الموسوعةُ القرآنيةُ (فيضُ العليم مِن معاني الذكْر الحكيم) سورةُ (طه) الآية: 18
قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18)
قولُهُ ـ تَعالَى شَأْنُهُ: {قَالَ هِيَ عَصَايَ} سأَلَهُ ربُّهُ عَمَّا في يَمِينِهِ تَأْنِيسًا لِنَفْسِهِ، وتَقْديسًا لِرُوحِهِ وسِرِّهِ، وَتَهْدِئَةً لِرَوْعِهِ، وتَبْديدًا لِخَوْفِهِ، فقالَ: "هِيَ عَصَايَ"، فَتَمَّ هُنَا الجَوَابُ وانْتَهَتِ المُحادثةَ، لِكنَّ مُوسَى ـ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ، وَجَدَ في هَذِهِ المُحَادَثَةِ مِنَ اللذَّةِ وَالمُتْعَةِ والرِّفعَةِ مَا لَا يَقْدُرُ مَدَاهَا غَيْرُ الذي مَنَحَهُ إِيَّاهَا، فاسْتَرْسَلَ في الإجابَةِ عَمَّا لَمْ يَسْأَلْهُ عَنَهُ طلَبًا للمَزيدِ، فَقَالَ: "أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي"، وَتَنَازَعَتْهُ الرَّغْبَةُ في الاسْتِزادةِ مِنَ النَّوَالِ، والرَّهْبَةُ مِنْ أَنْ يَكَونَ قَدْ تَمَادَى وَأَسَاءَ الأَدَبَ مَعَ مَوْلاهُ بهَذِهِ الإِطالَةِ فَقَالَ: "وَلي فيها مآربُ أُخرى"، طَمَعًا في أَنْ في أَنْ يُسْأَلَ عَنْ هَذِهِ المَآربِ، مَا هِيَ؟. فَتَطُولَ مُحادَثَتُهُ وتَزْدَادَ لَذَّتُهُ، لَكِنَّ اللهَ رَبَّهُ لَمْ يُسْأَلْهُ عَنْ ذلكَ، فَقَدِ انْتَهَتْ قِسْمَتُهُ، وَأُجِّلِتْ إِلى وقتٍ آخَرَ فُرْصَتُهُ.
قِيلَ: كَانَتْ لَهَذِهِ العَصَا شُعْبَتَانِ، وَفِي أَسْفَلِهَا سِنَانٌ، وَلَهَا مِحْجَنٌ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: اسْمُهَا نَبْعَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، أَنَّهُ قَالَ: عَصا مُوسَى: أَعْطَاهُ إِيَّاهَا مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِذْ تَوَجَّهَ إِلَى مَدْيَنَ، فَكَانَتْ تُضِيءُ لَهُ بِاللَّيْلِ، وَيَضْرِبُ بِهَا الأَرْضَ، فَيَخْرُجُ لَهُ النَّبَاتُ، وَيَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِهِ وَرَقَ الشَّجَرِ.
قولُهُ: {أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} أَيْ: أَعْتَمِدُ عَلَيْهَا في سَيْرِي إِذَا مَشَيْتُ، وَإِذَا أَعْيَيْتُ، وَعِنْدَ الْوَثْبَةِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: "هِيَ عَصَايَ أتوكؤا عَلَيْهَا" قَالَ: إِذَا مَشِيَ مَعَ غَنَمِهِ. أَخْرَجَهُ عنْهُ بْنُ أَبي حاتمٍ في تَفْسِيرِهِ.
قوْلُهُ: {وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} أَيْ: أُحَرِّكُ بِهَا الأَغْصَانَ مِنْ نَاعِمِ الأَرَاكِ والبَشَامِ، وَغَيْرِهِمَا مِنَ الشَّجَرِ لِيَتَسَاقَطَ وَرَقُهَا، وَثَمَرُهَا، فَتَأْكُلَهُ غَنَمي.
والهَشُّ: مِنَ الهَشَاشَةِ، وهي ضِدُّ الشِّدَّةِ والصلابةِ والقَسَاوَةِ. فيُقَالُ: هَشَّ وَرَقَ الشَّجَرِ عَلَى الغَنَمِ يَهُشُّ بِضَمِّ الهاءِ، أَيْ: أَحالَها إِلَى الهَشَاشَةِ وَالإِمْكانِ، أَيْ: حَرَّكَ أَغْصانَ الأشجارِ دُونَ خَبْطٍ أَوْ ضَرْبٍ. قَالَ الراجِزُ:
أَهُشُّ بِالْعَصَا عَلَى أَغْنَامِي .................... مِنْ نَاعِمِ الأَرَاكِ وَالبَشَامِ
فقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ في تَفْسِيرِهِ: (7/2420)، قالَ: حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: الهَشُّ، أَنْ يَضَعَ الرَّجُلُ المِحْجَنَ فِي الغُصْنِ، ثُمَّ يُحَرِّكُهُ حَتَّى يَسْقُطَ وَرَقُهُ وَثَمَرُهُ وَلَا يَكْسِرُ العُودَ، فَهَذا الهَشُّ، وَلَا يَخْبِطُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "أَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي" قَالَ: أَضْرِبُ بِهَا الشَّجَرَ فَيَتَسَاقَطُ مِنْهُ الوَرَقَ عَلَى غَنَمِي.
وأَخرَجَ ابنُ أبي حاتمٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ ـ رَحِمَهُ اللهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي: قَالَ: الهَشُّ: إِنَّ يَخْبِطَ الرَّجُلُ بِعَصَاهُ الشَّجَرَ فَيَتَسَاقَطَ الوَرَقُ.
وأخرجَ عَنْهُ أيْضًا أَنَّهُ قَالَ: الهَشُّ أَنْ يَضَعَ العَصَا بَيْنَ الشُّعْبَتَيْنِ ثَمَّ يُحَرِّكْها حَتَّي يَسْقُطَ الوَرَقُ، والخَبْطُ أَنْ يَخْبِطَ حَتَّي يَسْقُطَ الوَرَقُ.
وَهَشَّ الرَّجُلُ إِلى أَخِيهِ "يَهَشُّ" بِفَتْحِها، إِذا سُرَّ لِرُؤيتِهِ فَرحَّبَ بِهِ وَلَقِيَهُ بوجْهٍ بَشوشٍ.
وقُرِئَ: "أَهُسُّ بها عَلى غَنَمِي"، فالمَعْنَى: أَهْوِي بِهَا عَلَى غَنَمِي لأَزْجُرَها وأَسُوقَها حَيْثُ أُريدُ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي" قَالَ: أَخْبُطُ بهَا الشّجَرَ. و "وَلي فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى" قَالَ: حَاجَاتٌ أُخْرَى.
قوْلُهُ: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} أَيْ: وَلِي فِيهَا حَاجَاتٌ، وَمَنَافِعُ أُخْرَى، غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ: "وَلِي فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى" قَالَ: حَوائجُ وَمَنَافِعُ.
وأَخْرَجَ عَنِ السُّدِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "مَآرِبُ أُخْرَى" يَقُولُ: حَوَائجُ أُخْرَى: أَحْمِلُ عَلَيْها المِزْوَدَ وَالسِّقاءَ.
وأَخْرَجَ عَنْ قَتَادَة ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى"، قَالَ: كَانَتْ تُضِيءُ لَهُ بِالَّليلِ، كانَتْ عَصَا أبينا آدَمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ.
وَوَاحِدَةُ المَآرِبِ: "مَأْرَبَةٌ" و "مَأْرُبَةٌ"، و "مَأْرِبةٌ" بِفَتْحِ الرَّاءِ وَضَمِّها وكَسْرِهَا، الحَوَائِجُ، وَهِيَ مِنْ قَوْلِكَ: لَا أَرَبَ لِي فِي هَذَا الشَّيْءِ، أَيْ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ.
