َالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45)
قولُهُ ـ تَعَالى شأْنُهُ: {قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا} لَقَدْ عَزَمَ مُوسَى وهارونَ عَلى الذَّهابِ إِلَى فرعونَ لِيُبَلِّغاهُ رِسالةِ رَبِّهِ ـ تباركتْ أَسْمَاؤهُ، وَلِذَلِكَ بَثَّا تَخَوُّفَاتِهِما إَلى مَوْلاهُمَا، لِيَلْتَمِسَا عونَهَ وحِفْظَهُ، لِأَنَّ التَّخوُّفَ والتَّفْكِيرَ فِي الْمَوَانِعِ وَالْعَوَاقِبِ إنَّما يَكُونُ عِنْدَما يَعْزِمُ المَرْءُ عَلَى فِعْلِ شيْءٍ مَّا، وَعِنْدَ الْأَخْذِ فِي التَّهَيُّؤِ لَهُ، وَلِذَلِكَ أُعِيدَ الأَمْرُ إِليْهِما بِقَوْلِهِ تَعَالَى في الآيةِ التي تَليهَا: {فَأْتِياهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فأَرسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ ولا تُعَذِّبْهُمْ ..}.
ومَعْنَى "يَفْرُطَ" يُعَجِّلُ وَيَسْبِقُ، أَيْ: إنَّا نَخَافُ أَنْ يُعَجِّلَ علينا العِقَابَ بالْقَتْلِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْعُقُوبَاتِ ويبادرُنا بِهِ قَبْلَ أَنْ نُبَلِّغَهُ رِسالتَكَ، وَنُسْمِعَهُ برهانكَ وَحُجَّتَكَ.
وفَرَطَ يَفْرُطُ: سَبَقَ وَتَقَدَّم، مِنْ بَابِ نَصَرَ. وَالْفَارِطُ: هوَ الَّذِي يَتَقَدَّمُ الوَرَدَةَ إِلَى المَاءِ، وَيَسْبِقُ الشَّرْبَ إِلَى حَوْضِ الماءِ، وَمِنْهُ ما جاءَ فِي الحَديثِ الشَّريفِ أَنَّهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، قالَ: ((أَنَا فَرَطُكُمْ عَلى الحَوْضِ)) أَيْ: سَابِقُكم إلَيِهِ. أَخْرَجَهُ مُعْظَمُ أَئِمَّةِ الحَديثِ كَأَحْمَدَ وَالبُخَارِيُ ومسلمٌ وَغَيْرُهُمْ كثيرٌ عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ مَسْعودٍ وَعنْ عَدَدٍ مِنَ الصَّحابةِ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم. ومِنْ وُرُودِ الفَارِطِ بِمَعْنَى المُتَقَدِّمِ عَلَى الوَارِدَةِ قَوْلُ الشَّاعِرِ القُطَامِيِّ، وَهُوَ شاعِرٌ مِنَ العَصْرِ الأُمويِّ واسْمُهُ مَعَمْرُ بْنُ شُيَيْمٍ، وَيُقَالُ شُيَيْمُ بْنُ عَمْرٍو التَّغْلِبِيُّ النَّصْرَانِيُّ:
واسْتَعْجَلُونَا وَكَانُوا مِنْ صَحَابَتِنَا ................. كَمَا تَقَدَّمَ فُرَّاطٌ لِوُرَّادِ
قَوْلُ الشَّاعِرِ: الفُرَّاطُ: هُمُ المُتَقَدِّمُونَ فِي طَلَبِ المَاءِ، والوُرَّادُ: هُمُ المُتَأَخِّرُونَ في طَلَبِهِ. وَفَرَسٌ فَرَطٌ: هُوَ الذي يَسْبِقُ الخَيْلَ.
قولُهُ: {أَوْ أَنْ يَطْغَى} الطُّغْيَانُ: تجاوُزُ الحَدِّ وَالتَّظَاهُرُ بِالتَّكَبُّرِ. أَيْ: نَخَافُ أَنْ يُخَامِرَهُ كِبْرُهُ فَيَعُدَّ ذِكْرَنَا إِلَهًا دُونَهُ تَنْقِيصًا لَهُ وَطَعْنًا فِي دَعْوَاهُ الْإِلَهِيَّةِ فَيَطْغَى، فَيَصْدُرَ مِنْهُ مَا هُوَ مِنْ أَثَرِ الْكِبَرِ كالتَّحْقِيرِ وَالْإِهَانَةِ وغيرِهِ.
