فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى
(20)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} فَأَلْقَاهَا: لَمَّا أُمِرَ سيِّدُنا مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، بإلقاءِ عَصَاهُ وهوَ في ذلكَ الموقِفِ المَهِيبِ، أَلقاها مِنْ يَدِهِ فَتَحَوَّلَتْ على الفَوْرِ حَيَّةً ضَخْمَةً لَمْ يُعْرَفْ مِثْلُهَا.
وَ "إَذا": هِيَ هُنَا الفُجائيَّةُ، كَمَا يَقُولُ القائلُ: خَرَجْتُ فَإِذَا فلانٌ بِالبابِ، ففوجِئتُ بذلكَ. وَهَذَا هوَ مَا حَدَثَ لِسَيِّدِنَا مُوسَىَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، فإنَّهُ حِينَ أَلْقَى عَصَاهُ مِنْ يَدِهِ، كما أَمَرَهُ ربُّهُ، سُرْعَانَ مَا تَحَوَّلَتْ إِلَى حَيَّةٍ تَسْعَى، وَلَيْسَتْ واقفةً جَامِدَةً، أَوْ مَيْتَةً هامدَةً، وَقَدْ كانَتْ مِنْ قَبْلُ خَشَبَةً جَافَّةً يَابِسَةً لا حَيَاةَ فِيها أَلَيْسَتْ هَذِهِ مُفَاجَأَةً؟.
وَ "حَيَّةٌ" اسْمٌ لِصِنْفٍ مِنَ الْحَنَشِ مَسْمُومٍ إِذَا عَضَّ بِنَابَيْهِ قَتَلَ الْمَعْضُوضَ، وَيُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ. والْحَيَّةُ: تَجْمَعُ الصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ وَالذَّكَرَ وَالْأُنْثَى. وَقَالَ فِي الآيةِ" 10، مَنْ سُورَةِ النَّمْلِ: {كَأَنَّهَا جَانٌّ}، وَ "الجانُّ" هِيَ الْحَيَّةُ الصَّغِيرَةُ الْخَفِيفَةُ الْجِسْمِ، وَقَالَ فِي الآيةِ: 107، مِنْ سورةِ الأَعرافِ، والآيةِ: 32، مِنْ سُورةِ الشُّعراءِ: {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِين}، وَالثُعْبَانُ" هُوَ أَكْبَرُ مَا يَكُونُ مِنَ الْحَيَّاتِ.
وَقِيلَ: إِنَّهَا كَانَتْ فِي عِظَمِ الثُّعْبَانِ وَسُرْعَةِ الْجَانِّ. وَقِيلَ: "الْجَانُّ": عِبَارَةٌ عَنِ ابْتِدَاءِ حَالِهَا، فَإِنَّهَا كَانَتْ حَيَّةً عَلَى قَدْرِ الْعَصَا، ثُمَّ كَانَتْ تَتَوَرَّمُ وَتَنْتَفِخُ حَتَّى صَارَتْ ثُعْبَانًا، "وَالثُّعْبَانُ": عِبَارَةٌ عَنِ انْتِهَاءِ حَالِهَا.
وَ "تَسْعَى" تَمْشِي بِسُرْعةٍ زْحْفًا عَلَى بَطْنِهَا في كُلِّ الاتِّجاهاتِ، مُهْتَزَّةً، مُضطَّرِبَةً في سَيْرِهَا. وَالسَّعْيُ: الْمَشْيُ الَّذِي فِيهِ شِدَّةٌ، وَلِذَلِكَ خُصَّ غَالِبًا بِمَشْيِ الرَّجُلِ دُونَ الْمَرْأَةِ. وَوُصِفَتِ الحَيَّةِ بِهِ لِإِظْهَارِ أَنَّ الْحَيَاةَ فِيهَا كَانَتْ كَامِلَةً بِالْمَشْيِ الشَّدِيدِ.
فَقَدَ رَوى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: نَظَرَ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَإِذَا الْعَصَا حَيَّةٌ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَكُونُ مِنَ الْحَيَّاتِ صَارَتْ شُعْبَتَاهَا شِدْقَيْنِ لَهَا، وَالْمِحْجَنُ عُنُقًا وَعُرْفًا، تَهْتَزُّ كَالنَّيَازِكِ، وَعَيْنَاهَا تَتَّقِدَانِ كَالنَّارِ تَمُرُّ بِالصَّخْرَةِ الْعَظِيمَةِ مِثْلَ الْخَلِفَةِ مِنَ الْإِبِلِ، فَتُلْقِمُهَا وَتَقْصِفُ الشَّجَرَةَ الْعَظِيمَةَ بِأَنْيَابِهَا، وَيُسْمَعُ لِأَسْنَانِهَا صَرِيفٌ عَظِيمٌ. فَلَمَّا عَايَنَ ذَلِكَ مُوسَى وَلَّى مُدْبِرًا وَهَرَبَ، ثُمَّ ذَكَرَ رَبَّهُ فَوَقَفَ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ، ثُمَّ نُودِيَ: أَنْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَارْجِعْ حَيْثُ كُنْتَ، فَرَجَعَ وَهُوَ شَدِيدُ الْخَوْفِ.
وأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، أَنَّهُ قالَ: "فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى"، وَلَمْ تَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ حَيَّةً، فَمَرَّتْ بِشَجَرَةٍ فَأَكَلَتْهَا، وَمَرَّتْ بِصَخْرَةٍ فَابْتَلَعَتْهَا، فَجَعَلَ مُوسَى يَسْمَعُ وَقْعَ الصَّخْرَةِ فِي جَوْفِهَا، فَوَلَّى مُدْبِرًا، فَنُودِيَ أَنْ: يَا مُوسَى، خُذْهَا. فَلَمْ يَأْخُذْهَا، ثُمَّ نُودِيَ الثَّانِيَةَ أَنْ: خُذْهَا وَلَا تَخَفْ. فَقِيلَ لَهُ فِي الثَّالِثَةِ: إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ. فَأَخَذَهَا.
وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى"، فَأَلْقَاهَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، ثُمَّ حَانَتْ مِنْهُ نَظْرَةٌ فَإِذَا بِأَعْظَمِ ثُعْبَانٍ نَظَرَ إِلَيْهِ النَّاظِرُونَ، فَدَبَّ يَلْتَمِسُ كَأَنَّهُ يَبْتَغِي شَيْئًا يُرِيدُ أَخْذَهُ، يَمُرُّ بِالصَّخْرَةِ مِثْلَ الخَلِفَة مِنَ الْإِبِلِ فَيَلْتَقِمُهَا، وَيَطْعَنُ بِالنَّابِ مِنْ أَنْيَابِهِ فِي أَصْلِ الشَّجَرَةِ الْعَظِيمَةِ فَيَجْتَثُّهَا، عَيْنَاهُ تُوقَدَانِ نَارًا، وَقَدْ عَادَ المِحْجَنُ مِنْهَا عُرْفًا. قِيلَ: شَعْرٌ مِثْلُ النَّيَازِكِ، وَعَادَ الشُّعْبَتَانِ مِنْهَا مِثْلَ الْقَلِيبِ الْوَاسِعِ، فِيهِ أَضْرَاسٌ وَأَنْيَابٌ، لَهَا صَرِيفٌ، فَلَمَّا عَايَنَ ذَلِكَ مُوسَى وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّب، فَذَهَبَ حَتَّى أَمْعَنَ، وَرَأَى أَنَّهُ قَدْ أَعْجَز الْحَيَّةَ، ثُمَّ ذَكَرَ رَبَّهُ، فَوَقَفَ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ، ثُمَّ نُودِيَ: يَا مُوسَى أَنْ: ارْجِعْ حَيْثُ كُنْتَ. فَرَجَعَ مُوسَى وَهُوَ شَدِيدُ الْخَوْفِ. تَفْسيرُ ابْنِ أَبي حاتِمٍ ـ مُحَقَّقًا: (7/2420).
فقد حوَّلَهَا رَبُّها حَيَّةً لِتَكُونَ مُعْجِزَةً لِسيِّدِنا مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، يَعْرِفُ بِهَا نُبُوَّةَ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَا سَمِعَ ـ إِلَى ذَلكَ الْوَقْتِ إِلَّا النِّدَاءَ، وَالنِّدَاءُ مِنَ اللهِ ـ تعالى وَإِنْ كَانَ خِلافَ الْمُعْتادِ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُعْجِزًا، وذلكَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مِنْ عَادَاتِ الْمَلَائِكَةِ، أَوِ الْجِنِّ، إِذًا فَلَا جَرَمَ قَلَبَ الله الْعَصَا حَيَّةً لِيَصِيرَ ذَلِكَ دَلِيلًا قَاهِرًا عَلى نُبُوَّةِ عبدِهِ موسَى وَصحَّةِ رِسَالَتِهِ، وَالْعَجَبُ أَنَّهُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ: أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا، فَصَدَقَهُ الله تَعَالَى فِي ذَلِكَ وَجَعَلَهَا مُتَّكَأً لَهُ بِأَنْ جَعَلَهَا مُعْجِزَةً وآيةً عَلى أَنَّهُ رَسولٌ مِنْهُ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى.
ثُمَّ إِنَّ النِّدَاءَ كَانَ إِكْرَامًا لَهُ، فَجاءَ قَلْبُ الْعَصَا حَيَّةً زِيادةً فِي إِكْرَامِهِ لِيَكُونَ تَوَالِي الْتَكْريمِ سَبَبًا لِزَوَالِ الْوَحْشَةِ عَنْهُ. وَأَيْضًا فإِنَّهُ قَلَبَ لَهُ العَصا حيَّةً في هَذا المَوْقِفِ تَدْريبًا لَهُ حَتَّى لَا يَخَافَ إِذَا شَاهَدَهُا عِنْدَ فِرْعَوْنَ.
لَقَدْ أَرَادَ اللهُ ـ سُبحانَهُ وَتَعالى، أَنْ يُنَبِّهَ الْعُقُولَ إِلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ، وَنِهَايَةِ عَظَمَتِهِ، فَحَوَّل خَشَبَةٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، ثُعْبَانًا عَظِيمًا.
وَقِيلَ: كَانَ فِيهَا مُعْجِزَاتٌ غيرُ ذَلِكَ، فقد كَانَ إِذا أرادَ أَنْ يَسْتَقِي مِنْ بِئْرٍ طالتْ بِطُولِ الْبِئْرِ، وَصارتْ شُعْبَتَاهَا دَلْوًا مُمْتَلِئًا مَاءً فَشَرِبَ، وَإِذَا ظمئَ في مَكانٍ لا مَاءَ فيهِ وركَزَهَا فَيَنْبُعُ الْمَاءُ لَهُ، فَإِذَا رَفَعَهَا نَضُبَ. وَإِذَا اشْتَهَى ثَمَرًا رَكَزَهَا في الأَرْضِ فَأَوْرَقَتْ وَأَثْمَرَتْ، وَتَصْيرُ شُعْبَتاها شَمْعَتَيْنِ فتُضِيءُ لَهُ في اللَّيْلِ، وَإِذَا ظَهَرَ لَهُ عَدُوٌّ قاتَلَتْ عَنْهُ، وَكَانَتْ تَقِيهِ الْهَوَامّ. وَكَانَ يَحْمِلُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ وَزَادَهُ، واللهُ أَعْلَمُ.
قولُهُ تَعَالى: {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} الفاءُ: حَرْفُ عَطْفٍ وَتَفْريعٍ، و "أَلْقاهَا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على الفتحِ المُقَدَّرِ عَلى آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظهورِهِ على الأَلِفِ، وَفَاعْلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جَوَازًا تَقْديرُهُ (هُوَ) يَعُودُ عَلَى سَيِّدِنَا مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، و "هَا" ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى المفعوليَّةِ، والجُمْلَةُ مَعْطوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ {قَالَ} مِنَ الآيةِ التي قبلَها عَلى كَونِها مُسْتَأْنَفَةً لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ، وَهِيَ مُفَرَّعَةٌ عَلَيْها. وَ "فَإِذَا" الفاءُ: عَاطِفَةٌ، و "إذا" الفُجَائِيَّةُ، وَ "هِيَ" ضميرٌ مُنْفَصِلٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ فِي مَحَلِّ الرَّفعِ بالابتِداءِ. و "حَيَّةٌ" خَبَرُهُ مَرْفوعٌ، والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ هَذهِ معطوفة عَلَى جُمْلَةِ "فَأَلْقَاهَا" على كَوْنِهَا لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ. وَ "تَسْعَى" فعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ وَالجازِمِ، وعلامةُ رفعِهِ ضمَّةٌ مُقَدَّرَةٌ عَلى آخِرِهِ لتَعَذُّرِ ظهورِها على الأَلِفِ، وفاعِلُهُ ضميرٌ مُسْتتِرٌ فِيهِ جوازًا تقديرُهُ (هي) يَعُودُ عَلَى "حَيَّةٌ"، والجُملةُ الفعليَّةُ هَذِهِ يَجُوْزُ أَنْ تَكونَ في محلِّ الرَّفعِ إِمَّا خَبَرًا ثَانِيًا ـ عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ ذَلِكَ، أَو صِفَةً لِـ "حَيَّةٌ". وَجَوَّزَ أَبو البَقَاءِ العُكْبُريُّ أَنْ تَكونَ في محلِّ النَّصْبِ على الحَالِ مِنْ "حَيَّةٌ".