قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36)
قوْلُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} أَيْ: قالَ اللهُ تَعَالَى مُخاطِبًا رَسُولَهَ موسَى ـ عَليْهْ السَّلامُ، قَدْ أَعْطَيْناكَ جميعَ مَا سَأَلْتَنا يَا مُوسَى، بَلْ لَقَدْ أَعْطَيْنَاكَ إِيَّاهُ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلَنا، وَذَلِكَ بِمَا قَدَّرْنَا لَكَ قَبْلَ أَنْ نَخْلُقَكَ، وَقَبْلَ أَنْ تَعْرِفَ ماذا تَسْأَلُ وَكَيْفَ، وَنَحْنَ أَلْهَمْنَاكَ أَنْ تَسْأَلَنا مَا سَأَلتَ مِنْ أَمْرِ الدُنْيا وَالدِّينِ.
وَهَذَا مما يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعُقْدَةَ التي كانتْ في لسانِ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، قدْ زَالَتْ عَنْهُ، لِنَّهُ لَمْ يُحْكَ فِيمَا يأْتي بَعْدُ أَنَّ هَارُونَ قَامَ بِمُجَادَلَةِ فِرْعَوْنَ، بَلْ كانَ كلُّ الجِدالِ بَيْنَ مُوسَى وفِرْعَوْنَ.
فَمَا سَأَلَ اللهَ عَبْدٌ مَسْألَةً إِلَّا وَهُوَ ـ سُبْحَانَهُ، أَلْهمَهُ مَسْأَلَتَهُ، ووَعَدَهُ أَنْ يُجيبَهُ إِلَى مَا سَأَلَ، قالَ ـ سُبْحانَهُ وَتَعَالَى في الآيةِ: 60، مِنْ سورةِ غافر: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}، ذَلِكَ ليَشْعُرَ العَبْدُ بِحَاجَتِهِ إلى مَوْلَاهُ، وَافْتِقَارِهِ إِلَى رحمتِهِ وَفَضْلِهِ عَليْهِ وَجُودِهِ وَكَرمِهِ، وَلِيَعْرِفَ قدْرَ نَفْسِهِ، فَلَا يَغْتَرَّ بِمَا يَضَعُ اللهُ بَيْنَ يَدَيْهِ فيَرَى أَنَّ الفَضْلَ فيما هوَ مُخَوَّلٌ فِيهِ عائدٌ إِلَى رَبِّه،ِ وَلِيْسَ لِنَفسِهِ، فيَهْلِكَ كالَّذي قَالَ: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} الآيةَ: 78، مِنْ سُورةِ القَصَص، وَهُوَ قارُونُ الذي اغْتَرَّ بِنَفْسِهِ، وكَفَرَ بِرَبِّهِ، فَأَهْلَكَهُ غُرُورُهُ، وَذهَبَ هوَ وَثَرْوَتُهُ، قالَ تَعَالَى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ } الآيةَ: 81، مِنْ سورةِ القَصَص.
الإيتاءُ هوَ تَعَلُّقُ إِرادَتِهِ ـ سُبْحانَهُ وَتَعَالى، بِحًصُولِ تِلْكَ المَطَالبِ. وَالسُّؤْلُ: هُوَ اسْمٌ للشَّيْءِ المَسْؤُولِ، بوزْنِ "فُعْلٍ" بِمَعْنى "مفعول" كَ "خُبْز" بِمَعْنَى "مَخْبُوزٍ"، و "أُكُل" بِمَعْنَى "مَأْكُول".
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَقَدْ كَانَ هَارُونُ يَوْمَئِذٍ بِمِصْرَ، فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ أَنْ يَتَلَقَّى مُوسَى وَهُوَ مَا يَزَالَ فِي طَريقِهِ إِلَى مِصْرَ عَلَى مَرْحلةٍ مِنْهَا، وَأَمَرَ مُوسَى أَنْ يَأْتِيَ هَارونَ، فَتَلَقَّاهُ هارونُ إِلَى مَرْحَلَةٍ، وَأَخْبَرَهُ بِمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ، فَأَخْبَرَهُ مُوسَى: بِأَنَّ اللهَ أَمَرَهُ أَنْ يَذْهبَ إلى فِرْعَوْنَ، وَقالَ مُوسَى: فَسَأَلْتُ رَبِّي أَنْ يَجْعَلَكَ مَعِي رَسُولًا لِتُعِينَنِي عَلَى القِيامِ بِالمَهَمَّةِ التي كَلَّفَني وإِبْلاغِ الرِّسَالَةِ إلى فِرْعَونَ وقومِهِ، فأَجابني ربّي إلى ما سأَلْتُ، فَلَهُ الحَمْدُ عَلى عظيمِ عَطائهِ، وَلَهُ المِنَّةُ عَلَى سابِقِ فَضْلِهِ.
قوْلُهُ تَعَالى: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} قَالَ: فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ، وَفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَالجُمْلَةُ فعليَّةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ. و "قَدْ" حَرْفُ تَحْقِيقٍ. و "أُوتِيتَ" فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ للمَجْهولِ (مُغَيَّرُ الصِّيغَةِ)، والتاءُ: ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الرَّفعِ نائبًا عَنِ فاعِلِهِ. و "سُؤْلَكَ" مَفْعُولُهُ الثاني مَنْصُوبٌ بِهِ، أَمَّا الأَوَّلُ فهوَ الضميرُ الذي نابَ عنِ الفاعِلِ، وهو مُضافٌ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ، والجُمْلَةُ: فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولَ القولِ لـ "قَالَ". و "يَا مُوسَى" الياءُ: حرفٌ لِنِداءِ البعيدِ، و "مُوسَى" مُنَادَى مُفْرَدُ العَلَمِ مَبْنِيٌّ على الضَّمِّ المُقَدَّرِ على آخِرِهِ لتَعَذُّرِ ظُهُورِهِ عَلَى الأَلِفِ، في محلِّ النَّصْبِ على النِّداءِ، وَجُمْلَةُ النِّداءِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُول القولِ لِـ "قَالَ".