قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61)
قَوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ} اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، لِأَنَّ قَوْلَهُ في الآيَةِ الَّتي قَبْلَها: {ثُمَّ أَتى} يُثِيرُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ تَساؤلًا عَمَّا فَعَلَ مُوسَى حِينَ أَتَى فِرْعَوْنُ إِلَى مَكانِ الحَشْدِ عَلَى مَوْعِدِهِ.
و "وَيْلَكُمْ" أَيْ أَلْزَمَكُمُ اللهُ الوَيْلَ، وَالوَيْلُ: اسْمُ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ، وَهُوَ رَمْزٌ للشَّرِّ والْعَذَابِ، وَلَيْسَ لَهُ فِعْل مِنْ جِنْسِهِ، وَهِيَ كَلِمَةُ زَجْرٍ وَجَّهَها لَهُمْ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، لَمَّا رَأَى أَنَّ إِلَانَةَ الْقَوْلِ ـ الَّتي كانَ أُمِرَ بِهَا سابقًا، غَيْرُ نَافِعَةٍ مَعَهُمْ، وَإِنَّما كانَ ذَلِكَ بأَمْرٍ مِنَ اللهِ تَعَالى لِأَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنَ اللهِ والرَّسولُ لا يَعْصِي مَوْلاهُ، ولا يقولُ أَوْ يَفْعَلُ إِلَّا ما يَأْمُرُهُ بِهِ اللهُ ـ جَلَّ جلالُهُ.
قولُهُ: {لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِبًا} افْتٍرَاءُ الكَذِبِ اخْتِلاقُهُ وَاخْتِرَاعُهُ، أَي لَا تَخْتَلِقُوا للهِ شُرَكَاءَ في مُلْكِهِ وحكمِهِ وسُلْطانِهِ. قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، أَيْ: لَا تُشْرِكُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا. وَقالَ آخَرُونَ: المَعنى: لَا تَقْولُوا اليَدَ وَالعَصَا لَيْسَتَا آيَتَيْنِ مِنْ قِبَلِ اللهِ تَعَالى، فَإِنَّكُمْ عَنْدَ هَذَا القَوْلِ تَكْذِبُونَ عَلَى اللهِ.
قولُهُ: {فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} فيُهْلِكَكُمْ بعذابٍ يُنزِلُهُ بِكُمْ كَمَا فَعَلَ بالأممِ مِنْ قبلِكم فَيَسْتَأْصِلَ شَأْفَتَكُمْ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَالأَخْفَشُ، والفَرَّاءُ، والزَّجَّاجُ، وَجَمِيعُ أَهْلِ اللُّغَةِ: هوَ مِنْ "سَحَتَ" الثُّلاثِيِّ، وَالمَصْدَرُ مِنْهُ: "سَحَتٌ" بِفَتْحَتَيْنِ، وَ "سَحْتٌ" بِإِسْكَانِ الْحَاءِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَصْلُ السُّحْتِ كَلْبُ الْجُوعِ، وَيُقَالُ: فُلَانٌ مَسْحُوتُ الْمَعِدَةِ إِذَا كَانَ لَا يُلْفَى أَبَدًا إِلَّا خَائِفًا، وَهُوَ رَاجِعٌ لِمَعْنَى الْهَلَاكِ. وَ "أَسْحَتَ" الرُّباعِيِّ، أَيْ: أَهْلَكَ واسْتَأْصَلَ، فالثُّلاثِيُّ: لُغَةُ أَهْلِ الحِجَازِ، وَالرُّباعِيُّ: لُغَةُ نَجْدٍ وبَنِي تَمِيمٍ. وَأَنْشَدُوا عليْهِ بَيْتًا للفَرَزْدَقِ مِنْ قصيدةٍ يهجو فيها جَريرًا ويفخر بِمَآثِرِ قَوْمِهِ:
