فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58)
قوْلُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ} لَمَّا رَأَى فرعونُ آيَاتِ اللهِ البيِّناتِ وَمُعْجِزَاتِهُ الْبَاهِرَاتِ، ادَّعَى أَنَّهَا سِحْرٌ، وَأَقْسَمَ مُتَوَعِّدًا مُوسَى لِيَأَتِيَنَّهُ بِسِحْرٍ مِثْلِ آياتِ اللهِ الَّتي ظَنَّها سِحْرًا. وَقد ذُكِرَ في موضِعٍ آخَرَ مِنْ كِتابِ اللهِ الكَريمِ أَنَّ هذا التَوَعُّدَ كَانَ بِقرارٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ بينَ فِرْعَوْنَ ومَلَئِهِ بَعْدَ التشاورِ معهُمْ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ اللهُ تَعَالى فِي الآيَاتِ: 109 ـ 112، مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ: {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ * قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ}. وَقَالَ مِنْ سُورةِ الشُّعَرَاءِ: {قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ * قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ} الْآيَاتِ: (34 ـ 37)، يَدُلُّ عَلَى ذلكَ قَوْلَهُ في المَوْضِعَيْنِ: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} إِذًا فَإِنَّ قَوْلَهُ: "فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ" إنَّما كانَ بَعْدَ تَشَاوَرٍ وَاتِّفَاقِ عَلَى ذَلِكَ مَعَ مَلَئِهِ. وَإِنَّما أَسْنَدَ الْإِتْيَانَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ إِلَى ضَمِيرِ نَفْسِهِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ.
وَإِتْيَانُ فِرْعونَ للسِّحْرِ إِنَّما هُوَ إِحْضَارُهُ السَّحَرَةَ، وإِذًا فالمَعْنَى: فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِمَّنْ هَوَ مِنْ شَأْنِهِمْ واخْتِصاصِهم، إِذِ لَا بُدَّ للسِّحْرِ مِنْ سَاحِرٍ لِيَأْتيَ بِهِ. وَ "مِثْلِهِ" يَعْنِي مِنْ جِنْسِهِ، وليسَ شَرطًا أَنْ يَكونُ في قُوَّتِهِ، فقد يكونُ كَذلكَ وَقَدْ لا يَكونَ.
قَوْلُهُ: {فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا} يَجُوزُ فِي اللُّغَةِ: أَنْ يَكونُ المَوْعِدُ اسمًا للوَعْدِ فَيَكونُ مَصْدَرًا، كما يَجُوزُ أَنْ يَكونَ اسْمًا لِمَكَانِ الوَعْدِ، كما في قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورةِ الحِجْرِ: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ} الآيَةَ: 43. فَالْمَوْعِدُ هَهُنَا يَنْبَغِي أَنْ يَكونَ مَكانًا؛ لِأَنَّ جَهَنَّمَ مَكانٌ، وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكونَ المَوْعِدُ اسْمًا لِزَمَانِ الوَعْدِ، كما في قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سورةِ هُودٍ: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ} الآيةَ:81، وَالَّذي فِي هَذِهِ الآيَةِ هُوَ المَصْدَرُ: اجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ وَعْدًا، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ: "لَا نُخْلِفُهُ" أَيْ: لَا نُخْلِفَ ذَلِكَ الوَعْدَ، وَالإِخْلافُ: أَنْ يَعِدَ الرَّجُلُ العِدَةَ ثمَّ لَا يُنْجِزُ مَا وَعْدَ بِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْمَوْعِدِ هُنَا الْمَصْدَرُ الْمِيمِيُّ، أَيِ الْوَعْدُ، وَأَنْ يُرَادَ بِهِ مَكَانُ الْوَعْدِ، وَيكونُ هَذَا مِنَ إِيجَازِ الْكَلَامِ.
وَتَعْيِينُ الْمَوْعِدِ غَيْرُ المُخْلَفِ يَقْتَضِي تَعْيِينَ زَمَانِهِ لَا مَحَالَةَ، إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ الْإِخْلَافُ إِلَّا إِذَا كَانَ لِلْوَعْدِ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ، وَمَكَانٌ مُعَيَّنٌ، ولذلكَ فَقد طَابَقَهُ جَوَابُ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، بِقَوْلِهِ بعدَها: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} الآيةَ: 59، التَّالِيَةَ.
قولُهُ: {لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ} أَيْ: نَلْتَزِمُ بهِ نَحْنُ وَأَنْتَ فَلَا يُخْلِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، وَإِخْلَافُ الوَعْدِ: يَعْني عَدَمَ إِنْجَازِهِ والوَفاءِ بِهِ، أَوْ تأخيرَ ذَلِكَ المَوْعِدِ أَوْ تَأْجيلَهُ.
قولُهُ: {مَكَانًا سُوًى} أَيْ: مَكَانًا وَسَطًا أَيْ نِصْفًا وَعَدْلًا بَيْنَ أَطْرَافِ الْبَلَدِ، لِيَتَمَكَّنَ جَمِيعُ النَّاسِ أَنْ يَحْضُرُوا. وَأَصْلُ "سُوًى" مِنَ الِاسْتِوَاءِ. لِأَنَّ الْمَسَافَةَ مِنَ الْوَسَطِ إِلَى الطَّرَفَيْنِ لَا تَفَاوُتَ فِيهَا بَلْ هِيَ مُسْتَوِيَةٌ. وَفِيهِ ثَلَاثُ لُغَاتٍ: الضَّمُّ، وَالْكَسْرُ مَعَ الْقَصْرِ، وَفَتْحُ السِّينِ مَعَ الْمَدِّ. وَمِنْ إِطْلَاقِ الْعَرَبِ مَكَانًا سُوًى عَلَى الْمَكَانِ الْمُتَوَسِّطِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ قَوْلُ مُوسَى بْنُ جَابِرٍ الْحَنَفِيِّ:
وَإِنَّ أَبَانَا كَانَ حَلَّ بِبَلْدَةٍ سُوًى ................ بَيْنَ قَيْسِ عَيْلَانَ وَالْفِزْرِ
وَقَدْ أَنْشَدَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ شَاهِدًا لِذَلِكَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "مَكَانًا سُوًى" قَالَ: مُنَصِّفًا بَيْنَهُمْ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "مَكَانًا سُوًى" قَالَ: نِصْفًا بَيْنِي وَبَيْنِكَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ السُّدِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "مَكَانًا سُوًى" قَالَ: عَدْلًا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "مَكَانًا سُوًى"، قَالَ: مَكَانًا مُسْتَوِيًا يَتَبَيَّنُ النَّاسُ سَوَاءً فِيهِ لَا يَكونُ صَوْتٌ، وَلَا شَيْءٌ يَتَغَيَّبُ بَعْضَ ذَلِكَ عَنْ بَعْضٍ مُسْتَوً حِينَ يَرَى.
قوْلُهُ تَعَالى: {فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ} الفاءُ: حرفُ عَطْفٍ لِتَرْتِيبِ مَا بَعْدَهَا عَلى مَا قَبْلَهَا، واللَّامُ وَاقِعَةٌ فِي جَوَابِ قَسَمٍ مَحْذوفٍ، فَكأَنَّهُ قِيلَ: إِذَا كانَ الأَمْرُ كَذَلِكَ فَوَاللهِ لَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلَ سِحْرِكَ هذا الذي أَتَيْتَ بِهِ، أَوْ هِيَ الفَصِيحَةُ، أَفْصَحَتْ عَنْ جَوَابِ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ بـ: إِذَا كَانَ الأَمْرُ كَذلِكَ فَأَقولُ لَكَ: لَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلَ سِحْرِكَ هذا الذي أَتَيْتَ بِهِ، وَ "لَنَأْتِيَنَّكَ" اللَّامُ: مُوَطِّئَةٌ للقَسَمِ، وَ "نَأْتِيَنَّكَ" فِعْلٌ مُضارِعٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ لاتِّصالِهِ بِنُونِ التَّوْكِيدِ الثَّقيلَةِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ، لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجَازِمِ، والنُّونُ للتَّوْكيدِ، وَفَاعِلُهُ: ضَمِيرٌ مُسْتتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (نَحْنُ) يَعُودُ عَلى فِرْعَوْنَ وقومِهِ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصِبِ عَلَى المَفْعُوليَّةِ. و "بِسِحْرٍ" الباءُ: حَرْفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "نَأْتِيَنَّ"، وَيَجوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَحْذُوفِ حَالٍ مِنْ فاعِلِهِ، أَيْ: مُتَلَبِّسينَ "بِسِحْرٍ"، وَ "سِحْرٍ" مجرورٌ بِحِرْفِ الجَرِّ. و "مِثْلِهِ" صِفَةٌ لِـ "سِحْرٍ" مجرورةٌ مِثلُهُ، وهو مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ: جَوَابُ القَسَمِ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ، وَجُمْلَةُ القَسَمِ: فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولٌ لِجَوَابِ "إِذَا" المُقَدَّرَةِ، وَجُمْلَةُ إِذَا المُقَدَّرَة مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.
