قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59)
قَوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} حدَّدَ فِرْعَوْنُ فِي الآيَةِ السَّابِقَةِ مَكانَ المُبَارَزَةِ فَقَالَ {مَكَانًا سُوًى}، وَطَلَبَ مِنْ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، أَنْ يُحَدِّدَ زَمَانَ هَذِهِ المُبارَزَةِ فقالَ {فاجْعَلْ لَنَا مَوعِدًا}، فَرَدَّ مُوسَى عَلَيْهِ هُنَا فَقَالَ: "موعِدُكمْ يومُ الزينةِ". ويَبْدو أَنَّ يَوْمَ الزِّينَةِ قدْ كانَ يَوْمًا يَجْتَمِعُ فِيهِ كُلُّ سُكَّانِ مِصْرَ، والظَّاهِرٌ أَنَّهُ اليَوْمَ الذي كانَ يُسَمَّى بـ "يومُ وَفاءِ النِّيلِ"، حَيْثُ كَانَ النَّاسُ يَخْرُجُونَ فِيهِ بِزينَتِهم مُحْتَفِين بِفَيَضَانِ النِّيلِ معبِّرينَ فيهِ عَنْ سُرورِهِمْ، بِكَثْرَةِ خَيْراتِ هَذَا النَّهْرِ العَظيمِ، وَبَرَكَاتِهِ، وَمَا زَالَتْ مِصْرُ تَحْتَفِلُ بِهَذَا اليَوْمِ إِلى الآنَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاصِ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ صَامَ يَوْمَ الزِّينَةِ، أَدْرَكَ مَا فَاتَهُ مِنْ صِيَامِ تِلْكَ السَّنَةِ، وَمَنْ تَصَدَّقَ يَوْمَئِذٍ بِصَدقَةٍ أَدْرَكَ مَا فَاتَهُ مِنْ صَدَقَةِ تِلْكَ السَّنَةِ، يَعْنِي يَوْمَ عَاشُورَاءَ. وَقَالَ عبدُ اللهِ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: وَكَانَ يَوْمُ الزِّينَةِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ. أَخْرَجَهُ عَنْهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَ: كَانَ يَوْمَ عِيدِهِمْ. فقد أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "قَالَ مَوْعدكُمْ يَوْم الزِّينَةِ" قَالَ: هُوَ يَوْمُ عِيدٍ كَانَ لَهُم. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: "مَوْعدكُمْ يَوْم الزِّينَة" قَالَ: يَوْمُ الْعِيدِ يَوْمَ يَتَفَرَّغُ النَّاسُ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَيَشْهدُونَ وَيَحْضُرُونَ وَيَرَوْنَ. وَأَخرْجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تعالى: "قَالَ مَوْعدكُمْ يَوْم الزِّينَةِ" قَالَ: هُوَ عيدُهم. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْن أَبي حَاتِمٍ عنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: هو يَوْمُ سُوقِهِمْ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَوْمُ السَّبْتِ. وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ أَنَّهُ يَوْمُ النَّيْرُوزِ، وَقِيلَ: هُوَ يَوْمٌ يُكْسَرُ فِيهِ الْخَلِيجُ، فَكَانُوا يَخْرُجُونَ فِي ذَلِكَ اليومِ فيَتَفَرَّجُونَ وَيَتَنَزَّهُونَ، وَعِنْدَ ذَلِكَ تَأْمَنُ الدِّيَارُ الْمِصْرِيَّةُ مِنْ قِبَلِ النِّيلِ. وَلَا مُنَافَاةَ، فَقَدِ كانَ افْتِضاحُهُمْ في ذَلِكَ اليَوْمِ، والحمدُ للهِ رَبِّ العالمينَ. وَقَدِ اخْتَارَ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، هَذَ اليوْمَ لأَنَّهُ كانَ عَلى ثِقَةٍ تَامَّةٍ بِنَصْرِ اللهِ تعالى لَهُ، وَمِثْلُ هَذَا الأَعَدَادِ الضَّخْمَةِ يَصْعُبُ جَمْعُها في أَيِّ وقتٍ آخرَ في غَيْرِ هّذِهِ المُنَاسِبَةِ، وَلِذَلِكَ أَرادَ أَنْ يَشْهَدَ مُعْجِزَةِ اللهِ تَعَالَى أَكبرُ عَدَدٍ مِنَ الناسِ، فَيُوفِّرُ عَلَى نَفْسِهِ الكثيرَ مِنَ الوَقْتِ والجُهْدِ، لِنَشْرِ الدَّعْوَةِ وتبليغِ الرِّسالةِ، واللهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: {وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} أَيْ: أنْ يُجْمَعَ النَّاسُ ضُحَىً، فالحَشْرُ: الجمعُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ الله عَنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعالى: "وَأَن يحْشر النَّاس ضُحًى" قَالَ: يَجْتَمعُونَ لذَلِكَ المِيعَادِ الَّذِي وَاعَدُوهُ. و "ضُحًى" أَيْ: فِي وَضَحِ النَّهارِ حَيْثُ يبلُغُ الحشْدُ ذُرْوَتَهُ، ويكونُ النَّاسُ في قمَّةِ نَشَاطِهِمْ الجِسْميِّ والذهنيِّ، لِيُتَابِعُوا مُجْرَيَاتِ الحدَثِ وَهُم عَلَى أَعلى دَرجةٍ مِنَ اليَقَظَةِ والقُدْرَةِ عَلَى التَّمْيِيزِ لِأَنَّهُ كَانَ وَاثِقًا مِنَ فَوْزِهِ في هَذَا النِّزالِ. وَهَذَا هوَ شَأْنُ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ ـ صلواتُ اللهِ عليهِمْ وسلامُهُ، فَإِنَّ أَمْرَهُمْ وَاضِحٌ وشَأْنَهم جَلِيٌّ، لا لَبْثَ فِيهِ ولا خَفَاءَ، وَلَا تَعْتِيمَ في دَعْوَتِهِم، ولَا تَمْوِيه. كَمَا قَالَ سيِّدُنا مُحمَّدٌ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيما رواهُ الأئمَّةُ مِنْ حديثِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، قَالَ: (وَعَظَنَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَوْعِظَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، قُلْنَا يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ هَذِهِ لَمَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟ قَالَ: ((قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى المَحِجَّةِ الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ، وَمَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، وَعَلَيْكُمْ بِالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، فَإِنَّمَا الْمُؤْمِنُ كَالْجَمَلِ الْأَنِفِ حَيْثُمَا انْقِيدَ انْقَادَ)). أَخْرَجَهُ الأَئِمَّةُ: أَحْمَدُ: (4/126، برقم: 17182)، وَابْنُ مَاجَهْ: (1/16، برقم: 43)، وَالحاكِمُ: (1/175، برَقم: 331)، والطَّبَرَانِيُّ: (18/257، برقم: 642). وَلِهَذَا فإنَّ سيُّدُنا مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، قالَ: "ضُحًى" أَيْ: جهارًا نَهَارًا. والضُّحَى لفظةٌ مُؤَنَّثَةٌ، قالَ أَبو جعفر النَّحَّاسُ: والْعَرَبُ تُصَغِّرُهَا بِغَيْرِ هَاءٍ لِئَلَّا يُشْبِه تَصْغيرُها ضَحْوَةً. وَقَالَ الجَوْهَرِيُّ: ضَحْوَةُ النَّهَارِ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، ثُمَّ بَعْدَهُ الضُّحَى، وَهِيَ حِينَ تُشْرِقُ الشَّمْسُ، مَقْصُورَةً تُؤَنَّثُ وَتُذَكَّرُ، فَمَنْ أَنَّثَ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا جَمْعُ ضَحْوَةٍ، وَمَنْ ذَكَّرَ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ اسْمٌ عَلَى فِعْلٍ مِثْلَ "صُرَدٍ" وَ "نُغَرٍ"، وَهُوَ ظَرْفٌ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ مِثْلَ "سَحَرٍ"، تَقُولُ: لَقِيتُهُ ضُحًا، وَضُحَا إِذَ أَرَدْتَ بِهِ ضُحَا يَوْمِكَ لَمْ تُنَوِّنْهُ، ثُمَّ بَعْدَهُ الضَّحَاءُ بِفَتْحِ الضَّادِ فَوْقَ الضُّحَى؛ مَمْدُودٌ مُذَكَّرٌ، وَهُوَ عِنْدَ ارْتِفَاعِ النَّهارِ الأَعْلَى. لِأَنَّ الضُّحَى ارْتَفَاعُ النَّهارِ، والضَّحاءُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهُوَ مَذَكَّرٌ لَا غَيْر، وَقدْ خَصَّ الضُحَا بالاخْتِيَارِ لِأَنَّهُ أَوَّلُ النَّهَارِ، فَلَوِ امْتَدَّ أَمْرُ المَبَارزَةِ فِيمَا بَيْنَهُ وبَيْنَ سَحَرَةِ فِرْعونَ وقتًا طويلًا كَانَ فِي النَّهَارِ مُتَّسَعٌ لِإْتمَامِ العَرضِ، ومُتابَعِةِ وَقائعِ هذِهِ المُبارزةِ، التي مِنْ شأْنِها أَنْ تكشِفَ الحقيقةَ، وتُعرِّيَ الزيفَ، وتُرسي دعائمَ الإيمانِ باللهِ ـ تَعَالى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ} فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ عَلى الفَتْحِ، وَفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلى سيِّدِنا "مُوسَى" عَلَيْهِ السَّلامُ، والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعراب.
قولُهُ: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} مَوْعِدُكُمْ: مَرْفوعٌ بالابْتِداءِ، مُضافٌ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، والميمُ لتذْكيرِ الجمعِ. و "يَوْمُ" خبرُهُ مرفوعٌ، مُضافٌ، و "الزِّينَةِ" مَجْرورٌ بالإضافةِ إِلَيهِ، والجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ مَقُولُ: "قَالَ".
قَوْلُهُ: {وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} الوَاوُ: عاطِفَةٌ، و "أَنْ" حَرْفٌ نَاصِبٌ مَصْدَرِيٌّ. و "يُحْشَرَ" فعلٌ مُضارعٌ مُغَيَّرُ الصِّيغَةِ مبنيٌّ للمجهولِ، مَنْصُوبٌ بِـ "أَنْ" المَصْدَرِيَّةِ. و "النَّاسُ" نَائِبٌ عَنْ فاعِلِهِ مَرْفوعٌ بِهِ. و "ضُحًى" مَنْصَوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الزَّمانيَّةِ، مُتَعَلِّقٌ بِـ "يُحْشَرَ"، وَتُذَكَّرُ هَذِهِ المُفْرَدَةُ وَتُؤَنَّثُ.
وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ مَعَ "أَنْ" المَصْدَرِيَّةِ فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَرْفوعِ، مَعْطوفٍ نَسَقًا عَلَى "يَوْمُ"، والتَّقْديرُ: مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَحَشْرُ النَّاسِ ضُحًى. أَوْ مَجْرُورٌ نَسَقًا عَطْفًا عَلَى "الزِّينَةِ" والتَّقْديرُ: يَوْمُ الزِّينَةِ وَيَوْمُ حَشْرِ النَّاسِ ضُحًى.
