قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57)
قولُهُ ـ تَعَالَى ِشَأْنُهُ: {قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا} الهَمْزَةُ هنا لِاسْتِنْكارِ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، مِنَ الآيَاتِ، أَيْ: جِئْتَ يَا مُوسَى لِتُوهِمَ النَّاسَ أَنَّكَ رَسُولٌ مِنَ اللهِ إِلَيْهِمْ فَيَجِبُ عَلِيْهِمْ الإِيمانُ بِمَا جِئْتَ بِهِ، وَاتِّبَاعُكَ فيما تَأْمُرُهُمْ بِهِ حَتَّى تَتَوَصَّلَ بِذَلِكَ الإِيهَامِ ـ الذي هُوَ نوعٌ مِنَ السِّحْرِ، إِلَى أَنْ تَغْلِبَ عَلَى أَرْضِنَا ـ يَعْنِي مِصْرَ، وَتُخْرِجَنَا مِنْهَا، وَيَكونُ لَكَ المُلْكُ فِيهَا عليْنَا، وهذا يَقْتَضِي أَنَّهُ أَرَاهُ آيَتَي الْعَصَا وَيَدِهِ، وَهوَ مَا سَمَّاهُ فِرْعَوْنُ سِحْرًا. وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ بقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورةِ الشُّعراءِ: {قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ * قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ * قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ} الآياتَ: (29 ـ 34). وذلكَ على سبيلِ الحِكَايَةِ عَنْهُمَا.
وَبِهَذَا يَكونُ فِرْعَوْنُ قَدْ حَوَّلَ المَعْرَكَةَ بَيْنَهُ وبَيْنَ مَوْسَى حَوْلَ ادِّعائهِ الرُّبوبيَّةَ، وَظُلْمِ الرَّعِيَّةِ، إِلَى مَعرَكَةٍ بَيْنَ مُوسى وَبَيْنَ عامَّةِ الشَّعْبِ بادِّعائهِ أَنَّ مُوسَى إِنَّما جاءَ ليُخرجَ المَصْرِيِّينَ مِنْ أَرْضِهِمْ، ويَحْرِمَهُمْ خيراتِ بلادِهمْ لَيُثيرَ عِداءَ الشَّعْبَ عَلى مُوسَى، ويَمْكُرونَ ويَمْكُرُ اللهُ واللهُ خيرُ الماكرينَ، لَقد انْقَلَبَ مَكْرُ فرعونَ هذا وبالًا عَلَيْهِ، فقد وَجَّهَ بِذَلِكَ اهْتِمامَ النَّاسِ لِمَا سَوْفَ يكونُ بَيْنَهُما، وَلَفَتَ أَنْظارَ النَّاسِ إِلَى مُتَابَعَةِ أَنْبَاءِ المَعْركةِ بينَهُما، لِيَحْمِلَهُمْ عَلَى حُضُورِ مُبارَزَةِ التَّحَدِّي الَّتي سَوْفَ تَنْشِبُ بَيْنَ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ وَمُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، لِيَعْلَمُوا مَنْ سَيَفُوزُ في المُبارزةَ، وكانوا يَتَوقَّعونَ أَنْ تَكونَ الغَلبَةُ للسَّحَرَةِ، ويرجونَ ذَلِكَ، قالَ تَعَالَى في الآيَتَيْنِ: (39 و 40)، مِنْ سُورَةِ الشُعَرَاءِ: {وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ * لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ}. وَلكِنَّ اللهَ تَعَالى أَرادَ مِنْ هَذَا الحَشْدِ العَظيم أَنْ يَرَوا الحقَّ عَلَى يَدِ رسُولِهِ مُوسَى ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وَقَدْ كانَ للهِ ـ سُبحانَهُ وَتَعَالى، مَا أَرَادَهُ: {وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُون} الآيةَ: 21، مِنْ سُورَةِ يُوسُفَ ـ صَّلاةُ اللهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِ.
قوْلُهُ: {بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى} أَضَافَ فِرعَوْنُ السِّحْرَ إِلَى ضَمِيرِ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، بِقَصْدِ تَحْقِيرِ شَأْنِ هذا الَّذي سَمَّاهُ سِحْرًا. فَسَمَّى مَا أَظْهَرَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى يَدِ مُوسى مِنَ الأَمْرِ المُعْجِزِ البَاهِرِ سِحْرًا لَتَشجيعِ السَّحَرةِ عَلَى مُقَابَلَتِهِ بسحرِهِمْ بُغْيَةَ التَغَلُّبِ عَلَيْهِ.
قوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا} قَالَ: فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ جَوازًا تقديرُهُ (هُوَ) يَعُودُ عَلَى "فِرْعَوْنَ"، وَالجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ. وَ "أَجِئْتَنَا" الهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهامِ الإِنْكارِيِّ، و "جِئْتَنَا" جِئْتَ: فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ مُتَحَرِّكٍ هوَ تاءُ الفَاعِلِ، وَهِيَ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، و "نَا" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ النَّصْبِ عَلَى المَفْعوليَّةِ، وَالجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القَوْلِ لِـ "قَالَ".
قولُهُ: {لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ} اللَّامُ: حَرْفُ جَرِّ وَتَعْلِيلٍ (لامُ "كي". و "تخرجنا" فِعْلٌ مُضارِعِ منصوبٌ بـ "أَنْ" مُضْمَرَةٍ بَعْدَ لامِ التعليلِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنْتَ) يَعُودُ عَلَى "مُوسَى" ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَ "نَا" ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى المَفْعولِيَّةِ. و "مِنْ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تُخْرِجَ"، و "أَرْضِنَا" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ، وهوَ مُضافٌ، وَ "نَا" ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. وَ "بِسِحْرِكَ" الباءُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تُخْرِجَ" أَيْضًا، وَ "سِحْرِكَ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ، وهوَ مُضافٌ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ. وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مَعَ "أَنْ" المُضْمَرَةِ: فِي تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ مَجْرُورٍ باللامِ، والتَقْديرُ: لِإِخْراجِكَ إِيَّانَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ.
قوْلهُ: {يَا مُوسَى} يَا: أَداةُ نداءٍ للبعيدِ. و "مُوسَى" مُنَادَى مُفْرَدُ
العَلَمِ مَبْنِيٌّ على الضَّمِّ المُقَدَّرِ على آخِرِهِ لتَعَذُّرِ ظُهُورِهِ عَلَى الأَلِفِ، في محلِّ النَّصْبِ على النِّداءِ، وَجُمْلَةُ النِّداءِ هَذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُول القولِ لِـ "قَالَ".