قوْلُهُ: {فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا} الفَاءُ: للعَاطْفِ والترتيبِ، و "اجْعَلْ" أَمْرٍ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ، وَفَاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنْتَ) يَعودُ عَلى سيِّدِنا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ، وَالجُمْلَةُ مَعْطوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "نَأْتِيَنَّ" على كونِها واقعةً جَوَابَ القَسَمِ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ. و "بَيْنَنَا" مَنْصوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الاعتبارِيَّةِ، مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفِ مَفْعُولٍ ثانٍ للجَعْلِ، وهوَ مُضافٌ، وَ "نَا" ضَميرُ جماعةِ المُتَكَلِّمينَ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإِضافةِ إِلَيْهِ. و "وَبَيْنَكَ" الواوُ: للعَطْفِ، و "بَيْنَكَ" منصوبٌ على الظرفيةِ مَعْطُوفٌ عَلَى الظَّرْفِ قبلَهَ، مُضافٌ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "مَوْعِدًا" مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ مَفْعُولُ الجَعْلِ الأَوَّلُ منصوبٌ بِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ زَمَانًا، وَيُرَجِّحُهُ قَوْلُ موسى في الآيَةِ التَالِيَةِ: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} فيكونُ المَعْنَى: عَيَّنْ لَنَا وَقْتَ اجْتِمَاعٍ؛ وَلِذَلِكَ أَجَابَهُمْ بِقَوْلِهِ: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة}. وَضُعِّفَ هَذَا بِأَنَّهُ يَنْبُوا عَنْهُ قَوْلُهُ: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ}، وَبِقَوْلِهِ: {لا نُخْلِفُهُ". وَأُجيبَ عَنْ قَوْلِهِ: "لا نُخْلِفُهُ" بِأَنَّ المَعْنَى: لَا نُخْلِفُ الوَقْتَ فِي الاجْتِماعِ. وَيَجوزُ أَنْ يَكونَ مَكانًا، فَيَكونُ المَعْنَى: بَيِّنْ لَنَا مَكانًا مَعْلومًا نَعْرِفُهُ نَحْنُ وَأَنْتَ، ويُؤَيَّدُ هذا قَوْلُهُ: "مَكَانًا سُوًى" فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَكانٌ، وَقَوْلُهُ: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} يَنْبُوْ عَنْ هَذَا التَأْويلِ. وَيَجوزُ أَنْ يَكونَ مَصْدَرًا، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: "لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ" لِأَنَّ المُوَاعَدَةَ تُوْصَفُ بالخُلْفِ وَعَدَمِهِ. وَإليهِ نحا جَمَاعَةٌ مُخْتَارينَ لَهُ، وَقَدْ رُدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِينَةِ} لعدَمِ مَطابَقَتِهِ لَهَ. فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنْ جَعَلْتَهُ زَمانًا نَظَرًا لأَنَّ قَوْلَهُ: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة} مُطابقٌ لَهُ، لَزِمَكَ شَيْئَانِ: أَنْ تَجْعَلَ الزَّمانَ مُخْلَفًا، وَأَنْ يَعْضُلَ عَلَيْكَ نَاصِبُ "مَكَانًا"، وَإِنْ جَعَلْتَهُ مَكانًا لِقَوْلِهِ: "مَكَانًا سُوى" لَزِمَكَ أَيْضًا أَنْ تُوْقِعَ الإِخْلافَ عَلَى المَكَانِ، وَأَنْ لَا يُطابِقَ قَوْلَهُ {مَوْعِدُكم يَومُ الزِّينَةِ}، وَقِراءَةُ الحَسَنِ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، غَيْرُ مُطَابِقَةٍ لَهُ زَمَانًا وَمَكانًا جَمِيعًا لِأَنَّهُ قَرَأَ "يوْمَ الزِّينَةِ" ـ بِنَصْبِ يَوْمَ، فَبَقِيَ أَنْ يُجْعَلَ مَصْدَرًا بِمَعْنَى الوَعْدِ، وَيُقَدَّرَ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ، أَيْ: مَكَانُ الوَعْدِ، ويُجْعَلَ الضَمِيرُ في "نُخْلِفُهُ" للْمَوْعِدِ، ويُجْعَلَ "مَكانًا"، بَدَلًا مِنَ المَكانِ المَحْذوفِ. فَإِنْ قُلْتَ: فَكَيْفَ طَابَقَهُ قَوْلُهُ بعدَ ذلكَ: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ}، وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَجْعَلَهُ زَمَانًا، والسُّؤالُ وَاقِعٌ عَنِ المَكانِ لَا عَنِ الزَّمانِ؟. قُلْتُ: هُوَ مُطابقٌ لهُ مَعْنًى، وَإِن لَّمْ يُطابِقْهُ لَفْظًا؛ لِأَنَّهُمْ لَا بُدَّ لَهُمْ أَنْ يَجْتَمِعُوا يَومَ الزِّينَةِ فِي مَكانٍ بِعَيْنِهِ مُشْتَهِرٍ بِاجْتِمَاعِهِمْ فِيهِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ. فَبِذِكْرِ الزَّمَانِ عُلِمَ المَكانُ. وأَمَّا قِراءَةُ الحَسَنِ فَالْمَوْعِدُ فِيها مَصْدَرٌ لَا غَيْرَ. والمَعْنَى: إِنْجازُ وَعْدِكُمْ يكونُ يَوْمَ الزِّينَةِ، وَيكونُ قَدْ طَابَقَ هَذَا مِنْ طَريقِ المَعْنَى أَيْضًا. وَيَجُوزُ أَنْ لَا يُقَدَّرَ ثَمَّةَ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ، وَعلَيْهِ فالمَعْنَى: اجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ وَعْدًا لَا نُخْلِفُهُ.
وَقالَ العُكْبُريُّ أَبُو البَقاءِ: هُوَ هُنَا مَصْدَرٌ لِقَوْلِهِ: {لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ}. وَالجَعْلُ هُنَا بِمَعْنَى التَّصْيِيرِ. وَ "مَوْعِدًا" مَفْعُولُهُ الأَوَّلُ، والظَّرْفُ هُوَ مَفْعولُهُ الثاني. وَالجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: "لَا نُخْلِفُهُ" صِفَةٌ لِـ "مَوْعِدًا". و "نحنُ" تَوْكِيدٌ مُصَحِّحٌ للعَطْفِ عَلَى الضَّميرِ المَرْفوعِ المُسْتَتِرِ في "نُخْلفه" و "مَكانًا" بَدَلٌ مِنَ المَكانِ المَحْذوفِ ـ كَمَا قَرَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ آنِفًا. وَجَوَّزَ أَبو عَلِي الفارِسِيُّ وَأَبُو البَقَاءِ العُكْبُريُّ أَنْ يَنْتَصِبَ "مكانًا" عَلى أَنَّهُ المَفْعولُ الثاني لِـ "اجْعَلْ". قالَ: وَ "مَوْعِدًا" عَلى هَذا مَكانٌ أَيْضًا، وَلَا يَنْتَصِبُ بـ "مَوْعِدًا" لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ قَدْ وُصِفَ، يَعْنِي أَنَّهُ يَصِحُّ نَصْبُهُ عَلَى أَنَّهُ المَفْعُولُ الثَّاني للجَعْلِ، وَلَكنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكونَ المَوْعِدُ بِمَعْنَى المَكانِ؛ لِيُطَابِقَ المُبْتَدَأَ أَو الخَبَرَ فِي الأَصْلِ. وَقَوْلُهُ: وَلَا يَنْتَصِبُ بِالمَصْدَرِ يَعْني أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُدَّعَى انْتِصَابُ "مَكانًا" بِـ "مَوْعِدًا". وَالمُرادُ بِالْمَوْعِدِ المَصْدَرُ، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا مِنْ جِهَة المَعْنَى؛ لِأَنَّ الصِّنَاعَةَ تَأْباهُ، وَهوَ وَصفُ المَصْدرِ، وَشَرْطُ إِعْمالِ المَصْدَرِ عِنْدَ الجُمهورِ هوَ عَدَمُ وصفِه قَبْلَ العَمَلِ.