وعَضُّ زَمانٍ يا بْنَ مَرْوانَ لَمْ يَدَعْ ....... مِنَ المَالِ إِلَّا مُسْحَتًا أَوْ مُجَلَّفُ
انْظُرْ: "معاني القرآنِ وإعْرابُهُ" للفَرَّاءِ: (2/182)، و "مَعَانِي القُرْآنِ وإِعْرابُهُ" للزَّجَّاجِ: (3/361). و "مَجَازُ القُرْآنِ" لِأَبي عُبَيْدَةَ: (2/21). وَمَعْنَى "لَمْ يَدَعْ مِنَ المَالِ إِلاَّ مُسْحَتًا" لَمْ يَبْقَ مِنَ المَالِ إِلَّا مُسْحَتٌ، وَلِذَلِكَ عَطَفَ عَلَيْهِ "مُجَلَّفُ" بِالرَّفعِ مُرَاعَاةً للمَعْنَى، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَبْقَ مِنَ الْمَالِ إِلَّا مُسْحَتٌ، أَوْ مُجَلَّفُ. وَالمُسْحَتُ: هُوَ المُسْتَأْصَلُ، وَالمُجْلِفُ: هُوَ مَنْ أَتَى الدَّهْرُ عَلَيْهِ فَأَذْهَبَ مَالَهُ مِنْهُ. وَ (السُّحْتُ) مَا حَرُمَ وَخَبُثَ مِنَ المَالِ والمَكَاسِبِ، وَقَدْ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَسْحَتُ الدِّينَ والمُرُوءَةَ فَيَذْهَبُ بِهِما. وَأَسْحَتَ الرَّجُلَ: اسْتَأْصَلَ مَا عِنْدَهُ. وَقالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي رِوَايَةِ الوَالِبِي عَنْهُ: "فَيُسْحِتَكُمْ" فَيُهْلِكَكَمْ. انظُرْ تَفْسيرَ "جامِعُ البَيَانِ" للطَّبَرِيِّ: (16/178). وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَمُقاتِلٍ، والكَلْبِيِّ أَيْضًا ـ رَضِيَ اللهُ عنهم. وَقال قَتَادَةُ، وَأَبَانُ بْنُ تَغْلِبَ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: "فَيُسْحِتَكُمْ": فَيْسْتَأْصِلَكُمْ. وقالَ في روايةِ عَطاءٍ عنْهُ، رَضِيَ اللهُ عنهما: "فَيَسْحَتُكُمْ" فَيَجْهدُكُمْ بِعَذَابٍ. "مَعَانِي القُرْآنِ وإِعْرابُهُ" للفَرَّاءِ: (2/182)، و "مَعَاني القُرْآنِ وإِعْرابُهُ" للزَّجَّاج: (3/361). وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعدٍ: يَقَالُ: سَحَتْنَاهُمْ: أَيْ: بَلَغنَا مَجْهُودَهُمْ فِي المَشَقَّةِ عَلَيْهِمْ، وَأَسْحَتْنَاهُمْ لَغَةٌ. "مَجَازُ القُرْآنِ" لِأَبِي عُبَيْدَةَ: (2/21)، و "مَعَاني القُرْآنِ وإِعْرابُهُ" للفَرَّاءِ: (2/182)، و "مَعَاني القُرْآنِ وإِعرابُهً" لأبي إِسْحاقٍ الزَّجَّاج: (3/361). وَقَالَ أَهْلُ المَعَانِي: (السَّحْتُ فِي اللُّغَةِ مَعْنَاهُ: اسْتِقْصاءُ الحَلْقِ، يُقَالُ: سَحَتَ الشَّعْرَ إِذَا اسْتَقْصَى حَلْقَهُ، وَسَحَتَ الحالِقُ إِذَا اسْتَأْصَلَ، وَأَسْحَتَ الخَاتِنُ فِي خِتَانِ الصَّبِيِّ إِذَا اسْتَأْصَلَهُ. "تهذيبُ اللُّغَةِ" للأَزهريِّ الهَرَوِيِّ بابُ: (سَحَتَ): (2/1637). والمَعْنَى: إِنَّ العَذَابَ إِذَا أَتَى مِنْ قِبَلِ اللهِ أَخَذَهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ.
