إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74)
قَوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا} يُحَذِّرُ السَّحَرَةُ فِرْعونَ وَكُلَّ مَنْ ماتَ على الكُفْرِ والمَعْصِيَةِ مِنْ غضَبِ اللهِ وانْتِقامِهِ وَعَذَابِهِ السَّرْمَدِيِّ الشَّدِيدِ، وَيُرَغِّبُونَهُ فِي ثَوَابِهِ الْأَبَدِيِّ الْمُخَلَّدِ، المُجْرِمُ هُوَ مُرْتَكِبُ الجَريمةِ، والجَريمَةُ مُخالَفَةُ قوانينِ اللهِ تَعَالى التي شَرَعَها لِعِبَادِهِ، وهذا مِنْ جِهَتِهِمْ تَعْلِيلٌ لِكَوْنِهِ تَعَالَى شَأْنُه {خَيْرٌ وأَبْقَى} الآيةَ: 73، السَّابقة، وَتَحْقيقٌ لَهُ، وِإِبْطَالٌ لِمَا ادَّعَاهُ فِرْعَوْنَ، بقولِهِ: {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} الآيةَ: 71، السَّابقة. وَالْمُجْرِمُ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ هُوَ الْكَافِرُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى في الآيةِ: 29، مِنْ سورةِ المُطَفِّفين: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ}.
قَوْلُهُ: {فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ} هذِهِ اللَّامُ هُنَا في "له" هِيَ لَامُ الِاسْتِحْقَاقِ، أَيْ هُوَ صَائِرٌ إِلَيْهَا لَا مَحَالَةَ. و "جهنَّم" اسْمٌ للنارِ الَّتِي يُعَذِّبُ اللهُ بها في الآخِرةِ، وقدْ سُمِّيَتْ "جهَنَّم" لِبُعْدِ قَعْرِها، فإِنَ (الجِهنَّامَ) في اللغةِ: القَعْرُ البَعيدُ، يُقالُ بِئْرٌ جَهَنَّمٌ، وجِهِنَّامٌ ـ بِكَسْرِ الجِيمِ والهاءِ، أَيْ: بَعِيدَةُ القَعْرِ، وَبِهِ سُمِّيَتْ "جَهَنَّمُ" لِبُعْدِ قَعْرِها، وهوَ اسْمٌ مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرفِ بالعَلَمِيَّةِ والتَأْنيثِ، وقيلَ: بالعَلَمِيَّةِ والتَأْنِيثِ والعُجْمَةِ أَيْضًا ـ عِنْدَ مَنْ قالَ بأَنَّها مِنْ أصْلٍ أَعْجَمِيٍّ.
قولُهُ: {لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى} أَيْ لَا يَنْتَفِعُ بِحَيَاتِهِ، وَلَا يَسْتَرِيحُ بِمَوْتِهِ، فهوَ كَمَا قَالَ عُبَيْدُ اللهِ ابْنُ عَبْدِ اللهِ ابْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَحَدُ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ السَّبْعَةِ:
أَلَا مَنْ لِنَفْسٍ لَا تَمُوتُ فَيَنْقَضِي ........ شَقَاهَا وَلَا تَحْيَا حَيَاةً لَهَا طَعْمُ
أَوْ أَنَّ نَفْسَ الكافِرِ مُعَلَّقَةٌ بِحَنْجَرَتِهِ، فَلَا يَمُوتُ بِفِرَاقِها. وَلَا يَحْيَا باسْتِقْرارِهَا. وقَالَ في الآيةِ: 56، مِنْ سورةِ النِّساءِ: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ}، وقالَ مِنْ سورةِ إِبْراهيمَ ـ عليْهِ السَّلامُ: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} الآيات: (15 ـ 17)، وقالَ مِنْ سورةِ فاطِر: {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} الآيةَ: 36، وَقَالَ مِنْ سُورَةِ الزُّخرُفِ: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} الآيةَ: 77. وَقَالَ مِنْ سورةِ الأَعْلَى: {الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} الْآيتانِ: (12 و 13).
وَأَخرجَ الْإمامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَمَّا أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا، فَإِنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ فِيهَا وَلَا يَحْيَوْنَ وَلَكِنَّ النَّاسَ تُصِيبُهُمُ النَّارُ بِذُنُوبِهِمْ، فَتُمِيتُهُمْ إِمَاتَةً، حَتَّى إِذَا صَارُوا فَحْمًا، أُذِنَ فِي الشَّفَاعَةِ، جِيءَ بِهِمْ ضَبَائِرَ، ضَبَائِرَ، فبُثُّوا عَلَى أَنْهَارِ الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، أَفِيضُوا عَلَيْهِمْ فَيَنْبُتُونَ نَبَاتَ الْحَبَّةِ تَكُونُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ)). فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: كَأَنَّ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ بِالْبَادِيَةِ. مُسْنَدُ أَحْمَد: (3/255، رقم: 13703)، وَصحيحُ مُسْلِمٌ فِي (الإيمانِ، (ح/308)، والتِّرْمِذِيُّ: (3225)، وَتفسير الطَّبَرِيُّ: (22/137). والطيالِسِيُّ: (2236)، والبَيْهَقِيُّ في "البَعْثِ والنُّشُورُ": (61)، وابن ماجة: (ح/3409)، والحاكم في المُسْتدرك: (3/619) وابْنُ عَسَاكِرَ في "التَّاريخ": (6/110) والدَّيْلَمِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ في تَفْسِيرِهِ ونَصُّهُ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَطَبَ فَأَتَى عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ: "إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا}، فقَالَ: ((أَمَّا أَهْلُهَا الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا، فَلَا يَمُوتُونَ فِيهَا وَلَا يَحْيَوْنَ، وَأَمَّا الَّذِينَ لَيْسُوا مَنْ أَهْلِهَا، فَإِنَّ النَّارَ تَمَسُّهُمْ، ثُمَّ يَقُومُ الشُّفَعَاءُ فَيَشْفَعُونَ، فَتُجْعَلُ الضَّبَائِرُ، فَيُؤْتَى بِهِمْ نَهْرًا يُقَالُ لَهُ: الْحَيَاةُ ـ أَوِ: الْحَيَوَانُ، فَيَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ القثَّاء فِي حَمِيلِ السَّيْلِ)). والضَبائرُ: الجماعاتُ.
قوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا} إِنَّهُ: حرفٌ ناصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ يفيدُ التوكيدَ، والهاءُ: ضميرٌ الشَأْنِ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ اسْمُهُ. و "مَنْ" اسِمُ شَرْطٍ مَبْنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابْتِداءِ، وخَبَرُهُ جُمْلَةُ الشَّرْطِ، أَوِ الجَوابِ، أَوْ هُمَا مَعًا. و "يَأْتِ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَجْزومٌ بِـ "مَنْ" عَلَى كَوْنِهِ فِعْلَ شَرْطٍ لَهَا، وعَلامَةُ جَزْمِهِ حَذْفُ حرفِ العلَّةِ مِنْ آخِرِهِ وهوَ الياء، وَفَاعِلُهُ: ضَمِيرٌ مُسْتتِرٌ فِيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى "مَنْ". و "رَبَّهُ" مَنْصوبٌ على المَفْعُوليَّةِ، وهوَ مُضافٌ، والهَاءُ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ. وَ "مُجْرِمًا" منصوبٌ على الحالِ مِنْ فَاعِلِ "يَأْتِ".
قوْلُهُ: {فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ} الفاءُ: رَابِطَةٌ لِجَوَابِ "مَنْ" الشَّرْطِيَّةِ، و "إِنَّ" حَرْفٌ ناصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ للتَّوْكيدِ. و "لَهُ" اللامُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرِ "إِنَّ" مُقَدَّمٌ عَلَى اسْمِهَا، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. وَ "جَهَنَّمَ" اسْمُهُا مُؤَخَّرٌ مَنْصُوبٌ بِهَا، وَجُمْلَةُ "إِنَّ" فِي مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "مَنْ" الشَّرْطِيَّةِ عَلَى كَوْنِهَا جَوَابًا لَهَا، وَجُمْلَةُ "مَنْ" الشَّرْطِيَّةِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "إِنَّ"، وَجُمْلَةُ "إِنَّ" فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القَوْلِ لِـ "قَالُوا".
قَوْلُهُ: {لَا يَمُوتُ} لَا: نافِيَةٌ، وَ "يَمُوتُ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى "مَنْ". وَ "فِيهَا" في: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يَمُوتُ"، و "ها" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مبْنيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ، والجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنِ الضَّميرِ في "لَهُ" أَوْ مِنْ "جَهَنَّمَ"؛ لأَنَّ فِي الجُمْلَةِ ضَمِيرَ كُلٍ مِنْهُمَا.
قَوْلُهُ: {وَلَا يَحْيَى} الوَاوُ: للعَطْفِ، و "لا" نافيَةٌ كَسَابِقَتِها، و "يَحْيَا" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رَفْعِهِ ضمَّةٌ مُقدَّرةٌ على آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظُهُورِها على الأَلِفِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى "مَنْ". والجُمْلَةُ معطوفةٌ عَلى جُمْلَةِ "لَا يَموتُ} على كونِها في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الحالِ.