اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} انْتِقَالٌ إِلَى خِطَابِ مُوسَى وَهَارُونَ معًا. وَهذا هوَ خِطابُ التَّكْليفِ بِالرِّسَالَةِ لِسَيِّدِنَا مُوسَى وأَخِيهِ هَارُونَ ـ عَلَيْهِما السَّلامُ، وَهُوَ الخِطَابُ الأَوَّلُ لَهُمُا مَعًا، إِذْ إِنَّ الخَطَابَ مُنْذُ بِدايَةِ القِصَّةِ كَانَ لِمُوسَى وَحْدهُ، فَيَقْتَضِي أَنَّ هَارُونَ كَانَ حَاضِرًا لِهَذَا الْخِطَابِ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ بَعْدَ ذلكَ في الآيَةِ: 45: {قَالَا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ}.
فَقِيلَ خَاطَبَ اللهُ مُوسَى ـ عليْهِ السَّلامُ، وَحْدَهُ أَوَّلًا تَشْرِيفًا لَهُ، ثُمَّ كَرَّرَ الخِطابَ لَهُمَا لِلتَّأْكِيدِ.
وَقِيلَ: لَمْ يَكُنْ هَارُونُ ـ عليْهِ السَّلامُ، حاضِرًا وَقْتَ هَذَا الوَحْيِ، وإِنَّمَا جَمَعَهُمَا تَغْلِيبًا.
وَقِيلَ: كانَ الخطابُ الْأَوَّلُ أَمْرًا بِالذَّهَابِ إِلَى كُلِّ النَّاسِ، أَمَّا الثَّانِي فهوَ أَمْرٌ لهُمُا بالذَّهَابِ إِلَى فِرْعَوْنَ خاصَّةً. فَقدْ بَيَّنَ بِهَذَا أَنَّهُ لَا يَكْفِي ذَهَابُ أَحَدِهِمَا دونَ الآخَرِ.
وَفِيهِ بُعْدٌ؛ بَلْ هُما مُتوجِّهانِ لِوَاحِدٍ، وَهُوَ فِرْعَوْنُ، وَقَدْ حَذَفَ مِنْ كُلٍّ مِنَ الذَّهَابَيْنِ مَا أَثْبَتَهُ فِي الآخَرِ، فَذَكرَ في الثاني المَأْمورَ بالذَّهابِ إِلَيْهِ وسَمَّاهُ، وَحَذَفَه في الأَوَّلِ فقَالَ: {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ} اخْتِصَارًا للكلامِ. وَحَذَفَ {بِآياتي} مِنَ الثانِي وَهُوَ مضمونُ الرِّسالةِ المَذْهُوبِ بِها، وَأَثْبَتَهُ فِي الأَمْرِ الأَوَّلِ. فقد رُوِيَ أَنَّ اللهَ ـ جَلَّ وعَلا، أَوْحَى إِلَى هَارُونَ وَهُوَ بِمِصْرَ أَنْ يَتَلَقَّى مَوسَى ـ عَلَيْهِما الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، وَقِيلَ: سَمِعَ بِإِقْبَالِهِ فَتَلَقَّاهُ، فقد كَانَ حُضُورُ هَارُونَ عِنْدَ مُوسَى بِوَحْيٍ مِنَ اللهِ ـ تَعَالَى، أَوْحَاهُ إِلَى هَارُونَ وهوَ فِي أَرْضِ (جَاسَانَ) حَيْثُ مَنَازِلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ أَرْضٍ قُرْبَ (طِيبَةَ). قَالَ فِي الْإِصْحَاحِ الرَّابِعِ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ مِنَ التَّوْرَاةِ: (وَقَالَ: هَا هُوَ هَارُونُ خَارِجًا لِاسْتِقْبَالِكَ فَتُكَلِّمُهُ أَيْضًا. وَفِيهِ أَيْضًا: وَقَالَ الرَّبُّ لِهَارُونَ اذْهَبْ إِلَى الْبَرِّيَّةِ لِاسْتِقْبَالِ مُوسَى، فَذَهَبَ وَالْتَقَيَا فِي جَبَلِ اللهِ). أَيْ جَبَلِ حُورِيبَ، فَيَكُونُ قَدْ طُوِيَ مَا حَدَثَ بَيْنَ تَكْلِيمِ اللهِ تَعَالَى مُوسَى فِي الْوَادِي عِنْدَ النَّارِ وَمَا بَيْنَ وُصُولِ مُوسَى مَعَ أَهْلِهِ إِلَى الجَبَلِ فِي طَرِيقِهِ إِلَى أَرْضِ مِصْرَ، واللهُ أعلمُ.
وَ "طَغى" تَجَاوَزَ الحَدَّ، وَتَجَبَّرَ وَعَلا، وَعَتَا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ، وَتَمَرَّدَ وَتَجَبَّرَ عَلَى اللهِ، وَعَصَى خالقَهُ وسيِّدَهُ وَمَوْلاهُ. وَقَدْ رُسِمَ هَذا الفعلُ فِي الْمُصْحَفِ بِأَلِفٍ لَيِّنَةٍ في آخِرِهِ، أَيْ بِصُورَةِ الْيَاءِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ مِنْ الماضي "طَغِيَ" مِثْلَ "رَضِيَ". وَيَجُوزُ فِيهِ الْوَاوُ فَيُقَالُ: يَطْغُو مِثْلَ يَدْعُو. وأَصْلُ الطُّغْيَانِ: هو مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، وَمِنْهُ قولُهُ تعالى مِنْ سُورَةِ الحاقَّة: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} الآيةَ: 11. وَقَدْ بَيَّنَ ـ سُبحانَهُ وتَعَالَى، شِدَّةَ طُغْيَانِهِ، وَمَدَى تَجَاوُزِهِ الْحَدَّ بِقَوْلِهِ عَنْهُ في الآيةِ: 29، مِنْ سُورةِ الشُّعراءِ: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ}، وَقَوْلِهِ عَنْهُ في الآيةِ: 38، مِنْ سورةِ القَصَص: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}، وَقَوْلِهِ عَنْهُ أَيْضًا في الآيَةِ: 24، مِنْ سُورةِ النَّازِعَات: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}.
قولُهُ تَعَالَى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ} اذْهَبَا: فِعْلُ أَمْرٍ مَبْنِيٌّ عَلَى حَذْفِ النُّونِ مِنْ آخرِهِ لِأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وأَلِفُ الإثنينِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِليَّةِ، و "إِلَى" حرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "اذْهَبَا". و "فِرْعَوْنَ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ، وعلامةُ جَرِّهِ الفتحةُ نيابةً عَنِ الكَسْرةِ لأَنَّهُ ممنوعٌ مِنَ الصَّرْفِ بالعَلَميَّةِ والعُجْمَةِ. والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً تأْكيدًا للَّتي قَبْلَهَا.
قوْلُهُ: {إِنَّهُ طَغَى} إِنَّهُ: "إِنَّ" حَرْفٌ نَاصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ، للتَّوْكِيدِ. وَالهَاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ اسْمُهُ، و "طَغَى" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ المُقدَّرِ على آخرِهِ لِتَعَذُّرِ ظُهورِهِ عَلَى الأَلِفِ، وَجُمْلَةُ "طَغَى" خَبَرُ "إِنَّ" في محلِّ الرَّفعِ، وَجُمْلَةُ "إِنَّ" مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْلِيلِ مَا قَبْلَهَا لَا مَحَلَّ لها مِنَ الإعْرابِ.