وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56)
قوْلُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا} عَوْدٌ إِلَى قَصَصِ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، مَعَ طاغيةِ عَصْرِهِ "فِرْعَوْنَ". وَ "أَرَيْناهُ: أَبْصَرْنَاهُ، أَيْ جَعَلْنَاهُ يُبْصِرُ، فَالرُّؤْيةُ هُنَا بَصَرِيَّةٌ، فَلَمَّا دَخَلَتْ هَمْزَةُ النَّقْلِ تَعَدَّى بِهَا الفِعْلُ "أَرَيْنا" إِلى مَفْعولَيْنِ اثْنَيْنِ: ضميرُ فِرْعَوْنَ، والآياتُ. والمُرادُ بِالآياتِ مَا يَدُلُّ عَلَى وَحْدانِيَةِ اللهِ ـ تَبَارَكَ وتَعَالى، وَصِدْقِ المُبَلِّغِ. وإِضافَةُ الآياتِ هُنَا إِلَى ذاتِهِ العَلِيَّةِ قائِمَةٌ مَقَامَ التَّعْريفِ العَهْدِيِّ، أَيْ: الآياتِ المَعْهودَةَ المَعْرُوفَةَ، اليَدُ وَالعَصَا. وَقِيلَ: بَلِ الرُّؤْيَةُ هُنَا قَلْبِيَّةٌ، وَالمَعْنَى: أَعْلَمْنَاهُ. قالوا: وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ نبيَّ اللهِ مُوسَى ـ علَيْهِ الصلاةُ وَالسَّلامُ، لَمْ يُرِ "فِرْعَوْنَ" إِلَّا مُعْجِزَتَيْنِ: اليَدَ وَالعَصَا، فإِنَّهُ ـ سُبْحانَهُ وَتَعَالَى، لَمْ يُرِ فِرْعَوْنَ جَميعَ آياتِهِ والبراهينِ والمُعْجزاتِ.
وَقِيلَ يَجوزُ أَنْ يكونَ المُرادُ بِالآياتِ أَنَّهُ ـ عَلَيْه السَّلامُ، أَرَى فِرْعَونَ الآياتِ الَّتِي بُعِثَ بِهَا كُلَّها، وَحَدَّثَهُ عَنْ الآياتِ الَّتِي جاءَ بِهَا غيرُهُ مِنَ المُرْسَلينَ مِنْ قَبْلِهِ، وَهُوَ نَبِيٌّ صَادِقٌ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا يُخْبِرُكَ عَنْهُ، وَبَيْنَ مَا تُشاهِدُهُ مِنْهُ، وَإِنَّ اللهَ ـ بهذا المَعْنَى، أَرَى فِرْعَوْنَ جَمِيعَ الْآيَاتِ الَّتِي أيَّدَ بِهَا مُوسَى، وَالَّتِي أَيَّدَ بِهَا غَيْرَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَذَلِكَ بِأَنْ عَرَّفَهُ مُوسَى جَمِيعَ مُعْجِزَاتِهِ وَمُعْجِزَاتِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ. قَالَهُ الزَّمَخْشَريُّ في كشَّافِهِ.
وَقَدِ اسْتَبْعَدَ الشِّيْخُ أَبُو حَيَّانَ الأَنْدَلُسِيُّ في تَفْسيرهِ هذا القوْلَ؛ قالَ: لِأَنَّ الإِخبارَ بِالشَّيْءِ لا يُسَمَّى رُؤْيَةً لَهُ إِلَّا بِمَجَازٍ بَعِيدٍ.
وَقِيلَ: عَنَى أَنَّهُ أَراهُ الآيَاتِ التِّسْعَ التي مَضَى تَفْصِيلُها عندَ قولِهِ تَعَالَى في الآيةِ: 101، مِنْ سُورَةِ الإِسْراءِ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا}، وهيَ: الطوفانُ، وَالجَرَادُ، والقُمَّلُ، والضَّفَادِعُ، والدَّمُ، واليَدُ البَيْضَاءُ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ، وعَصَاهُ إِذَا أَلْقَاهَا، وأَخْذُ آلِ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ، لأَهلِ البَوَادِي منهم، وَالنَّقْصِ مِنَ الثَّمَرَاتِ لِمَنْ كانَ مِنْهُمْ مِنْ أَهلِ القُرَى، وروى الطَّبَرِيُّ عنْ محمدِ بنِ كعبٍ القُرظيِّ أَنَّهُ عَدَّ فَلْقَ البَحْرِ وَالطَّمْسَةَ، بَدَلَ السِّنِين وَنَقْصِ الثَّمَراتِ، وَالطَّمْسَةُ هِيَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى مَسَخَ أَمْوَالَهُمْ ـ مِنَ نَخْلٍ وَدَقيقٍ وَأَطْعِمَةٍ وَدَرَاهِمَ ودَنَانِيرَ، وحوَّلَها كُلَّها إِلَى حِجارَةٍ لا فائدةَ مِنْها، وَلَا نفعَ فيها.
وَقال بَعْضُ العلَماءِ: إِنَّ الْآيَاتُ التِّسْعُ الْمَذْكُورَةُ في الآيةِ هِيَ: الْعَصَا، وَالْيَدُ الْبَيْضَاءُ، وَفَلْقُ الْبَحْرِ، وَالْحَجَرُ الَّذِي انْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا، وَالْجَرَادُ، وَالْقُمَّلُ، وَالضَّفَادِعُ، وَالدَّمُ، وَنَتْقُ الْجَبَلِ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ.