وَهَذا الذي مَنَعَهُ أَبو عليٍّ الفَارِسِيُّ، وَأَبُو البَقَاءِ العُكْبُريُّ، جَوَّزَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَبِهِ بَدَأَ فَقالَ: فَإِنْ قُلْتَ: فَبِمَ يَنْتَصِبُ قولُهُ "مَكانًا؟" قُلْتُ: بِالْمَصْدَرِ، أَوْ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ المَصْدَرُ. فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يُطابِقُهُ الجَوَابُ؟ قُلْتُ: أَمَّا عَلَى قِراءَةِ الحَسَنِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا عَلى قِراءَةِ العامَّةِ فَعَلَى تَقْديرِ: وَعْدُكُمْ وَعْدُ يَوْمِ الزِّينَةِ.
قالَ الشَّيْخُ أَبو حيَّان: وَقَوْلُهُ: إِنَّ "مَكانًا" يَنْتَصِبُ بالمَصْدَرِ لَيْسَ بِجائزٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وُصِفَ قَبْلَ العَمَلِ بِقَوْلِهِ: "لَا نُخْلِفُهُ" وَهُوَ مَوْصُولٌ، وَالمَصْدَرُ إِذا وُصِفَ قَبْلَ العَمَلِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْمَلَ عِنْدَهُمْ. قالَ السَّمينُ الحَلَبِيِّ: الظُّروفُ والمَجْرُوراتُ يُتَّسَعُ فِيها مَا لَمْ يُتَّسَعْ في غَيْرِهَا. وَفِي المَسْأَلَةِ خَلافٌ مَشْهُورٌ، وقدْ نَحَا أَبُو القاسِمِ الزَّمَخْشَريُّ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ.
وقدْ جَعَلَ الحُوفِيُّ انْتِصَابَ "مَكانًا" عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَانْتِصابَهُ بِـ "اجْعَلْ". فَقد تَحَصَّل لنا في نَصْبِ "مَكانًا" خَمْسَةُ أَوْجُهٍ هيَ:
أَوَّلُهَا: أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ "مَكانًا" المَحْذُوفِ.
ثانيها: أَنَّهُ مَفْعُولٌ بهِ ثانٍ للجَعْلِ.
ثالثُها: أَنَّهُ نُصِبَ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ مُقدَّرٍ.
رابِعُها: أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِنَفْسِ المَصْدَرِ.
الخامِسُ: أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلى الظَّرْفِيَّةِ بِـ "اجْعَلْ" نَفْسِهِ.