وقالَ "أُخْرَى" وَلَمْ يَقُلْ: "أُخَرُ" مُراعَاةً لرُؤُوسِ الْآيِ. وَأَرَادَ بِالْمَآرِبِ: مَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ الْعَصَا فِي السَّفَرِ، وَكَانَ يَحْمِلُ بِهَا الزَّادَ وَيَشُدُّ بِهَا الْحَبْلَ فَيَسْتَقِي الْمَاءَ مِنَ الْبِئْرِ، وَيَقْتُلُ بِهَا الْحَيَّاتِ، وَيُحَارِبُ بِهَا السِّبَاعَ، وَيَسْتَظِلُّ بِهَا إِذَا قَعَدَ وغيرُ ذَلِكَ.
قوْلُهُ تَعَالى: {قَالَ} قَالَ: فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ على الفَتْحِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلى "مُوسَى" وَالْجُمْلَةُ: مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ مِنَ الإعْرابِ.
قولُهُ: {هِيَ عَصَايَ} هِيَ: ضَميرٌ مُنْفَصِلٌ مبنيٌّ في محلِّ الرَّفعِ بالابْتِداءِ. و "عَصَايَ" خَبَرُهُ مَرِفوعٌ، وعلامةُ رفعِهِ ضمَّةٌ مُقدَّرةٌ على آخِرِهِ لتعَذُّرِ ظهورِها على الأَلِفِ، وهوَ مُضافٌ، والياءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ. وهذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ مَقولٌ لـ "قَالَ".
قَوْلُهُ: {أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} أَتَوَكَّأُ: فِعْلٌ مُضَارِعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وَفاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنَا) يعودُ على سيِّدِنا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ. و "عَلَيْهَا" على: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَتَوَكَّأُ"، و "ها" ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الجرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ مُسْتَأْنَفةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيَّا لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابْ. وقيلَ هي فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الحَالِ مِنْ يَاءِ المُتَكَلِّمِ، وقيلَ حالٌ مِنَ العَصا.
قَوْلُهُ: {وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} الوَاوُ: للعطْفِ، و "أَهُشُّ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مرفوعٌ لتجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازمِ، وفاعِلُهُ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبً تقديرُهُ (أنا) يعودُ على سيِّدِنا موسَى ـ عليْهِ السَّلامُ. و "بِهَا" الباءُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَهُشُّ"، و "ها" ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الجرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ. وَ "عَلَى" حرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَهُشُّ" أَيْضًا، و "غَنَمِي" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ، وهو مُضافٌ، والياءُ: ضميرٌ مُتًّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجرِّ، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ معطوفةٌ عَلَى جُمْلَةِ "أَتَوَكَّأُ" عَلَى كَوْنِهَا مُسْتَأْنَفةً اسْتِئْنَافًا بَيَانِيَّا لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابْ. أَوْ على كونِها فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الحَالِ.
قوْلُهُ: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} الوَاوُ: عَاطِفَةٌ، و "لِيَ" اللامُ حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرٍ مُقَدَّمٍ، وياءُ المُتَكَلِّمِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "فِيهَا" في حرفُ جرِّ مُتَعلِّقٌ بالخَبَرِ المُقَدَّرِ أَيْضًا، و "ها" ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الجرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ. و "مَآرِبُ" مُبْتَدَأ مُؤَخَّرٌ مَرفوعٌ، ولمْ يُنَوَّنْ لأنَّهُ ممنوعٌ مِنَ الصَّرْفِ لكونِهِ بوزنِ "مَسَاجِدٍ". و "أُخْرَى" صِفَةٌ لِـ "مَآرِبُ" مرفوعةٌ مِثلُها، وعلامةُ رَفعِها ضمَّةٌ مُقدَّرةٌ على آخِرِها لِتَعَذُّرِ ظهورِها على الأَلِفِ. وهَذِهِ الجُمْلَةُ مَعَطوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "أَتَوَكَّأُ" عَلَى كَوْنِهَا مُسْتَأْنَفةً اسْتِئْنَافًا بَيَانِيَّا لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابْ. أَوْ على كونِها فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الحَالِ.
قَرَأَ العامَّةُ: {أَهُشُّ} بالشِّينِ المُعْجَمَةِ، وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ، وَالنَّخَعِيُّ: "أَهُسُّ" بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ، وَقدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ معناهما في مبحثِ التَّفْسيرِ.