وَذِكْرُ الطُّغْيَانَ بَعْدَ الْفَرْطِ للإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمَا لَا يُطِيقَانِ ذَلِكَ، فَهُوَ انْتِقَالٌ مِنَ الْأَشَدِّ إِلَى الْأَضْعَفِ لِأَنَّ قولَهُما "نَخَافُ" يَؤُولُ إِلَى مَعْنَى النَّفْيِ. وَفِي النَّفْي يُذْكَرُ الْأَضْعَفُ بَعْدَ الْأَقْوَى مَا لَمْ يُوجَدْ مَا يَقْتَضِي عَكْسَ ذَلِكَ ـ بِعَكْسِ الْإِثْبَاتِ.
وَقد حُذِفَ مُتَعَلِّقُ "يَطْغى" فَيُحْتَمَلُ أَنَّ حَذْفَهُ لِدَلَالَةِ نَظِيرِهِ عَلَيْهِ، وَقدْ أُوثِرَ بِالْحَذْفِ لِرِعَايَةِ الْفَوَاصِلِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَوْ أَنْ يَطْغَى عَلَيْنَا. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ مُتَعَلِّقَهُ لَيْسَ نَظِيرَ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ بَلْ هُوَ مُتَعَلِّقٌ آخَرُ لِكَوْنِ التَّقْسِيمِ التَّقْدِيرِيِّ دَلِيلًا عَلَيْهِ، ذلكَ لِأَنَّهُمَا لَمَّا ذَكَرَا مُتَعَلِّقَ "يَفْرُطَ عَلَيْنا"، وَكَانَ الْفَرْطُ شَامِلًا لِأَنْوَاعِ الْعُقُوبَاتِ حَتَّى الْإِهَانَةَ وَالشَّتْمَ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ التَّقْسِيمُ بِـ "أَوْ" مَنْظُورًا فِيهِ إِلَى حَالَةٍ أُخْرَى وَهِيَ طُغْيَانُهُ عَلَى مَنْ لَا يَنَالُهُ عِقَابُهُ، أَيْ: أَنْ يَطْغَى عَلَى اللهِ بِالتَّنْقِيصِ كَقَوْلِهِ فيما حكى اللهُ تَعَالى عَنْهُ: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي} الآيةَ: 38، مِنْ سُورةِ الْقَصَص، وَكَقَوْلِهِ في نفسِ الآيَةِ: {لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلهِ مُوسَى}، فَحُذِفَ حِينَئِذٍ مُتَعَلِّقُ "يَطْغى" لِتَنْزيهِهِ عَنِ التَّصْرِيحِ بِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ. وَالتَّقْدِيرُ: أَوْ أَنْ يَطْغَى عَلَيْكَ فَيَتَصَلَّبَ فِي كُفْرِهِ وَيَعْسُرُ عَلَيْنَا صَرْفُهُ عَمَّا يُريدُ.
قوْلُهُ تَعَالى: {قَالَا رَبَّنَا} قَالَا: فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ، وأَلِفُ التَثْنِيَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِليَّةِ، والجملةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "رَبَّنَا" مُنادَى مُضافٌ، مَنْصوبٌ عَلى النِّداءِ، وَ "نا" ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. وُجُمْلَةُ النَّداءِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بِـ "قَالَا".
قَوْلُهُ: {إِنَّنَا نَخَافُ} إِنَّنَا: "إِنَّ" حرفٌ نَاصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ للتوكيدِ، و "نا" ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في محلِّ النَّصْبِ اسْمُ "إنَّ". و "نخافُ" فعلٌ مُذارعٌ مَرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وفاعِلُهُ ضميرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (نحن) يعودُ على مُوسَى وأَخِيهِ هارونَ ـ عَلَيْهِما السَّلامُ، وَالجُمْلَةُ خَبَرُ "إنَّ" في محلِّ الرَّفعِ، وَجُمْلَةُ "إِنَّ" فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لِـ "قَالَ" عَلَى كَوْنِهَا جَوابَ النِّدَاءِ.
