وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} اصْطَنَعْتُكَ: الِاصْطِنَاعُ: هو صُنْعُ الشَّيْءِ بِاعْتِنَاءٍ وَإتقانٍ. وَ "لِنَفْسِي" لِأَجْلِ نَفْسِي. وَقالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِي اللهُ عنهما: يُريدُ اصْطَنَعْتُكَ لِوَحْيِيِ وَرِسَالَتِي. وَقَالَ الكَلْبِيُّ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُ: اخْتَرْتُكَ لِنَفْسِي بِالرِّسَالَةِ، لِكَيْ تُحِبَّنِي وَتَقومَ بِأَمْرِي.
وهذا تَمْثِيلٌ لِهَيْئَةِ الِاصْطِفَاءِ مِنْ أَجْلِ تَبْلِيغِ الشَّرِيعَةِ بِهَيْئَةِ مَنْ يَصْطَنِعُ شَيْئًا لِفَائِدَةِ نَفْسِهِ، فَيَتقِنُ صُنْعَهُ غَايَةَ الإِتْقَانِ. والمَعْنَى: وَلَقَدْ أَخْلَصْتُكَ لِنَفْسِي، وَاصْطَفَيْتُكَ مِنْ بينِ خَلْقِي لِتَحْمِلِ إليْهِمْ رِسَالَتي، وَاخْتَرْتُكَ لإِقَامَةِ حُجَّتِي عليهِمْ، فَصِرْتَ أَشْبَهَ بِمَنْ يَرَاهُ المَلِكُ أَهْلاً لِكَرَامَتِهِ، فَيُقَرِّبُهُ وَيَجْعَلُهُ مِنْ خَاصَّتِهِ، فَعِنَايَتِي بِكَ سَابِقَةٌ، إِذْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ إِلَّا مَحْضُ الإِفْضَالِ، وُوُجودُ النَّوَالِ ـ كَمَا قالَ ابْنُ عَطاءٍ الاسْكَنْدَرِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، فِي الحِكَمِ. وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
فَلاَ عَمَلٌ مِنِّي إِلَيْك اكْتَسَبْتُهُ ........ سِوَى مَحْضِ فَضْلٍ لا بشيءٍ يُعلَّلُ
وقالَ آخَرُ في هذا المعنى:
قَدْ كُنْتُ أَحْسِبُ أنَّ وَصْلَكَ يُشْتَرَى ........... بَنَفائِسِ الأَمْوَالِ والأرْباحِ
وَظَنَنْتُ جَهْلاً أنَّ حُبَّكَ هَيِّنٌ ................. تُفْنَىَ عَلَيْه كَرَائِمُ الأرْوَاحِ
حَتَّى رَأَيْتُكَ تَجتبي وَتَخُصُّ مَنْ ................. تَخْتارُهُ بلَطَائِفِ الإِمْنَاحِ
فَعَلِمْتُ أنَّكَ لا تُنالُ بِحيلَةٍ ............. فَلَوَيْتَ رَأسِي تحت طَيِّ جَنَاحِ
وَجَعَلْتُ في عُشِّ الغَرَامِ إِقَامَتِي ................. أبدًا وفيه تَوطُني ورَوَاحِ
ويُنْسَبُ إِلى الإمامِ حجَّةِ الإسلامِ أبي حامدٍ الغَزَالِيِّ ـ رحِمَهُ اللهُ تَعَالَى ورَضِيَ عَنْهُ، قولُهُ:
وَكُنْتُ قَديمًا أَطْلُبُ الوَصْلَ مِنْهُمُ ....... فَلَمَّا أَتَاني العِلْمُ وَارْتَفَعَ الجَهْلُ
عَلِمْتُ بِأَنَّ العَبْدَ لَا طَلَبٌ لَهُ .......... فَإِنْ قَرَّبُوا فَضْلٌ وَإِنْ بَعَّدُوا عَدْلُ
وَإِنْ أَظْهَرُوا لَمْ يُظْهِرُوا غَيْرَ وَصْفِهِم . وَإِنْ سَتَرُوا فَالسَّتْرُ مِنْ أَجْلِهِمْ يَحْلُو
وَالصَّنِيعَةُ: هِيَ الخَيْرُ تُسْدِيهِ إِلى النَّاسَ، وَهَذَا افْتِعَالٌ مِنَ الصُّنْعِ. قال الشَّاعِرُ هُذَيْلُ الأَشْجَعِيُّ:
فَإذا اصْطَنَعْتَ صَنِيعَة فَاقْصد بِها ............ الله ولِذَوي القَرَابة أَوْ دَعِ
فَأُبْدِلَتِ التَّاءُ طاءً لِأَجْلِ حَرْفِ الاسْتِعْلاءِ، وَهَذَا مَجَازٌ عَنْ قُرْبِ مَنْزِلَتِهِ وَدُنُوِّهِ مِنْ رَبِّهِ؛ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَصْطَنِعُ إلَّا مَنْ يَخْتَارُهُ.
قولُهُ تَعَالى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} وَاصْطَنَعْتُكَ: الواوُ: اسْتِئْنافيَّةٌ، و "اصْطَنَعْتُكَ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السَّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو تاءُ الفاعِلِ، وتاءُ الفاعِلِ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بٍهِ في محلِّ الرفعِ على الفاعليَّةِ، وكافُ الخطاب: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ على المفعوليَّةِ. و "لِنَفْسِي" اللامُ: حرفُ جَرٍّ متعَلِّقٌ بـ "اصْطَنَعْتُكَ"، و "نفسي" مجرورٌ بحرْفِ الجَرِّ، وهو مُضافٌ، والياءُ: ضميرُ المُتَكلِّمِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ، والجملةُ مُسْتَأْنفةٌ لا محلَّ لها منَ الإعرابِ.