اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي} قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما: يَعْني الآياتِ التِّسْعَ الَّتي بُعِثَ بِهَا مُوسَى. وَقَالَ آخَرُونَ: بآياتي: بِبَراهِيني وَحُجَجِي. وقالَ ابْنُ الأَنْبَارِيِّ: يَجُوزُ أَنْ يُريدَ ـ سُبْحانَهُ بِـ "آيَاتِي" العَصَا، وَالْيَدَ، وَأَوْقَعَ عَلَيْهِمَا اسْمَ الجَمْعِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُريدَهُما مَعَ حَلِّ العُقْدَةِ مِنْ لِسَانِهِ الَّتي لَمْ يَزَلْ مُوسَى يُعْرَفُ بِهَا.
قالَ الكَلْبِيُّ: وَكانَ هَارونُ يَوْمِئِذٍ بِمِصْرَ، فَأُلْهِمَ أَنْ يَتَلَقَّى مُوسَى، فَتَلَقَّاهُ مِنْ مِصْرَ، فَلَمَّا لَقِيَ مُوسَى قَالَ لَهُ مُوسَى: إِنَّ اللهَ أَمَرَني أَنْ آتِي فِرْعَوْنَ، فَسَأَلْتُ رَبِّي أَنْ يَجْعَلَكَ مَعِي.
قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْمُرَادُ بِالْآيَاتِ فِي قَوْلِهِ هُنَا: اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي الْآيَاتُ التِّسْعُ الْمَذْكُورَةُ بقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سورةِ الإسْراء: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} الْآيَةَ: 101، وَقَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ النَّمْل: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ} الْآيَةَ: 12. وَالْآيَاتُ التِّسْعُ الْمَذْكُورَةُ هِيَ: الْعَصَا، وَالْيَدُ الْبَيْضَاءُ. ... إِلَى آخِرِهَا.
قولُهُ: {وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} الْوَنَى فِي اللُّغَةِ: الضَّعْفُ، وَالْفُتُورُ، وَالْكَلَالُ، وَالْإِعْيَاءُ، يُقَالُ: وَنَى، يَنِي، وَنْيًا، ك "وَعَدَ يَعِدُ وَعْدًا" فهُوَ وَانٍ في الأَمْرِ وَمُتَوَانٍ، إِذَا ضَعُفَ. قَالَ الشَّاعِرُ الرَّاجِزُ رُؤْبَةُ بْنُ العَجَّاجِ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ:
فَمَا وَنَى مُحَمَّدٌ مُذْ أَنْ غَفَرْ .................. لَهُ الْإِلَهُ مَا مَضَى وَمَا غَبَرْ
وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ فِي مُعَلَّقَتِهِ الشَّهِيرَةِ:
مِسَحٌّ إِذَا مَا السَّابِحَاتُ عَلَى الْوَنَى ......... أَثَرْنَ غُبَارًا بِالْكَدِيدِ الْمُرَكَّلِ
والوَنْيُ الفُتُورُ. وِمْنُهُ امْرَأَةٌ أَنَاةٌ، وَصَفُوهَا بِفُتُورِها عَنِ القِيامِ كِنَايَةً عَنْ ضَخَامَتِهَا، قَالَ الشَّاعِرُ وَضَّاحُ اليَمَن:
مِنَّا الأَناةُ وبَعْضُ القومِ يَحْسَبُنا .............. أَنَّا بِطاءٌ وفي إبطائِنا سَرَعُ
وأَصْلُهُ "وَنَاةٌ". فَأُبْدٍلتِ الهَمْزَةُ مِنَ الوَاوِ ك "أَحَد" فإنَّ أصلَهُ "وَحَد". وَلَيْسَ بِالقِيَاسِ، وقدْ جاءَ في الحديثِ الشَّريف قولُهُ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، لِأَشَجِّ عبدِ القَيْسِ، الأَشَجِّ الْعَصَرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: ((إِنَّ فِيكَ لَخَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُما اللهُ: الحِلْمُ والأَنَاةُ)). أَخْرَجَهُ الأئمَّةُ: أَحْمَدُ: (3/22(11193)، والبُخَارِي، في "الأَدَب المُفْرَد": (585)، ومسلم: (1/36(26)، وَابْنُ مَاجَهْ: (2/1401، رقم: 4187)، وغيرُهُم.