قَوْلُهُ: {لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ} لَا: نافيةٌ، وَ "نُخْلِفُهُ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (نحنُ) يَعُودُ لِفِرْعَوْنَ وَسَحَرَتِهِ. وَ "نَحْنُ" ضَمِيرٌ مُنْفَصِلٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَمِّ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ مُؤَكِّدٌ لِضَمِيرِ الفَاعِلِ المُسْتَتِرِ فِي "نُخْلِفُهُ" والجُملةُ صِفَة لِـ "مَوْعِدًا" فِي مَحَلِّ النَّصْبِ. و "وَلَا" الواوُ: للعَطْفِ، و "لَا" نَافِيَةٌ. و "أَنْتَ" ضَمِيرٌ مُنْفَصِلٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى الضَّميرِ المُسْتَتِرِ فِي "نُخْلِفُهُ"، وَيرى ابْنُ مَالِكٍ أَنَّهُ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالفاعِليَّةِ لِفِعْلٍ مَحْذوفٍ تَقْديرُهُ: "تُخْلِفُهُ" إِذْ لَمَّا حُذِفَ الفِعْلُ انْفَصَلَ الفَاعِلُ، فهُوَ لَيْس مُؤَكِّدًا للفَاعِلِ المُسْتَتِرِ فِي "نُخْلِفُهُ". وَحِينَئِذٍ تكونُ جُمْلَةُ "تُخْلِفُهُ" في مَحَلِّ النَّصْبِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ "نُخْلِفُهُ" وَلكِنَّ الإِعْرابَ الأَوَّلَ هُوَ المُعْتَمَدُ عِنْدَ المُعربينَ وَذَلِكَ عَلَى قَاعِدَةِ: يُغْتَفَرُ فِي الأَوَاخِرِ مَا لَا يُغْتَفَرُ فِي الأَوائِلِ.
قوْلُهُ: {مَكَانًا سُوًى} مَكَانًا: بَدَلٌ مِنْ "مَوْعِدًا" بِتَقْديرِ مُضَافٍ؛ أَيْ: مَكَانَ مَوْعِدٍ، وَيجوزُ أَنْ يكونَ نَصْبُهُ بِفِعْلٍ محذوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ المَصْدَرُ، والتقديرُ: عِدْ لَنَا مَكَانًا. و "سُوًى". صِفَةٌ لِـ "مَكَانًا" مَنْصُوبةٌ مِثْلُهُ؛ أَيْ: "مَكَانًا" وَسَطًا.
قرأَ الجُمهورُ: {سُوًى} بِرَفعِ السِّينِ مُنَوَّنًا، وَقَرَأَهُ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَالْكِسَائِيِّ ـ بِكَسْرِ السِّينِ. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَيَعْقُوبُ، وَخَلَفٌ ـ بِضَمِّ السِّينِ، وَهُمَا لُغَتَانِ، فَالْكَسْرُ بِوَزْنِ فِعَلْ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَزْنُ فِعَلْ يَقِلُّ فِي الصِّفَاتِ، نَحْوَ: قَوْمٌ عِدًى. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَأَبُو حَاتِمٍ، وَالنَّحَّاسُ: كَسْرُ السِّينِ هُوَ اللُّغَةُ الْعَالِيَةُ الْفَصِيحَةُ، وَهُوَ اسْمُ وَصْفٍ مُشْتَقٌّ مِنَ الِاسْتِوَاءِ: فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِوَاءُ اسْتِوَاءَ التَّوَسُّطِ بَيْنَ جِهَتَيْنِ. وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ لِمُوسَى ابْن جَابِرٍ الْحَنَفِيِّ:
وَإِنَّ أَبَانَا كَانَ حَلَّ بِبَلْدَةٍ ........... سِوًى بَيْنَ قَيْسٍ قَيْسِ عَيْلَانَ وَالْفِزْرِ
الْفَزْرُ: لَقَبٌ لِسَعْدِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ هُوَ بِكَسْرِ الْفَاءِ. وَالْمَعْنَى: قَالَ مُجَاهِدُ: إِنَّهُ مَكَانٌ نَصِفٌ، وَكَانَ الْمُرَادُ أَنَّهُ نِصْفٌ مِنَ الْمَدِينَةِ لِئَلَّا يَشُقَّ الْحُضُورُ فِيهِ عَلَى أَهْلِ أَطْرَافِ الْمَدِينَةِ. وَعَنِ ابْنِ زَيْدٍ: الْمَعْنَى مَكَانًا مُسْتَوِيًا، أَيْ لَيْسَ فِيهِ مُرْتَفَعَاتٌ تَحْجُبُ الْعَيْنَ، أَرَادَ مَكَانًا مُنْكَشِفًا لِلنَّاظِرِينَ لِيَشْهَدُوا أَعْمَالَ مُوسَى وَأَعْمَالَ السَّحَرَةِ.