قَرَأَ الجُمهورُ: {يَوْمُ الزِّينةِ} بِرَفْعِ الميمِ، على أَنَّهُ خبرُ المُبْتَدَأِ كما تقدَّمَ في مبْحَثِ الإعرابِ، فإِنْ جَعَلْتَ "مَوْعِدُكُمْ" زَمَانًا لَمْ تَحْتَجْ إِلَى حَذْفِ مُضَافٍ؛ إِذِ التَّقْديرُ: زَمَانُ الوَعْدِ يَوْمُ الزِّينَةِ، وَإِنْ جَعَلْتَهُ مَصْدَرًا احْتِجْتَ إِلى حَذْفِ مُضافِ فيكونُ التَّقديرُ: وَعْدُكم وَعْدُ يَوْمِ الزِّينَةِ. أَيْ وَجُمِعَ النَّاسُ، فَـ "أَنْ" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: "يَوْمُ" بِالرَّفْعِ. وَعَطْفُ "وَأَنْ يُحْشَرَ" عَلَيْهِ يُقَوِّي هذِهِ القِرَاءَةَ، لِأَنَّ "أَنْ" لَا تَكُونُ ظَرْفًا، وَإِنْ كَانَ الْمَصْدَرُ الصَّرِيحُ يَكُونُ ظَرْفًا كَ "مَقْدِم الْحَاجِّ، لِأَنَّ مَنْ قَالَ: آتِيكَ مَقْدِمَ الْحَاجِّ لَمْ يَقُلْ آتِيكَ أَنْ يَقْدِمَ الْحَاجُّ. قالَ النَّحَّاسُ: وَأَوْلَى مِنْ هَذَا أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ عَطْفًا عَلى الزِّينَةِ.
وَقَرَأَ الحَسَنُ، والأَعْمَشُ، وَعِيسَى الثَّقَفيُّ، وَعَاصِمٌ ـ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ، وَأَبُو حَيَوَةَ، وابْنُ أَبي عَبْلَةَ، وَقَتَادَةُ، والجَحْدَرِيُّ، وَهُبَيْرَةُ عنْ عاصِمٍ: "يَوْمَ" بِنَصْبِ المِيمِ. وَفِي هِذِهِ القراءةِ ثلاثةُ أَوْجُه:
أَوَّلُ هَذِه الوُجُوهِ: أَنْهُ خَبَرٌ لِلمُبْتَدَأِ "مَوْعِدُ" عَلَى أَنَّ المُرادَ بالمَوْعِدِ المَصْدَرُ، أَيْ: وَعْدُكمْ كائنٌ فِي يَوْمِ الزِّينَةِ، وهذا كَقَوْلِكَ: القِتَالُ واقعٌ اليَوْمَ، وَالنَّصْرُ حاصِلٌ غَدًا.
ثانيها: أَنْ يَكُونَ "مَوْعِدُكُمْ" مُبْتَدَأً، قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالمُرَادُ بِهِ الزَّمَانُ، وَ "ضُحَى" خَبَرُهُ عَلَى نِيَّةِ التَّعْريفِ فِيِهِ؛ لِأَنَّهُ ضُحَى ذَلِكَ اليَوْمِ بِعَيْنِهِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ مَا النَّاصِبُ لِـ "يَوْمَ الزِّينَةِ"؟. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكونَ مَنْصُوبًا، بِـ "مَوْعِدُكُمْ" عَلَى هَذَا التَّقْديرِ؛ لِأَنَّ "مَفْعِلًا" مُرْادًا بِهِ الزَّمَانُ أَوِ المَكَانُ لَا يَعْمَلُ وَإِنْ كانَ مُشْتَقًّا، فَيَكونُ النَّاصِبُ لَهُ فِعْلًا مُقَدَّرًا. قالَ أَبو حَيَّان الأَنْدَلُسِيُّ مُعَقِّبًا على قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ: "عَلَى نِيَّةِ التَّعْريفِ": لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ ضُحَى ذَلِكَ اليَوْمِ بِعَيْنِهِ، فَلَيْسَ عَلَى نِيَّةِ التَّعْريفِ، بَلْ هُوَ نَكِرَةٌ، وَإِنْ كَانَ مِنْ يَوْمٍ بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَعْدُولًا عَنِ الأَلِفِ وَاللَّامِ كَ "سَحَر"، وَلَا هُوَ مُعَرَّفٌ بِالإِضَافَةِ، وَلَوْ قُلْتَ: جِئْتُ يَوْمَ الجُمُعَةِ بَكَرًا، لَمْ نَدَّعِ أَنَّ بَكَرًا مَعْرِفَةٌ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ مِنْ يَوْمٍ بِعَيْنِهِ.