قولُهُ: {وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} أَيْ: خَسِرَ نفسَهُ، ودُنياهُ وآخرتَهُ، وَرِضوانَ ربِّهِ مَنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وادَّعى غيْرَ الحقِّ، كائنًا مَنْ كانَ، بَأَيِّ وَجْهٍ كانَ، فَيَدْخُلُ الافْتِراءُ المَنْهِيُّ عَنْهُ دُخُولًا أَوَّلِيًّا، وَخَابَ فِرْعَوْنُ الذي افْتَرَى عَلىَ الله الكَذِبَ، فَاحذروا أَنْ تَكونُوا مِثْلَهُ فتَخِيبُوا مِثْلَ خَيْبَتِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: خَابَ مَنِ ادَّعَى مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ. "المُحَرَّرُ الوَجِيزَ" لابْنِ عَطِيَّةَ: (10/46)، و "لُبَابُ التَأْويلِ في مَعَانِي التَّنْزيلِ" للإمامِ الخازن: (4/273). وَقَالَ قتَادَةُ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: خَسِرَ مَنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَنَسَبَ إِلَيْهِ باطلًا. انظُرْ: "بَحْرُ العُلومِ" للسَّمَرْقَنْديِّ: (2/346)، و "الجامِعُ لِأَحْكَامِ القُرْآنِ" للقُرطُبيِّ: (11/215)، و "لُبابُ التَأْويلِ" للإمامِ الخازن: (4/273).
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ} قَالَ: فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ عَلى الفَتْحِ، وَ "لَهُمْ" اللامُ حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "قالَ"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ، والميمُ علامةُ الجَمْعِ المُذَكَّرِ. و "مُوسَى" فاعِلُهُ مرْفوعٌ بِهِ، وعلامةُ رَفْعِهِ ضَمَّةٌ مُقَدَّرةٌ عَلَى آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظهورِها على الأَلِفِ، وَ "وَيْلَكُمْ" مَصْدَرٌ للدُّعَاءِ أَمَاتَ العَرَبُ فِعْلَهُ، مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذوفٍ وُجُوبًا، لِجَرَيَانِهِ مُجْرَى المَثَلِ، والتقديرُ: أَلْزَمَكُمُ اللهُ "وَيْلَكُمْ"، وَهُوَ مُضافٌ، وَكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجرِّ بالإِضافةِ إِلَيْهِ، والميمُ: عَلامَةُ الجَمْعِ المُذَكَّرِ، والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ. وَالجُمْلَةُ المَحْذوفَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ مَقُولُ "قَالَ".
قوْلُهُ: {لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِبًا} لَا: نَاهِيَةٌ جَازِمَةٌ. وَ "تَفْتَرُوا" فِعْلٌ مُضارعٌ مَجْزُومٌ بِـ "لَا" النَاهِيَةِ، وعلامةُ جَزْمِهِ حَذْفُ النُّونِ مِنْ آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفعالِ الخمسَةِ، وواوُ الجَماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفْعِ على الفاعِلِيَّةِ، والأَلِفُ للتفريق. و "عَلَى" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تَفْتَرُوا"، ولفظُ الجلالةِ "اللهِ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ. وَ "كَذِبًا" مَفْعُولُهُ منصوبٌ بِهِ، والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ مَقُولُ: "قَالَ".
قولُهُ: {فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} الفاءُ: حَرفُ عَطْفٍ وَسَبَبٍ، و "يُسْحِتَكُمْ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَنْصوبٌ بِـ "أَنْ" مُضْمَرَةٍ وُجُوبًا بَعْدَ فاءِ السَّبَبِيَّةِ الوَاقِعَةِ فِي جَوَابِ النَّهْيِ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ على المفعوليَّةِ، والميمُ للجمعِ المُذكَّر. وَفَاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ جَوازًا تَقْديرُهُ: "هوَ" يَعُودُ عَلَى اللهِ ـ تَعالى. وَ "بِعَذَابٍ" الباءُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يُسْحِتَكُمْ"، و "عذابٍ" مجرورٌ بحرْفِ الجَرِّ، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مَعَ "أَنْ" المُضْمَرَةِ: فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَعْطُوفٍ عَلَى مَصْدَرٍ مُتَصَيَّدٍ مِنَ الجُمْلَةِ الَّتي قَبْلَهَا، مِنْ غَيْرِ سَابِكٍ، لِإِصْلاحِ المَعْنَى، والتقديرُ: لَا يَكُنِ افْتِراؤكم عَلَى اللهِ كَذِبًا فَإِسْحاتُهُ إِيَّاكُمْ بِعَذَابٍ.
قولُهُ: {وَقَدْ خَابَ مَنِ} الواوُ: حَالِيَّةٌ، و "قدْ" حَرْفٌ للتَّحْقِيقِ. و "خَابَ" فعلٌ مَاضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ. و "مَنِ" اسْمٌ مَوْصولٌ بمعنى "الذي" مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، وقدْ حُرِّكَ بالكَسْرِ لالْتِقاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَالجُمْلَةُ: فِي مَحَلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنِ اسْمِ الجَلالَةِ، وَالرَّابِطُ مَحْذوفٌ، والتَّقْديرُ: لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِبًا، وَالحَالُ أَنَّهُ قَدْ خَابَ وَخَسِرَ مَنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا.
قوْلُهُ: {افْتَرَى} فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ المُقدَّرِ على آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظُهُورِهِ عَلَى الأَلِفِ. وَفَاعِلُهُ ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هوَ) يعودُ عَلَى "مَنِ"، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ صِلَةُ الاسْمِ المَوْصُولِ "مَنِ"، لَا مَحلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قَرَأَ الجُمْهورُ: {فَيَسْحَتَكُم} بِفَتْحِ الياءِ والحاءِ. مِنْ سَحَتَه الثُّلاثيِّ، وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ الحِجَازِ. وَأَصْلُ هَذِهِ المَادَّةِ يَدُلُّ عَلَى الاسْتِقْصاءِ والنَّفَادَ. وَمِنْه (سَحَتَ الحالقُ الشَّعْرَ) إِذَا اسْتَقْصَاهُ فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهُ شَيْئًا، وَمَعْناهُ الإِهلاكُ وَالإِذْهابُ. وَنَصْبُهُ بِإِضْمارِ "أَنْ" فِي جَوَابِ النَّهْيِ. وَقَرَأَ الأَخَوانِ (حَمْزَةُ والكِسائيُّ) وَحَفْصٌ عَنْ عاصِمٍ "فَيُسْحِتَكُمْ" بِضَمِّ الياءِ وَكَسْرِ الحَاءِ. فَقِراءَةُ الأَخَوَيْنِ مِنْ "أَسْحَتَ" الرُّبَاعِيَّ وَهِيَ لُغَةُ نَجْدٍ وَتَمِيم. وَلَمَّا أَنْشَدَ الزَّمَخْشَرِيُّ بَيْتَ الفَرَزْدَقِ المتقدِّمِ ذِكْرُهُ في مَبْحَثِ التَّفسيرِ وَهُوَ:
وعَضُّ زَمانٍ يا بْنَ مَرْوانَ لَمْ يَدَعْ ....... مِنَ المَالِ إِلَّا مُسْحَتًا أَوْ مُجَلَّفُ
والذي جاءَ فيهِ قَوْلُهُ: (إِلاَّ مُسْحَتًا أَوْ مُجْلَّفُ)، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ بَعْدَ ذَلِكَ: فِي بَيْتٍ لَمْ تَزَلِ الرُّكَبُ تَصْطَكُّ في تَسْوِيَةِ إِعْرابِهِ. يَعْنِي أَنَّ هَذَا البَيْتَ صَعْبُ الإِعْرابِ.
