتِهِ يَا مُوسَى مِنْ غَيْرِ أَنْ تُشْرِكَ معَهُ أَحَدًا، وَأَقِمِ الصَّلاَةَ و أَدِّها عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ كَمَا أَمَرَكَ رَبُّكَ، دُونَ الإخلالِ بأَيِّ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِهَا، لِتَذْكُرَ رَبَّكَ بِهَا وَفيها، وَلِتَدْعُوهُ دُعاءً خَالِصًا مِنْ كُلِّ شِرْكٍ.
وَقَدْ انقسَمَ عُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ إِلَى فَريقَيْنِ فِي تَأْويلِ قَوْلِهِ تَعَالَى "لِذِكْرِي"، فَذَكَرَوا لَهَا وَجْهَانِ:
أَوَّلُهُمَا: أَنَّ المَعْنَى: أَقِمِ الصَّلاةَ مَتَى ذَكَرْتَ أَنَّ عَلَيْكَ صَلَاةً، سواءً أَكُانَ فِي وَقْتهَا أَوْ غيرِهِ، أَيْ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تُسْقِطِ بِالنِّسْيَانِ ـ وَهُوَ الذي عَلَيْهِ عَامَّةُ أَهْلِ العِلْمِ، وَانْظُرْ إِنْ شِئْتَ: "جَامِعُ البَيَان" للطَّبَرِيِّ: (16/112)، و "بَحْرُ العلومِ" لِأَبي حَيَّانَ الأندلُسِيِّ: (2/338)، و "النُّكَتُ والعُيُونُ": للمَاوَرْدِيِّ: (3/397)، و "مَعَالِم التَنْزيل" للبَغَوِيِّ: 5/ 267، و "زادُ المَسير" لابْنِ الجوزيِّ: (5/275)، و "تفسيرُ القرآنِ العَظِيمِ" لِابْنِ كَثيرٍ: (3/160).
يُؤيِّدُ هَذا الوجْهَ مَا أَخرجَهُ الإمامُ أَحْمَدُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((مَنْ نَسِيَ صَلاَةً، أَوْ نَامَ عَنْهَا، فَإِنَّ كَفَّارَتَهَا أَنْ يُصَلِّيَهَا إِذَا ذَكَرَهَا)). أَخْرَجَهُ الأئمَّةُ: أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ: (3/100، برقم: 11995) وَغيرِهِ، والدارِمِيُّ: (1229)، والبُخَاريُّ: (1/155(597)، ومُسْلم: (2/142(1512)، وأَبو داوُد: (442)، وابْنُ مَاجَةَ: (695)، والتِّرْمِذِيُّ: (178)، وَالنَّسَائيُّ: (1/293)، وَابْنُ خُزَيْمَةَ: (991).
ثانيهما: أَنَّ مَعناهُ: أَقِمِ الصَّلاةَ لِتَذْكُرَني؛ لأَنَّ الصَّلاةَ لَا تَكونُ إِلَّا بِذِكْرِ اللهِ تَعَالى. وَهُو قَوْلُ الحَسَنِ البَصْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَذَكَرَتْ بعضُ كُتُبِ التَفْسِيرِ نَحْوَ ذَلِكَ دُونَ أَنْ تَنْسِبَهُ لأَحَدٍ. انْظُرْ إِنْ شِئْتَ: تَفْسيرَ "جَامِعُ البَيَانِ للطَّبَرِي": (16/148)، و "المُحَرَّرُ الوَجِيزُ" لِابْنِ عَطِيَّةَ: (10/11)، و "النُّكَتُ والعُيُونُ" للمَاوَرْدِيِّ: (3/397)، و "الكَشَّافُ" للزَّمَخشَريِّ: (2/532)، وَ "زادُ المَسيرِ" لابْنِ الجَوْزِيِّ: (5/275).
