اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24)
قوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} بَعْدَ أَنْ سلَّحَ اللهُ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالى، نَبِيَّهُ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، بالأَدِلَّةِ الواضحةِ والبَرَاهِينِ القاطِعَةِ، وأَيَّدَهُ بالآياتِ البَيِّناتِ، وَالمُعَجِزاتِ الباهِرَاتِ، الَّتي تَدُلُّ بِمَا لا يَدَعُ مَجالًا للشِّكِ عَلى صِدْقِهِ فيما يَدَّعِيهِ مِنْ أَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّ العالَمِينَ. أَمَرَهُ بِمُوَاجَهَةِ أَعْظَمِ مُلُوكِ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ بِالْمَوْعِظَةِ وَمُكَاشَفَتِهِ بِفَسَادِ حَالِهِ.
وَ "طَغى" تَعْليلٌ لِلحِكْمَةِ مِنْ هَذا الأَمْرِ بِالذَّهَابِ إِلى الطاغيَةِ فرْعَوْنَ، الذي اغْتَرَّ بَمَا آتاهُ اللهُ مِنَ المُلْكِ والسُّلْطانِ، فَطَغَى وَبَغَى، وتكبَّرَ وتجبَّرَ عَلى عِبَادِ اللهِ، فَظَلَمَهُم، وَسَخَّرهم لخِدْمتهِ، حتَّى وَصَلَ بِهِ الأَمْرُ إِلى أَنِ ادَّعَى الرُّبوبِيَّةَ، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ في سُورَةِ النَّازِعَاتِ: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} الآيَةَ: 24.
وَقَدْ خَصَّ اللهُ تَعَالَى "فِرْعَوْنَ" بِالذِّكْرِ دونَ قومِهِ، لِأَنَّهُ هو رَأْسُ الْكُفْرِ، وَهوَ مُدَّعِي الْأُلوهَةِ والرُّبوبيَّةِ، وَإِنْ كَانَتِ الَبِعْثَةُ إِلَيْهِمْ كُلِّهِمْ، فَإنَّ قَوْمَهُ جَميعًا لَهُ تَبَعٌ، يُطيعونَهُ في كلِّ ما يأْمُرُهم بِهِ وعَنْ مَا يَنْهَاهُمْ عَنْهُ يَنْتَهُونَ، فَبِهِ يقتدونَ، وبِهَدْيِهِ يَهْتَدونَ، وَبِضَلالِهِ يَضِلُّونَ. قَالَ تَعَالَى مُلَخِّصًا هَذِهِ التَبْعِيَّةَ العَمْيَاءَ في الآيَةِ: 29، مِنْ سُورَةِ غَافِر: {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}.
فَاذْهَبْ يا مُوسَى إِلَى فِرْعَوْنَ مَلِكِ مِصْرَ، الَّذِي كُنْتَ خَرَجْتَ مِنْ مِصْرَ هَرَبًا مِنْ بَطْشِهِ، فَادْعُهُ إِلَى عِبَادِةِ اللهِ الوَحِدِ الأَحَدِ الفَرْدِ الصَّمَدِ، الذي لمْ يَلِدْ ولمْ يولدْ، ولمْ يَكُنْ لَهُ كُفوًا أَحدٌ، فلْيَعْبُدْهُ وَحْدَه وَلَاَ يُشْرِكْ في عِبَادتِهِ لَهُ أَحَدًا مَعَهُ، فَإِنَّهُ قَدْ طَغَى وَبَغَى، وَجاوَزَ القَدْرَ في العِصْيَانِ، حتَّى ادَّعى أَنَّهُ هوَ الإلهُ الديَّانُ، وَنَسِيَ أَنِّي أَنَا الإلهُ العَلِيُّ الأَعْلَى، وَقَدْ عَاثَ في الأَرْضِ فَسَادًا، فَأْمُرْهُ أَنْ يُحْسِنْ مُعَامَلَةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلاَ يَظْلِمْهُمْ، ولا يُعَذِّبْهُمُ، وَلَا يُسَخِّرْهُمْ لِخِدْمتِهِ هوَ وَقَوْمَهُ.
قوْلُهُ تَعَالَى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} اذْهَبْ: فِعْلُ أَمْرٍ مبنيٌّ على السُّكونِ، وفاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجوبًا، تقديرُهُ (أَنْتَ) يَعُودُ عَلَى "مُوسَى" عليهِ السَّلامُ، و "إِلَى" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "اذْهَبْ"، و " فِرْعَوْنَ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ، وعلامةُ جَرِّ الفتحةُ نِيَابَةً عَنِ الكَسْرَةِ لأنَّهُ ممنوعٌ مِنَ الصَّرفِ بالعلميةِ والعجمةِ، والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ لِـ "قَالَ".
قولُهُ: {إِنَّهُ طغى} إِنَّهُ: حرفٌ ناصِبٌ، نَاسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِه في محلِّ النَّصْبِ اسْمُهُ. و "طَغَى" فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على الفتحِ المُقدَّرِ على آخِرِهِ، لِتَعَذُّرِ ظُهُورِهِ عَلَى الأَلِفِ، وفاعلِهُ ضميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى فِرْعَوْنَ، والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ الرَّفعِ خَبَرًا لـ "إنَّ"، وَجُمْلَةُ "إِنَّ" مِنِ اسْمِها وخبرِها مَسُوقَةٌ لِتَعْليلِ مَا قَبْلِهَا لا محلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ.