قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {قُلْنَا لَا تَخَفْ} أَيْ: فعلِمَ اللهُ ما في خَلَدِ نَبِيِّهِ مُوسَى ـ علَيْهِ السَّلامُ، مِنْ هَوَاجِسَ، فَأَوْحَى إِلَيْهِ أَنْ "لا تَخَفْ"، مَا تَوَهَّمْتَ، وادْفَعْ عنْ نَفْسِكَ مَا اعْتَراها مِنْ وَسَاوِسَ وَأَوْهامٍ. قَالَ لَهُ ذَلِكَ تَطْمِينًا لقلْبِه، وَإِزَالَةً لِخَوْفِهِ، وَتَثْبيتًا لِنَفْسِهِ، وَتَقْوِيَةً لِمَوْقِفِهِ.
قولُهُ: {إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} قَالَ عبدُاللهِ بْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما: يُريدُ أَنْتَ الغَالِبُ. أَيْ: إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى عَلَيْهِمْ بِالنَّظَرِ والغَلَبَةِ والظَّفَرِ فِي الدُّنْيَا، وَلكَ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا مِنَ الْجَنَّةِ عَلَيْهِمْ في الآخِرةِ، وَذَلِكَ لِمَا آتيناكَ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالِاصْطِفَاءِ. وَقَدْ أَكَّدَ ـ سُبْحانَهُ، هَذِهِ الْجُمْلَةَ بِمُؤَكِّداتٍ ثلاثٍ، هِيَ: حَرْفُ التَّأْكِيدِ "إِنَّ"، وَضَمِيرُ الْفَصْلِ "أَنْتَ"، وَالتَّعْرِيفُ فِي "الْأَعْلَى". وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا خَامَرَ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، مِنَ الْخَوْفِ إِنَّمَا هُوَ الخَوْفُ مِنْ أَنْ يَظَهَرَ كَيْدُ السَّحَرَةِ عِنْدَ الْعَامَّةِ، وَلَوْ لِوَقْتٍ قَصيرٍ. وَإِنْ كَانَ مُوقِنًا بِأَنَّ اللهَ تَعَالى مُنْجِزٌ لَهُ مَا وَعَدَهُ بِهِ، وَأَرْسَلَهُ لِأَجْلِهِ، وَلَكِنْ رُبَّمَا يَسْتَدْرِجَ اللهُ الْكَفَرَةَ بَعْضَ الوقتِ ِلإِظْهَارِ فَضْلِ ثَبَاتِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى إِيمَانِهِمْ، وهذا كَمَا قَالَ في الآيَتَيْنِ: (196 و 197). مِنْ سُورةِ آل عِمْرَانَ، مُخاطبًا رَسُولَهُ مُحَمَّدًا ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتاعٌ قَلِيلٌ}.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْنَا} قُلْنَا: فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَميرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٍ هوَ "نا" المُعَظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى، و "نَا" التَّعْظيمِ هَذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعلِيَّةِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ جُمْلةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
قولُهُ: {لَا تَخَفْ} لا: نَاهِيَةٌ جازِمَةٌ. وَ "تَخَفْ" فِعْلٌ مُضارِعٌ مَجْزُومٌ بِهَا، وعلامَةُ جَزْمِهِ السُّكونُ الظاهِرُ على آخِرِهِ، وقدْ حُذِفَتِ الأَلِفُ مِنْ وَسَطِهِ لالْتِقاءِ السَّاكِنَيْنِ لأَنَّ الأَصْلَ "تخاف"، وَفَاعِلُهُ: ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِيْهِ وُجُوبًا تقديرُهُ (أَنْتَ) يَعُودُ لِسَيِّدِنا "مُوسَى" ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القوْلِ لِـ "قُلْنَا".
قوْلُهُ: {إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} إِنَّ: حَرْفٌ نَاصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهُ بالفعلِ، يُفيدُ التوْكِدَ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْب اسْمُ "إِنَّ". و "أَنْتَ" ضَمِيرُ فَصْلٍ يُفِيدُ تَأْكِيدَ كافِ الخِطابِ. وَ "الْأَعْلَى" خَبَرُ "إِنَّ" مَرْفوعٌ بِهَا، وَعَلامَةُ رَفْعِهِ ضَمَّةٌ مُقدَّرةٌ على آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظهورِها عَلَى الأَلِفِ. ويجوزُ أنْ يُعْرَبَ مُبْتَدَأً خَبَرُهُ اَلْـ "أَعْلَى" والجُمْلَةُ في محلِّ رفْعِ خَبَرِ "إِنَّ"، وَجُمْلَةُ: "إِنَّ" في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لِـ "قُلْنَا" مَسُوقَةٌ لِتَعْلِيلِ النَّهْيِ المَذْكورِ قَبْلَهُ.