وقريبٌ مِنْهُ قَوْلُ مُجاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فإنَّهُ قالَ: (إِذَا صَلَّى عَبْدٌ ذَكَرَ رَبَّهُ). وانْظُرْ أَيْضًا تَفْسِيرَ "جامِعُ البَيَانِ" للطَبَريِّ" (16/148)، و "النُّكَتُ والعُيُونُ" للماوَرْدِيِّ: (3/397)، وَ "مَعَالِمُ التَنْزيلِ" للبَغَويِّ: (5/267)، وَ "الدُّرُ المَنْثُورُ" للإمامِ السُّيُوطِيِّ: (4/524).
وَهو ما اخْتَارَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ في كِتَابِهِ المُسَمَّى "تَفْسيرُ غَريبِ القَرْآنِ": (2/
، حَيْثُ قَالَ: المَعْنَى (لِتَذْكُرَنِي فِيهَا). وَعَلَيْهِ فَاللَّامُ هِيَ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ أَقِمِ الصَّلَاةَ لِأَجْلِ أَنْ تَذْكُرَنِي، لِأَنَّ الصَّلَاةَ تُذَكِّرُ الْعَبْدَ بِخَالِقِهِ. إِذْ يَسْتَشْعِرُ أَنَّهُ وَاقِفٌ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ لِمُنَاجَاتِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّامُ أَيْضًا لِلتَّوْقِيتِ، أَيْ أَقِمِ الصَّلَاةَ عِنْدَ الْوَقْتِ الَّذِي جَعَلْتُهُ لِذِكْرِي. فَفِي الْكَلَامِ إِيمَاءٌ إِلَى مَا فِي أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ مِنَ الْحِكْمَةِ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ يُعْلَمُ مِنَ السِّيَاقِ.
وَيَجُوزُ أَن يكون الذِّكْرُ بِمَعْنى التَّذَكُّر بِالْعَقْلِ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذا الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ، لِأَنَّ ذِكْرَ اللِّسَانِ يُحَرِّكُ ذِكْرَ الْقَلْبِ وَيَشْتَمِلُ عَلَى الثَّنَاءِ عَلَى اللهِ وَالِاعْتِرَافِ بِمَا لَهُ مِنَ الْحَقِّ، أَيِ الَّذِي عَيَّنْتُهُ لَكَ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يكونَ المُرَادُ مِنْ قولِهِ تَعَالى: "وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي" لِأَذْكُرَكَ بِالْمَدْحِ فِي عِلِّيِّينَ على هَذِهِ الصَّلاةِ، فَالْمَصْدَرُ عَلَى هَذَا يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ إِلَى الْفَاعِلِ وَإِلَى الْمَفْعُولِ.
وَفي هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى عَظَيمِ قَدْرِ الصَّلَاةِ، فَهِيَ قِيَامٌ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ تَعَالَى، وَتَضَرُّعٌ إِلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا فَالصَّلَاةُ هِيَ الذِّكْرُ. فَقَدْ سَمّاها ذِكْرًا فِي قَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ الجمعةِ: {فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ} الآيةَ: 9.
وَفِي هَذَا الْكَلَامِ إِيمَاءٌ إِلَى حِكْمَةِ مَشْرُوعِيَّةِ الصَّلَاةِ وَبِضَمِيمَتِهِ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى في الآيةِ: 45، مِنْ سُورةِ العنكبوت: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ}. والتَّقْوَى مِنْ حِكْمَةِ مَشْرُوعِيَّةِ الصَّلَاةِ كَما يَظْهَرُ مِنَ هَذِهِ الآيةِ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ إِذَا ذَكَرَ أَمْرَ اللهِ وَنَهْيَهُ، نَفَّذَ ما أَمَرَهُ بِهِ وَاجْتَنَبَ ما نَهاهُ عَنْهُ مِنَ الفحشاءِ والمُنْكَرِ. وَقدْ عَرَّفَ اللهُ نَبِيَّهُ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، بِحِكْمَةَ الصَّلَاةِ مُجْمَلَةً، بَيْنَمَا عَرَّفَهَا لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ـ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلامُ، مُفَصَّلَةً.