الثالثُ: أَنْ يَكونَ "مَوْعِدُكُمْ" مُبْتَدَأً، وَالمُرادُ بِهِ المَصْدَرُ، وَ "يَوْمَ الزِّينَةِ" ظَرْفٌ لَهُ. وَ "ضُحًى" مَنْصُوبٌ عَلى الظَّرْفِ خَبَرًا لِلْمَوْعِدِ، كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُ فِي الوَجْهِ الأَوَّلِ بِيَوْمِ الزِّينَةِ نَحْوَ: اللِّقاءُ يَوْمَ كَذَا.
قَرَأَ الجُمْهورُ: {يُحْشَرَ الناسُ} بالبِنَاءِ للمَفْعُولِ ـ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي مَبْحَثِ الإِعْرابِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَالجَحْدَرِيُّ وَأَبُو نُهَيْكٍ، وَعَمْرُو بْنُ فائدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم: "وَأَنْ تَحْشُرَ النَّاسَ" بِتَاءِ الخِطابِ فِي "تَحْشُرَ"، بالبناءِ للفاعِلِ والضميرُ عائدٌ لفِرْعَوْنَ، عَلَى مَعْنَى وَأَنْ يَحْشُرَ اللَّهُ النَّاسَ وَنَحْوِهِ. ورُوِيَ عَنْهُمْ أَيْضًا: "يَحْشُرَ" بِيَاءِ الغَيْبَةَ. و "النَّاسَ" نَصْبٌ عَلى المفعوليَّة. والضميرُ في القراءَتَيْنِ عائدٌ لِفِرْعَوْنَ، أَيْ: وأَنْ تَحْشُرَ أَنْتَ يَا فِرعونُ، أَوْ: وَأَنْ يَحْشُرَ فِرْعَوْنُ. وَجَوَّزَ بَعْضُهُم أَنْ يَكونَ الفاعِلُ ضَمِيرَ اليَوْمِ فِي قِراءِة الغَيْبة؛ وذلك مجازٌ لمَّا كان الحشرُ واقعًا فيهِ نُسِبَ إِلَيْهِ نَحُوُ: نهارُهِ صائمٌ وليلُهُ قائمٌ. وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن أبي نهيك أَنه قَرَأَ وَأَن تحْشر النَّاس ضحى بِالتَّاءِ وَأَنْ تَحْشُرَ النَّاسَ أَنْتَ، قَالَ: فِرْعَوْنُ يَحْشُرَ قومَه وَالْمَعْنَى وَأَنْ تَحْشُرَ أَنْتَ يَا فِرْعَوْنُ النَّاسَ وَعَنِ الْجَحْدَرِيِّ أَيْضًا" وَأَنْ نَحْشُرَ" بِالنُّونِ وَإِنَّمَا وَاعَدَهُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ لِيَكُونَ عُلُوُّ كَلِمَةِ اللهِ، وَظُهُورُ دِينِهِ، وَكَبْتُ الْكَافِرِ، وَزُهُوقُ الْبَاطِلِ عَلَى رُؤوسِ الْأَشْهَادِ، وَفِي الْمَجْمَعِ الْغَاصِّ لِتَقْوَى رَغْبَةُ مَنْ رَغِبَ فِي الْحَقِّ، وَيَكِلَّ حَدَّ الْمُبْطِلِينَ وَأَشْيَاعِهِمْ، وَيُكْثِرَ الْمُحَدِّثُ بِذَلِكَ الْأَمْرِ الْعِلْمَ فِي كُلِّ بَدْوٍ وَحَضَرٍ، وَيَشِيعَ فِي جَمْعِ أَهْلِ الْوَبَرِ وَالْمَدَرِ.