وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى
(75)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ} ما زالَ الحديثُ مُوَجَّهًا لِفِرْعَوْنَ عَلَى لِسَانِ السَّحَرَةِ، يَعِظونَهُ بِهِ لكِنَّ الموعظَةَ فيَهِ عامَّةٌ تَشْمَلُهُ وَغَيْرَهُ. أَيْ: وَمَنْ يَأْتِ اللهَ ـ تَعَالَى، يَوْمَ القِيَامَةِ مُؤْمِنًا بِهِ وَبِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدَهِ مِنَ الآياتِ وَالمُعْجِزَاتِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا مَا شَاهَدْنَاهُ مِنْ معجِزةِ العَصَا ـ عَلَى يَدِ رَسولِهِ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَقَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ مِنَ الأَعْمَالِ.
وَ "مُؤْمنًا" أَيْ: مُصَدِّقًا، قالَهُ ابْنُ عبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عنْهُما. وَ "الصَّالِحَات" صِفَةٌ جَارِيَةٌ مَجْرَى الاسْمِ كَ "الحَسَنَةِ"، وَلِذَلِكَ فإِنَّها في الغَالِبِ لَا تُذَكَّرُ مَعَ المَوْصُوفِ، وَهِيَ كُلُّ مَا اسْتَقَامَ مِنَ الأَعْمَالِ بِدَلِيلِ العَقْلِ وَالنَّقْلِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما: قَدْ أَدَّوا الفَرَائِضَ. وَالإِفْرَادُ فِي "يَأْتِهِ" بِاعْتِبَارِ لَفْظِ "مَنْ".
قوْلُهُ: {فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى} أُولَئِكَ: اسْمُ إِشَارَةٍ للجمعِ البَعِيدِ، وَقَدْ أُشيرَ بِهِ إِلَى "مَنْ"، ومَا في "أُولئكَ" مِنَ البُعْدِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهَا، قَالَ ابْنُ الأَنْبَارِيِّ: وَإِنَّمَا قَالَ: "فَأُولَئِكَ"، لِأَنَّ "مَنْ" تَقَعُ بِلَفْظِ التَوْحِيدِ عَلَى تَأْويلِ الجَمْعِ. فَإِذَا غَلَبَ لَفْظُهَا، وُحِّدَ الرَّاجِعُ إِلَيْهَا، وَإِذا بُيِّنَ تَأْويلُهَا، جُمِعَ المَصْروفُ إِلَيْها.
وَقَدْ اسْتُعْمِلَ اسمُ الإشارةِ هَذَا إِشْعَارًا بِعُلُوِّ دَرَجَةِ المُشارِ إِلَيْهِم وَبُعْدِ مَنْزِلَتِهِمْ. أَيْ فَأُولِئَكَ المُؤْمُنُونَ العامِلونَ للصَّالِحَاتِ لهُمُ الدَّرَجاتُ العَلَى عِنْدَ رَبِّهِمْ بِسَبَبِ إِيمانِهِمْ وَعَمَلِهِمُ الصالِحِ، وَ "العُلَى" جَمْع العَلْيَا، وَهُوَ تَأْنِيثُ "الأَعْلَى. وَهِيَ المَنَازِلُ الرَّفيعَةُ في الجَنَّةِ، لِأَنَّ بعضَها فوقَ بعضٍ. وَقَدْ يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَنْ لَا يَنَالُ الدَّرَجاتِ العُلى. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((تَدْخُلُونَ الجَنَّةَ بِرَحْمَةِ اللهِ وَتُقْسَمُونَ الدَّرَجَاتِ بِأَعْمَالِكِمْ". وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي: (2/222) مِنْ مُسْنَدِهِ. وَالبُخَارِيِّ نَحْوَهُ فِي "كِتَابِ الرَّقَائقِ، بابُ: القَصْدُ والمُدَاوَمَةُ عَلَى العَمَلِ: (5/2373) مِنْ صَحيحِهِ، وَمُسْلِمٌ فِي "كِتَابُ صِفَاتِ المُنَافِقِينَ وَأَحْكامِهِمْ، بابُ: لَنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ أَحَدٌ بِعَمَلِهِ، بَلْ بِرَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى": (4/2169) مِنْ صَحِيحِهِ. وَابْنُ مَاجَةَ في "كِتابُ الزُّهْدِ، بابُ: التَوَفِّي عَلَى العَمَلِ": (2/1405). وَالدَّارِمِيُّ في "كِتَابُ الرَّقائِقِ، بَابُ: لَنْ يُنْجِي أَحَدُكُمْ عَمَلُهُ: (2/215) مِنْ سُنَنِهِ.
والآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الأُمُورَ بِخَواتِيمِهَا، وَأَنَّ الإِيمانَ بِالْمُوافَاةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: "وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا" فقد رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُ قَالَ: (للهِ عِبَادٌ وُلِدُوا فِي الإِسْلَامِ، وَنَشَؤُوا فِي أَعْمَالِ البِرِّ، لَمْ يُخَالِطُوا المَعَاصِي وَأَهْلَهَا حَتَّى مَاتُوا عَلَى ذَلِكَ، إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ نَادَى المُنَادِي: أَيْنَ مَنْ أَتَى رَبَّهُ مُؤْمِنًا فَاضِلًا، قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ بِصِدْقِ النِّيَّةِ، فَعَرَفَ القَوْمُ صِفَتَهُمْ، فَقَالُوا: لَبَيْكَ، دَعَوْتَنَا، قَالَ: فَإِنَّ اللهَ يَقُولُ: "فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى * جَنَّاتُ عَدْنٍ" الآيَتانِ: (75 و 76) منْ هَذِهِ السُّورةِ المُبارَكَةِ، وَعُقِدَ لَهُمْ لِواءٌ فَاتَّبَعَ القَوْمُ لِواءَهُمْ حَتَّى دَخَلُوا الجَنَّةَ). وَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الدَّرَجَاتِ إِنَّمَا تُسْتَحَقُّ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحاتِ.
قولُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنً} الواوُ: عاطفةٌ، و "مَنْ" اسْمُ شَرْطٍ جازمٌ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابْتِداءِ، وخَبَرُهُ جُمْلَةُ الشَّرْطِ، أَوِ الجَوَابِ، أَوْ هُمَا معًا. و "يَأْتِهِ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَجْزُومٌ بِـ "مَنْ" عَلَى كَوْنِهِ فِعْلَ شَرْطٍ لَهَا، وعلامةُ جَزْمِهِ حَذْفُ حرفِ العلَّةِ مِنْ آخِرِهِ (الياءِ)، وَفَاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى "مَنْ"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ بالمفعوليَّةِ. و "مُؤْمِنًا" مَنْصُوبٌ عَلَى الحالِ مِنْ فَاعِلِ "يَأْتِ". والجملةُ الفعليَّةُ هَذِهِ هي فعلُ شَرْطِ "مَنْ".
قَوْلُهُ: {قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ} قدْ: حَرْفُ تحقيقٍ. و "عَمِلَ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفَتحِ، وَفاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هوَ) يَعُودُ عَلى "مَنْ". و "الصَّالحاتِ" مفعولُهُ منصوبٌ بِهِ، وعلامةُ نَصْبِهِ الكَسْرةُ عِوَضًا عَنِ الفتحةِ لأنَّهُ جمعُ المُؤَنَّثِ السَّالمُ، والجَمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ صِفَةً لِـ "مُؤْمِنًا".
قَوْلُهُ: {فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى} الفاءُ: رَابِطَةٌ لِجَوَابِ "مَنْ" الشَّرْطِيَّةِ، وَ "أُولئكَ" اسْمُ إشارةٍ مبنيٌّ عَلَى الكَسْرِ في مَحَلِّ الرَّفعِ مُبْتَدَأٌ أَوَّلُ. و "لَهُمُ" اللامُ حَرْفُ جرٍّ مُتَعلِّقٌ بِخَبَرٍ مُقَدَّمٍ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجرِّ، والميمُ للجمعِ المُذَكَّرِ. وَ "الدَّرَجَاتُ" مُبْتَدَأٌ ثانٍ مُؤَخَّرٌ، مرفوعٌ. و "الْعُلَى" صِفَةٌ لِـ "الدَّرَجَاتُ" مرفوعةٌ مِثلُهُ، وعلامةُ الرَّفعِ ضَمَّةٌ مُقدَّرةٌ على آخِرِهِ لتَعَذُّرِ ظهورِها على الأَلِفِ. والجُمْلَةُ مِنَ المُبْتَدَأِ الثاني، وَخَبَرِهِ: فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرٌ لِلْأَوَّلِ، وَجُمْلَةُ المُبتدَأِ الأَوَّلِ معَ خَبَرِهِ فِي مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "مَن" الشَّرْطِيَّةِ عَلَى كَوْنِهَا جَوَابًا لَّهَا، وَجُمْلَةُ "مَنْ" الشَّرْطِيَّةُ: فِي مَحلِّ الرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ "مَنْ" الأُولَى.