وفي الآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى النَّائِمِ وَالْغَافِلِ، كَثُرَتِ الصَّلَاةُ أَوْ قَلَّتْ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَقَدْ حُكِيَ خِلَافٌ شَاذٌّ لَا يُعْتَدُّ بِهِ، لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِنَصِّ الْحَدِيثِ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ فِيمَا زَادَ عَلَى خَمْسِ صَلَوَاتٍ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءٌ. فقَدْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَنَصَّ عَلَى أَوْقَاتٍ مُعَيَّنَةٍ، فَقَالَ: "أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ" الْآيَةَ وَغَيْرَهَا مِنَ الْآيِ. وَمَنْ أَقَامَ بِاللَّيْلِ مَا أُمِرَ بِإِقَامَتِهِ بِالنَّهَارِ، أَوْ بِالْعَكْسِ لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ مُطَابِقًا لِمَا أُمِرَ بِهِ، وَلَا ثَوَابَ لَهُ عَلَى فِعْلِهِ وَهُوَ عَاصٍ، وَعَلَى هَذَا الْحَدِّ كَانَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا فَاتَ وَقْتُهُ. وَلَوْلَا قَوْلُهُ ـ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ((مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا)) المُتَقَدِّمُ، لَمْ يَنْتَفِعْ أَحَدٌ بِصَلَاةٍ وَقَعَتْ فِي غَيْرِ وَقْتِهَا، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ كَانَ قَضَاءً لَا أَدَاءً، لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِأَمْرٍ مُتَجَدِّدٍ وَلَيْسَ بالأَمْرِ الأَوَّلِ.
فَأَمَّا مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُتَعَمِّدًا، فَالْجُمْهُورُ أَيْضًا عَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا إِلَّا دَاوُدَ. وَوَافَقَهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَشْعَرِيُّ الشَّافِعِيُّ، حَكَاهُ عَنْهُ ابْنُ الْقَصَّارِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُتَعَمِّدِ وَالنَّاسِي وَالنَّائِمِ، حَطُّ الْمَأْثَمِ، فَالْمُتَعَمِّدُ مَأْثُومٌ وَجَمِيعُهُمْ قَاضُونَ. وَالْحُجَّةُ لِلْجُمْهُورِ قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورةِ الأنعام: {أَقِيمُوا الصَّلاةَ} الآيةَ: 72، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي وَقْتِهَا أَوْ بَعْدِه. هوَ أَمْرٌ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ. وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ الْأَمْرُ بِقَضَاءِ النَّائِمِ وَالنَّاسِي، مَعَ أَنَّهُمَا غَيْرُ مَأْثُومَيْنِ، فَالْعَامِدُ أَوْلَى. وَأَيْضًا قَوْلُهُ: (مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا) وَالنِّسْيَانُ التَّرْكُ، قَالَ اللهُ تعالى: {نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ} الآيةَ: 67، مِنْ سورةِ التَّوْبَةِ، وقالَ مِنْ سورةِ الحشْرِ: {نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ} الآيةَ: 19، سَوَاءٌ كَانَ مَعَ ذُهُولٍ، أَوْ لَمْ يَكُنْ، لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَنْسَى. وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ تَرَكَهُمْ. وَقالَ مِنْ سورةِ البقرة: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها} الآية: 106، أَيْ نَتْرُكْهَا. وَكَذَلِكَ فإنَّ الذِّكْرَ إنَّما يَكُونُ بَعْدَ نِسْيَانٍ، وَبَعْدَ غَيْرِهِ. لقَولِهِ تَعَالَى في الحديثِ القُدْسيِّ: (مَنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي) وَهُوَ تَعَالَى لا يَنْسَى فَيَكونَ ذِكْرُهُ بَعْدَ نِسْيَانٍ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ عَلِمْتُ. فَكَذَلِكَ يَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ: (إِذَا ذَكَرَهَا) أَيْ إذا عَلِمَهَا.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الدُّيُونَ التي للآدَمِيينَ فيما بينهم، إِذَا كَانَتْ مُتَعَلِّقَةً بِوَقْتٍ، ثُمَّ جَاءَ الْوَقْتُ لَمْ يَسْقُطْ قَضَاؤُهَا بَعْدَ وُجُوبِهَا، وَهِيَ مِمَّا يُسْقِطُهَا الْإِبْرَاءُ كَانَ فِي دُيُونِ اللهِ تَعَالَى أَلَا يَصِحُّ فِيهَا الْإِبْرَاءُ أَوْلَى أَلَّا يَسْقُطَ قَضَاؤُهَا إِلَّا بِإِذْنٍ مِنْهُ. وَأَيْضًا فَقَدِ اتَّفَقْنَا أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا بِغَيْرِ عُذْرٍ لَوَجَبَ قَضَاؤُهُ، فَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ.
فَإِنْ قِيلَ: رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ: مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُتَعَمِّدًا لَا يَقْضِي أَبَدًا. فَالْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ مَا مَضَى لَا يَعُودُ، أَوْ يَكُونُ كَلَامًا خَرَجَ عَلَى التَّغْلِيظِ، كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عنهُما: أَنَّ مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ عَامِدًا لَمْ يُكَفِّرْهُ صِيَامُ الدَّهْرِ وَإِنْ صَامَهُ. وَمَعَ هَذَا فَلَا بُدَّ مِنْ تَوْفِيَةِ التَّكْليفِ حَقَّهُ بإِقامَةِ القَضَاءِ مَقَامَ الأَداءِ، وإِتْباعِهِ بِالتَّوْبَةِ، وَيَفْعَلُ اللهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَشَاءُ. وَقَدْ رُوِيَ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: ((مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ رُخْصَةٍ رَخَّصَهَا اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ، لَمْ يَقْضِ عَنْهُ صِيَامُ الدَّهْرِ وَإِنْ صَامَهُ)). أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: (7475)، وابْنُ أَبي شَيْبَةَ: (3/105(9783)، وأحمد: (2/442(9704)، والدارِمِيُّ: (1714)، وابْنُ مَاجَةَ: (1672)، والتِّرمِذي: (723)، والنَّسائيُّ في "الكبرى": (3265). وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ لَوْ صَحَّ كَانَ مَعْنَاهُ التَّغْلِيظَ، وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ وغيرُهُ. بَيْنَمَا جَاءَتِ الْكَفَّارَةُ بِأَحَادِيثَ صِحَاحٍ، وَفِي بَعْضِهَا قَضَاءُ الْيَوْمِ، وَالْحَمْدُ للهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ ـ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ((مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا ..)) الذي تَقَدَّمَ تَخْريجُهُ، فَهُوَ يُخَصِّصُ عُمُومَ قَوْلِهِ ـ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ((رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ، عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ)). أَخْرَجَهُ الأئمَّةُ: أَحْمَدُ (6/144، برقم: 25157)، وَأَبو داودَ: (4/139، برقم: 4398)، والنَّسَائيُّ: (6/156، برقم: 3432)، وابْنُ مَاجَهْ: (1/658، برقم: 2041)، والحاكم: (2/67، برقم: 2350) وقال: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. وأَخْرَجَهُ أَيْضًا: إِسْحاقُ ابْنُ راهَوَيْهِ: (3/988، برقم: 1713)، والدارِمِيُّ: (2/225، برقم: 2296)، وَابْنُ الجَارُودِ: (ص: 46، برقم: 148)، وَابْنُ حِبَّانَ: (1/355، برَقم: 142). عَنْ السَّيِّدةِ عَائِشَةَ أمِّ المؤمنينَ وَغَيْرِهَا مِنَ الصَّحَابَةِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجمعينَ.
فَالْمُرَادُ بِالرَّفْعِ هُنَا رَفْعُ الْمَأْثَمِ لَا رَفْعُ الْفَرْضِ عَنْهُ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ قَوْلِهِ: ((وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ)). وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ جَاءَ فِي أَثَرٍ وَاحِدٍ، فَقِفْ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي" قَالَ: إِذَا صَلَّى عَبْدٌ ذَكَرَ رَبَّهُ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيَّ فِي قَوْلِهِ: "وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي" قَالَ: حِينَ تَذْكُرُ.