والوَانِي: هو المُقَصِّرُ فِي أَمْرِهِ. مِنْ ذلكَ ما قَالَهُ الشَّاعِرُ حَارِثُ بْنُ وَعْلَةَ الشَّيْبَانِيُّ:
أَناةً وحِلْمًا وانْتِظارًا بِهِمْ غَدًا .......... فَمَا أَنَا بِالواني وَلَا الضِّرَعِ الغُمْرِ
ونُسِبَ هَذَا البيتُ لِغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الشُّعراءِ. وَ "وَنَى" فِعْلٌ لازِمٌ لَا يَتَعَدَّى، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يَكونُ مِنْ أَخَوَاتِ "زَالَ" وانْفَكَّ فَيَعْمَلُ بِشَرْطِ النَّفْيِ ـ أَوْ شِبْهِهِ، عَمَلَ "كانَ" فَيُقالُ: مَا وَنَى زَيْدٌ قَائِمًا. أَيْ: مَازَالَ زيدٌ قائمًا. وأَنْشَدَ الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ بْنُ مَالِكٍ شَاهِدًا عَلَى ذَلِكَ قَوْلَهُ:
لا يَنِيْ الحُبُّ شِيْمةَ الحِبِّ ما دا ............. مَ فلا تَحْسَبَنَّه ذا ارْعِواءِ
أَيْ لَا يَزَالُ الحُبُّ ـ بِضَمِّ الحَاءِ، شِيمَةَ الحِبِّ ـ بِكَسْرِها، وَهُوَ المُحِبُّ. وَمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ يَتَأَوَّلُ البَيْتَ عَلَى حَذْفِ حَرْفِ الجَرِّ؛ فإِنَّ هَذَا الفَعْلَ يَتَعَدَّى تَارَةً بـ "عَنْ" وتارةً بـ "في". يُقال: مَا وَنَيْتُ عَنْ حَاجَتِكَ أَوْ فِي حَاجَتِكِ. فالتَّقْديرُ: لَا يَفْتُرُ الحُبُّ في شِيمَةِ المُحِبِّ، وَفِيهِ مَجَازٌ بَلِيغٌ. وَقَدْ عُدِّيَ فِي الآيَةِ الكَريمَةِ بـ "فِي". قَالَ الفَرَّاءُ فِي "مَعَانِي القُرْآنِ" لَهُ: (2/179): "فِي ذِكري"، و "عَنْ ذِكْرِي" سَوَاءٌ. وَالمَعْنَى: لَا تُقَصِّرا في ذِكْرِي بِالإِحْسَانِ إِلَيْكُما وَالإِنْعَامِ عَلَيْكُمَا. وَذِكْرُ النِّعْمَةِ شُكْرُهَا.
فَقَوْلُهُ: وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي، أَيْ: لَا تَضْعُفَا، وَلَا تَفْتُرَا عَنْ ذِكْرِي، حِينَ تَبْلِيغِ رِسَالَتِي إِلَى فِرْعونَ، ولا تُقَصِّرا في أَداءِ الوَاجِبِ؛ فَقَدْ أَعْدَدْتُكُما الإِعْدَادَ المُنَاسِبَ لِهَذِهِ المَهَمَّةِ الشَّاقَّةِ، فَإِيَّاكُما أَنْ تَتَهاونا فيها، فإِنْ حَدَثَ مِنْكُما أَيُّ نَقْصٍ، أَوْ تَقْصِيرٍ فإِنَّما النَّقصُ وَالتَقْصيرُ فِي الأَداءِ، ولَيْسَ فِي الإِعْدَادِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَلَا تَنِيَا فِي ذَكْرِي" قَالَ لَا تَضْعُفا.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدٌ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِي اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، مِثْلَهُ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، مِثْلَهُ.