وقدْ رُوِيَ هَذَا البَيْتُ بِثَلاثِ رِوَاياتٍ، لَا تَخْلو كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هذِهِ الرِّواياتِ مِنْ ضَرُورَةٍ:
ـ الرِّوايةُ الأُولَى: "لَمْ يَدَعْ" ـ بِفَتْحِ الياءِ وَالدَّالِ، وَنَصْبِ "مُسْحَتٍ"، وَفِي هَذِهِ الرِّوايةِ خَمْسَةُ أَوْجُهٍ هِيَ: الأَوَّلُ: أَنَّ (لَمْ يَدَعْ مِنَ المَالِ إلَّا مُسْحَتًا) مَعْنَاهُ: لَمْ يَبْقَ إِلَّا مُسْحَتْ، فَلَمَّا كانَ هَذَا في قوَّةِ الفاعِلِ، عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: (أَوْ مُجَلَّفُ) ـ بالرَّفْعِ. وقدِ اسْتَشْهَدَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِهَذا البَيْتِ كدليلٍ عَلَى صِحَّةِ قِراءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، والأَعْمَشِ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، في الآيةِ: 249، مِنْ سُورَةِ البَقَرَةِ: {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَليلٌ}، بِرَفْعِ "قَليلٌ" ـ وَقَدْ تَقَدَّمَ بيانُ ذَلِكَ في مَحَلِّهِ. الثاني: أَنَّهُ مَرْفوعٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ دَلَّ عَلَيْهِ قولُهُ (لَمْ يَدَعْ)، والتَّقْديرُ: أَوْ بَقِيَ مُجَلَّفٌ. الثالثُ: أَنَّ "مُجَلَّفُ" مَرْفوعٌ بالابْتِداءِ، وَخَبَرُهُ مُضْمَرٌ تَقْديرُهُ: أَوْ مُجَلَّفٌ كَذَلِكَ، وَهذا هُوَ تَخْريجُ الفَرَّاءِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ مَعْطوفٌ عَلى الضَّمِيرِ المُسْتَتِر فِي (مُسْحتًا)، وَكَانَ مِنْ حَقِّ هَذَا أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَهُما بِتَأْكِيدٍ، أَوْ فَاصِلٍ مَّا. إِلَّا أَنَّ الكِسائِيَّ وهُوَ القائلُ بِذَلِكَ لَا يَشْتَرِطُ. وَأَيْضًا فَهُوً جَائزٌ فِي الضَّرُورَةِ عِنْدَ الكُلِّ. الخامسُ: أَنْ يَكونَ (مُجَلَّف) مَصْدَرًا بِزِنَةِ اسْمِ المَفْعولِ كما في قولِهِ تَعَالَى مِنْ سورةِ سَبَأ: {كُلَّ مُمَزَّقٍ} الآيةَ: 19، أَيْ: تَجْليفٌ وَتَمْزيقٌ، وَعَليْهِ فَهُوَ عَطْفُ نَسَقٍ عَلى (عَضُّ زَمَانٍ) إِذِ التَّقْديرُ: رَمَتْ بِنَا هُمُومُ المُنَى، وَعَضُّ زَمَانٍ أَوْ تَجْلِيفُ، إذًا فَهُوَ فَاعِلٌ لِعَطْفِهِ عَلَى الفَاعِلِ، وَهَذا القَوْلُ هُوَ لأَبي عليٍّ الفارِسِيِّ. وَهوَ أَحْسَنُ الأَقوالِ.
الروايةُ الثانِيَةُ: فَتْحُ الياءِ وكَسْرُ الدَّالِ وَرَفْعُ مُسْحَتٍ. وَتَخْريجُ هذِهِ الرِّوايةِ وَاضِحٌ: وَهوَ أَنْ تَكُونَ مِنْ: وَدِعَ فِي بَيْتِهِ، يَدِعُ فَهُوَ وَادِعٌ، أَيْ بِمَعْنَى: بَقِي يَبْقَى فَهُوَ باقٍ، فَيَرْتَفِعُ مُسْحَتٌ بِالفاعلية، ويُرْفَعُ (مُجَلَّفُ) بالعَطْفِ عَلَيْهِ. وَلَا بُدَّ حِينَئِذٍ مِنَ ضَمِيرٍ مَحذوفٍ والتَّقْديرُ: مِنْ أَجْلِهِ أَوْ بِسَبَبِهِ .. الكلامُ.
الرواية الثالثة: "يُدَعْ" بِضَمِّ الياءِ وَفَتْحِ الدَّالِ عَلى مَا لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ، و (مُسْحَتٌ) بِالرَّفْعِ لِقِيامِهِ مَقامَ الفاعِلِ، وَ "مُجَلَّفٌ" عَطْفٌ عَلَيْهِ. وَكانَ مِنْ حَقِّ الواوِ هنا أَنْ لَا تُحْذَفَ، بَلْ تَثْبُتُ، لِأَنَّها لَمْ تَقَعْ بَيْنَ يَاءٍ وَكَسْرَةٍ، وَإِنَّما حُذِفَتْ حَمْلًا لِلْمَبْنِيِّ للمَفْعُولِ عَلَى المَبْنِيِّ للفَاعِلِ.
وَفي البَيْتِ كَلامٌ أَطْوَلُ مِنْ هَذَا تَرَكْتُهُ اخْتِصَارًا واكتفاءً بما تقدَّمَ لأَنَّهُ زُبْدَتُ وَلُبُّهُ.