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنْ أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: إِذا رقد أحدكُم عَن الصَّلَاة أَو غفل عَنْهَا فليصلها إِذا ذكرهَا فَإِن الله قَالَ "وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي"
وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: لَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ خَيْبَرَ، أَسْرى لَيْلَةً حَتَّى أَدْرَكَهُ الْكَرَى، أَنَاخَ فَعَرَّسَ، ثُمَّ قَالَ: يَا بِلَالُ أَكْلِئْنَا اللَّيْلَةَ، قَالَ: فَصَلَّى بِلَالٌ ثُمَّ تَسَانَدَ إِلَى رَاحِلَتِهِ مُسْتَقْبِلَ الْفَجْرِ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ، فَنَامَ، فَلَمْ يَسْتَيْقِظْ أَحَدٌ مِنْهُم حَتَّى ضَرَبَتْهُمُ الشَّمْسُ، وَكَانَ أَوَّلَّهُمُ اسْتِيقَاظًا النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَيْ بِلَالُ، فَقَالَ بِلَال: بِأَبي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ أَخَذَ بِنَفْسِي الَّذِي أَخَذَ بِنَفْسِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اقْتَادُوا. ثُمَّ أَنَاخَ فَتَوَضَّأَ، وَأَقَام الصَّلَاةَ، ثُمَّ صَلَّى مِثْلَ صَلَاتِهِ للْوَقْتِ فِي تَمَكُّثٍ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ اللهَ قَالَ: "وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي" وَكَانَ ابْنُ شِهَابٍ يَقْرَؤُهَا لِلذِّكْرَى.
وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنْ عُبَادَةِ بْنِ الصَّامِتِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ رَجُلٍ غَفَلَ عَنِ الصَّلَاةِ حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ، أَوْ غَرَبَتْ، مَا كَفَّارَتُها؟. قَالَ: يتَقَرَّبُ إِلَى اللهِ، وَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ، وَيُصلي الصَّلَاةَ، وَيْسْتَغْفِرُ اللهَ، فَلَا كَفَّارَةَ لَهَا إِلَّا ذَلِكَ. إِنَّ اللهَ يَقُولُ: "وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي".
وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ يَحْيَى، قَالَ: نَسِيتُ صَلَاةَ الْعَتَمَةِ حَتَّى أَصبَحْتُ، فَغَدَوْتُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: قُمْ فَصَلِّهَا، ثُمَّ قَرَأَ "وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي".
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: إِذَا نَسيتَ صَلَاةً فاقْضِهَا مَتَى ذَكَرْتَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، فِي قَوْلِهِ: "وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي" قَالَا: صَلِّها إِذا ذكَرْتَهَا وَقَدْ نَسيتَهَا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ عَنِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ، أَوْ نَسِيَهَا، يُصَلِّي مَتَى ذَكَرَهَا، عِنْد طُلُوع الشَّمْسِ، وَعِنْدَ غُرُوبِهَا، ثُمَّ قَرَأَ "وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي" قَالَ: إِذَا ذَكَرْتَهَا فَصَلِّهَا فِي أَيِّ سَاعَةٍ كُنْتَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ عَنْ عَبْدِ اللهِ ابْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: أَقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَنَزَلْنَا دهاسًا مِنَ الأَرْضِ ـ والدَّهاسُ: الرَّمْلُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ يَكْلَؤُنَا؟)). قَالَ بِلَالٌ: أَنَا. فَنَامُوا حَتَّى طَلَعَتْ عَلَيْهِمُ الشَّمْسُ، فَقَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((افْعَلُوا كَمَا كُنْتُمْ تَفْعَلُونَ كَذَلِكَ لِمَنْ نَامَ، أَوْ نَسِيَ)).
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ عَنْ أَبي جُحَيْفَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي سَفَرِهِ الَّذِي نَامُوا فِيهِ حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ، ثمَّ قَالَ: ((إِنَّكُمْ كُنْتُمْ أَمْوَاتًا، فَرَدَّ اللهُ إِلَيْكُم أَرْوَاحَكُمْ، فَمَنْ نَامَ عَنِ الصَّلَاةِ، أَوْ نَسِيَ صَلَاةً، فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا، وَإِذَا اسْتَيْقَظَ)).