وَأَخْرَجَ الطَّسْتِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ قَالَ لَهُ: أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِهِ ـ عزَّ وَجَلَّ، "وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي" قَالَ: وَلَا تَضْعُفَا عَنْ أَمْرِي. قَالَ: وَهَلْ تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَم، أَمَا سَمِعْتَ الشَّاعِرَ وَهُوَ يَقُولُ: إِنِّي وَجَدِّكَ ما وَنِيتُ وَإِنَّنِي ................. أَبْغِي الفِكَاكَ لَهُ بِكُل سَبِيلِ
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَلَا تَنِيَا" قَالَ: لَا تُبْطِئَا.
وَقَدْ أَثْنَى اللهُ تَعَالى عَلَى مَنْ يَذْكُرُهُ مِنِ العِبَادِ فِي جَمِيعِ حَالَاتِهِ بقَوْلِهِ مِنْ سُورةِ آل عِمرانَ: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} الآيَةَ: 191، كَمَا أَمَرَ اللهُ بِذِكْرِ اسْمِهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ، عِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ فِي قَوْلِهِ مِنْ سُورةِ الأَنْفَالِ: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا} الآيَةَ: 45.
قولُهُ تَعَالَى: {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي} اذْهَبْ: فِعْلُ أَمْرٍ مبنيٌّ على السُّكونِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أنت) يَعُودُ عَلى مُوسَى ـ عليْهِ السَّلامُ. و "أَنْتَ" ضَمِيرٌ مُنْفَصِلٌ مُؤَكِّدٌ لِضَمِيرِ الفَاعِلِ المُسْتَتَرِ. و "وَأَخُوكَ" الواوُ للعَطْفِ، و "أَخُوكَ" مَعْطُوفٌ عَلَى ضَمِيرِ الفاعِلِ المُسْتَتِرِ فِي الفَعْلِ مرفوعٌ مِثْلُهُ، وَعَلامَةُ رَفْعِهِ الواوُ لأنَّهُ مِنَ الأَسْماءِ الخَمْسَةِ، وهو مُضافٌ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "بِآيَاتِي" الباءُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِحَالٍ مِنْ ضَمِيرِ الفاعِلِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ، وَهِيَ هُنَا للمُصَاحَبَةِ؛ أَيْ: حالَةَ كَوْنِكِمَا مَصْحُوبَيْنِ بِآيَاتِي، مُعْتَصِمَيْنِ بِهَا، وَلَيْسَتِ البَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ؛ لِأَنَّ المُرَادَ إِظْهَارُ الآياتِ للنَّاسِ، لَا مُجَرَّدَ الذَّهَابِ إِلَى فِرْعَوْنَ، و "آيَاتِي" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ، مُضافٌ، وياءُ المُتكلِّمِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليْهِ. وَالجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَقْريرِ المُرَادِ مِنَ الاصْطِنَاعِ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} وَلَا: الواوُ: عَاطِفَةٌ، و "لَا" ناهِيَةٌ جازمةٌ. و "تَنِيَا" فِعْل أَمْرٍ مَجْزُومٍ بِـ "لا" النَّاهِيَةِ، وعلامةُ جزمِهِ حَذْفُ النُّونِ مِنْ آخِرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخَمْسَةِ، وأَلِفُ الاثْنَيْنِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ. و "فِي" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلَّقٌ بِـ "تَنِيَا"، و "ذِكْرِي" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ، وهوَ مُضافٌ، وياءُ المُتَكَلِّمِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إليْهِ، والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ معطوفة عَلى جُمْلَةِ "اذْهَبْ" على كونِها مُسْتَأْنَفَةً لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ.
قرَأَ الجُمهورُ: {ولا تَنِيا في ذِكْري} بفتْحِ التاءِ، وَقَرَأ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ: "وَلَا تِنِيا" بِكَسْرِها إِتْبَاعًا لِحَرَكَةِ النَّوْن. وسَكَّن الياءَ مِنْ "ذِكْرِيْ".