وَمَنْ جَوَّزَ مِنَ العُلَماءِ اسْتِعْمالَ هَذا اللَّفْظِ ـ أَيْ: "الآياتِ"، عَلَى حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ مَعًا، فإنَّهُ يُجيزُ أَنْ يكونَ المُرادُ جَمِيعَ الآياتِ، دُونَ تَخْصِيصٍ، ويَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ تَأْكِيدُهِ بِـ "كُلَّها"، أَيْ بكلِّ الآياتِ، وَهَذا يَعْنِي إِرادَةَ العُمُومِ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا بأَنَّ فَائدةَ التَّوكيدِ بـ "كُلّ" وَأَخَوَاتِهَا، هِيَ رَفْعُ تَوَهُّمِ وَضْعِ الأَخَصِّ مَوْضعَ الأَعَمِّ، فَلَا يُدَّعَى أَنَّهُ أَرادَ بِالآياتِ آياتٍ مَخْصُوصَةً، وَهَذَا يَتَوافَقُ مَعَ أَنَّ الرُّؤْيَةَ هي رُؤيةٌ قَلْبِيَّةٌ، وَلَيْسَتْ بَصَرِيَّةً. وَالْأَوَّلُ هُوَ الأَظْهَرُ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ بَيَّنَ ـ جَلَّ وَعَلَا، فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ: أَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي أَرَاهَا فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ بَعْضُهَا أَعْظَمُ مِنْ بَعْضٍ، كَمَا قَالَ تَعَالى في الآيةِ: 23، مِنْ هذِهِ السُّورةِ المُبَاركَةِ: {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى، وكما قالَ في الآيةِ: 48، مِنْ سُورَةِ الزُّخْرُفِ: {وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا}، وَقَالَ ـ سُبْحانَهُ، مِنْ سُورَةِ النَّازِعاتِ: {فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى * فكَذَّبَ وَعَصى} الآيَتانِ: (20 و 21)، لِأَنَّ "الْكُبْرَى" صِيغَةُ تَفْضِيلٍ تَأَنِيثُ "الْأَكْبَرِ"، فَتَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا أَكْبَرُ مِنْ غَيْرِهَا.
قوْلُهُ: {فَكَذَّبَ وَأَبَى} أَيْ: أَنَّ فِرْعَوْنَ كَذَّبَ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، مَعَ كُلِّ مَا أَرَاهُ اللهُ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ آيَاتٍ مُعْجِزَاتٍ وَبَرَاهِينَ دَالَّةٍ عَلَى صِدْقِ نَبِيِّهِ، وَكَذَّبَ رَسُولَ رَبِّهِ، وَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ الْحَقِّ مِنْهُ.
وَقَدْ أَوْضَحَ ـ جَلَّ وَعَلَا، فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ شِدَّةَ إِبَائِهِ وَعِنَادِهِ وَتَكَبُّرِهِ عَلَى نَبِيِّ اللهِ مُوسَى فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ العَزيزِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الأَعْرَاف: {وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} الآيَةَ: 132، وَقَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ الشُعراء: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} 29، وَقَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ الزُّخْرُف: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ} الآيةَ: 47، وَقَوْلِهِ في الآياتِ: (51 ـ 53) مِنْها: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ}. وَلَمْ يُذْكَرْ مَفْعُولُ "كَذَّبِ" وَ "أَبى" تَعْظِيمًا لَهُ، ولأَنَّهُ مَعْلُومٌ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ بَيْنَ الْجُمَلِ الَّتِي حَكَتْ مُحَاوَرَةَ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ وَقَعَتْ هَذِهِ كَالْمُقَدِّمَةِ لِإِعَادَةِ سَوْقِ مَا جَرَى بَيْنَ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ مِنَ الْمُحَاوَرَةِ. فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةً عَلَى الجُمْلَةِ: 49، السَّابِقَةِ.
قوْلُهُ تَعَالى: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا} الواوُ: اسْتِئْنَافِيَّةٌ، واللَّامُ: مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ، و "قد" حَرْفُ تَحْقِيقٍ. و "أَرَيْنَاهُ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٍ هُوَ "نَا" المُعَظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهُ، وَ "نَا" التَعْظيمِ هَذِهِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ عَلَى الفَاعِلِيَّةِ، والهاءُ: ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى المَفْعُولِيَّةِ. و "آيَاتِنَا" مَفْعُولٌ بِهِ ثَانٍ لٍـ "رَأَى البَصَرِيَّةِ"، وَلَكِنَّهَا تَعَدَّتْ إِلَى اثْنَيْنِ لِدُخُولِ هَمْزَةِ النَّقْلِ عَلَيْهَا، وهُوَ مُضافٌ، وَ "نَا" ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "كُلَّهَا" تَأْكِيدٌ معنويٌّ لِـ "آيَاتِنَا" منصوبٌ مِثْلُهُ وهو مُضافٌ، و "ها" ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إليْهِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ جَوَابُ القَسَمِ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ، وَجُمْلَةُ القَسَمِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ أَيضًا.
قوْلُهُ: {فَكَذَّبَ وَأَبَى} فَكَذَّبَ: الفاءُ: حرفُ عَطْفٍ، و "كَذَّبَ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ الظاهِرِ على آخِرِهِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلى فِرْعَوْنَ، وَالجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "أَرَيْنَاهُ" عَلَى كَوْنِها جملةً واقعةً جَوَابَ القَسَمِ لَا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ. وَ "وَأَبَى" الواوُ: حرفُ عطْفٍ، و "أَبَى" فِعل مَاضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ المُقدَّرِ على آخِرِهِ، لتعذُّرِ ظهورِهِ عَلَى الأَلِفِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلى فِرْعَوْنَ، وَالجُمْلَةُ الفعلِيَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "أَرَيْنَاهُ" على كَوْنِها معطوفةً على جملةِ جَوَابِ القَسَمِ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ.