قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي
(25)
قولُهُ ـ تعَالَى شَأْنُهُ: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} لَمَّا أَتَاهُ الأمْرُ مِنَ اللهِ تعالى بِأَنْ يذْهَبَ إلى فرعونَ توجَّهَ إلى رَبِّ بالدُعاءِ طالبًا منهُ ما يُعينُهُ على القيامِ بالمُهِمَّةِ وإبْلاغِ الرِّسالةِ، فكانَ أَوَّلَ الدُّعاءِ أَنْ يَشْرَحَ لهُ صَدْرَهُ، وَيُسَهِّلَ لَهُ القِيامَ بِمَا كَلَّفَهُ مِنْ حَمْلِ الرِّسَالَةِ، وتَحَمُّلِ أَعباءِ الطاعَةِ. وروى الطبريُّ عنِ ابْنِ زيدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، في قَوْلِهِ ـ تَعَالى: "رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي"، قَالَ: جُرْأَةً لِي. إِذًا فَشَرْحُ الصَّدْرِ: حَجْبُ الخَوَاطِرِ التي مِنْ شَأْنِها أَنْ تَجْعَلَهُ يُحْجِمُ عَمَّا يَهُمُّ بِهِ، وَحَقِيقَةُ الشَّرحِ: تَقْطِيعُ ظَاهِرِ شَيْءٍ لَيِّنٍ. فَاسْتُعِيرَ هُنَا لِإِزَالَةِ مَا فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ مِنْ خَوَاطِرَ تُكَدِّرُهُ، أَوْ تَجْعَلُهُ يتَرَدَّدُ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى عَمَلٍ مَا، تَشْبِيهًا لهُ بِتَشْرِيحِ اللَّحْمِ بِجَامِعِ التَّوْسُّعِ.
قِيلَ: إِنَّ اللهَ ـ تَعَالى، أَعْلَمَهُ بِأَنَّهُ رَبَطَ عَلَى قَلْبِ فِرْعَوْنَ، وَأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ، فَقَالَ لهُ مُوسَى: يَا رَبِّ، فَكَيْفَ تَأْمُرُنِي أَنْ آتِيَهُ وَقَدْ رَبَطْتَ عَلَى قَلْبِهِ، فَأَتَاهُ مَلَكٌ مِنْ خُزَّانِ الرِّيحِ، فَقَالَ لَهُ: يَا مُوسَى انْطَلِقْ إِلَى مَا أَمَرَكَ اللهُ بِهِ. فَقَالَ مُوسَى عِنْدَ ذَلِكَ: "رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي" أَيْ وَسِّعْهُ لِي وَنَوِّرْهُ بِالْإِيمَانِ وَالنُّبُوَّةِ. وَقدْ دَعَا سَيِّدُنا رَسولُ اللهِ ـ صَلَوَاتُ ربِّي وسَلامُهُ عَلَيْهِ، بِهَذَا الدُّعَاءِ، فقدَ أَخْرَجَ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ، والخَطِيبُ البغداديُّ، وَابْنُ عَسَاكِرَ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْها، أَنَّها قَالَتْ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِزَاءِ (ثَبِير) وَهُوَ يَقُولُ: ((أَشْرِقْ ثَبيرُ، أَشْرِقْ ثَبيرُ. اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِمَا سَأَلَكَ أَخِي مُوسَى، أَنْ تَشْرَحَ لِي صَدْرِي، وَأَنْ تُيَسِّرَ لِي أَمْرِي، وَأَنْ تَحُلَّ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي، وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي، هَارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، وأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي، كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا، وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا، إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا)).
قولُهُ تَعالى: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} قَالَ: فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى "مُوسَى" وَالجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "رَبِّ" مُنَادَى مُضَافٌ، مَبْنِيٌّ عَلى الكَسْرِ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى النِّداءِ، حُذِفَ مِنْهُ حَرْفُ النِّداءِ، وَجُمْلَةُ النِّداءِ هَذِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ "قَالَ".
قولُهُ: {اشْرَحْ لِي صَدْرِي} اشْرَحْ: فِعْلُ دُعَاءٍ، مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أنتَ) يَعُودُ عَلى ربِّ العِزَّةِ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالى، وَ "لِي" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "اشْرَحْ"، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فإنْ قُلْتَ: "لي" في قَوْلِهِ: "اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي" مَا جَدْوَاهُ والأَمْرُ مُسْتَتِبٌّ بِدونِهِ؟. قُلْتُ: قَدْ أَبْهَمَ الكَلامَ أَوَّلًا فَقَالَ: اشْرَحْ لِي وَيَسِّرْ لِي، فَعُلِمَ أنَّ ثَمَّ مَشْروحًا وَمُيَسَّرًا، ثُمَّ بَيَّنَ وَرَفَعَ الإِبْهامَ بِذِكْرِهِمَا فَكانَ آكَدَ لِطَلَبِ الشَّرْحِ لِصَدْرِهِ والتَّيْسيرِ لِأَمْرِهِ). وَيَاءُ المُتَكَلِّمِ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "صَدْرِي" مَفْعُولُهُ مَنْصُوبٌ بِهِ، وهو مُضافٌ، وياءُ المُتَكَلِّمِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ بِـ "قَالَ" عَلَى كَوْنِهَا جَوَابَ النِّداءِ.