قولُهُ: {أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا} أَنْ: حَرْفُ نَصْبٍ مَصْدَرِيٌّ. و "يَفْرُطَ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَنْصُوبٌ بِـ "أَنْ" المَصْدَرِيَّةِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلى "فِرْعَوْنَ". و "عَلَيْنَا" عَلَى: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يَفْرُطَ"، وَ "أَنْ" وَمَا فِي حَيِّزِها مَفُعُولُ "نَخَافُ" في محلِّ النَّصْبِ.
قوْلُهُ {أَوْ أَنْ يَطْغَى} أَوْ: حَرْفُ عَطْفٍ وَتَنْويعٍ. و "أَنْ" حَرْفُ نَصْبٍ مَصْدَرِيٌّ. وَ "يَطْغَى" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَنْصُوبٌ بِـ "أَنْ" المَصْدَرِيَّةِ، وعلامةُ نَصْبِهِ فتحةٌ مُقَدَّرةٌ على آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظهورِها على الأَلِفِ. وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلى "فِرْعَوْنَ". وَ "أَنْ" وَمَا فِي حَيِّزِهَا مَعْطُوفٌ عَلَى جملةِ قولِهِ: "أَنْ يَفْرُطَ"، على كونِها مفعولُ "نخافُ" فِي مَحَلِّ النَّصْبِ، وَالتَقْديرُ: إِنَّنَا نَخَافُ فَرْطَهُ عَلَيْنَا أَوْ طُغْيَانَهُ.
قرأَ العامَّةُ: {يَفْرُطَ} بفتْحِ حَرْفِ المُضَارَعَةِ وضَمِّ الرَّاءِ، بِالبِنَاءِ للفاعِلِ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ، وابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَأَبُو نَوْفَلٍ: "يُفْرَطَ" بِضَمِّ حَرْفِ المُضَارَعَةِ، وَفَتْحِ الرَّاءِ، عَلى البِنَاءِ للمَفْعُولِ، وَالمَعْنَى: خَافَا أَنْ يُسْبَقَ حُجَّتَهما فَيُبادِرَهما بِالعُقُوبَةِ قبلَ أنْ يستمعَ إلى الرِّسالةِ. أَيْ: أنْ يَحْمِلُهُ حَامِلٌ عَلَيْهَا، وَعَلى التَّعْجيلِ بِهَا: إِمَّا قَوْمُهُ، وإمَّا حُبُّهُ الرِّئاسَةَ، وَإِمَّا ادِّعاؤُهُ الإِلَهِيَّةَ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ ـ فِي رِوَايَةٍ، والزَّعْفَرَانِيُّ: "أَنْ يُفْرِطَ" بِضَمِّ حَرْفِ المُضَارَعَةِ، وَكَسْرِ الرَّاءِ، مِنْ "أَفْرَطَ". وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنْ أَفْرَطَهُ غَيْرُهُ إِذَا حَمَلَهُ عَلَى العَجَلَةِ، فقد خَافَا أَنْ يَحْمِلَهُ حَامِلٌ عَلَى التَّعْجيلِ بالعِقَابِ. كَمَا قَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، مِنْ قصيدةِ (بانتْ سُعادُ) التي يَمْدَحُ فيها رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، ويعتذِرُ إليْهِ بها.
تَنْفِي الرِّياحُ القَذَى عَنْهُ وأَفْرَطَهُ .......... مِنْ صَوْبِ سَارِيَةٍ بِيْضٌ يَعَالِيْلُ
أَيْ: سَبَقَتْ إِلَيْهِ هَذِهِ البِيْضُ لِتَمْلَأَهُ. وَفَاعِلُ "يَفْرُطَ" هو ضَمِيرُ فِرْعَونَ. كما هُوَ الظَّاهِرُ الذي يَنْبَغِي أَنْ لَا يُعْدَلَ عَنْهُ البَتَّةَ. وَجَعَلَهُ أَبُو البَقّاءِ العُكْبُريُّ مُضْمَرًا لِدَلَالَةِ الكَلَامِ عَلَيْهِ فَقَالَ: فَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ التَقْديرُ: أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا مِنْهُ قَوْلٌ، فَأَضْمَرَ القَوْلَ لِدَلَالَةِ الحَالِ عَلَيْهِ، كَمَا تَقُولُ: فَرَطَ مِنِّي قَوْلٌ، وَيجوزُ أَنْ يَكونَ الفاعِلُ ضَمِيرَ "فِرْعَوْنَ" كَمَا كَانَ فِي "يَطْغَى"، والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.