إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} قالَ الإمامُ الفَخْرُ الرّازي ـ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى: (اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَاطَبَ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، بِقَوْلِهِ: {فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} طَهَ: 14، أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: "إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها" وَمَا أَلْيَقَ هَذَا بِتَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَ قَوْلَهُ: {لِذِكْرِي} أَيْ: لِأُذَكِّرَكَ بِالْأَمَانَةِ وَالْكَرَامَةِ، فَقَالَ عَقِيبَ ذَلِكَ: "إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ" لِأَنَّهَا وَقْتُ الْإِثَابَةِ وَوَقْتُ الْمُجَازَاةِ). تَفْسيرُ الرَّازي (مَفاتيحُ الغَيْبِ) أَوْ (التَفْسيرُ الكَبيرُ): (22/21).
وَ "السَّاعَةُ" يَوْمُ القِيَامَةِ، وَ "أَكادُ" مِنْ أَفعالِ المَقَارَبَةِ، فَلَيْسَتْ للنَّفْيِ، وَلَا لِلْإِثْباتِ، بِخِلافِ مَا قَالَهُ بَعْضُهم: (أَيْ أَنَّ أَمْرَ السَّاعَةِ هُوَ قَريبٌ مِنَ النَّفْيِ). فَلْيكُنْ ذَلِكَ حاضرًا في بالِكَ دامًا ولتَكُنْ مُستعِدًا لَهَا، لأَنَّ السَّاعَةَ نَوْعَانِ، والقيامَةَ قيامَتَانِ: فَلِكُلِّ مَخْلُوقٍ سَاعَةٌ، وَهِيَ أَجَلُهُ ونِهايَةُ عُمْرِهِ الذي لَا يَعْلَمُ مَتَى سَتَكونُ. وَساعةٌ لِلْكونِ كُلِّهِ وَمَا فِيهِ مِنْ مَخلوقاتٍ ـ بِمَا فِي ذَلِكَ الإنْسانُ، وَهِيَ القِيامَةُ الكُبْرَى، يَوْمَ يأْمُرُ اللهُ تَعَالَى إِسْرافيلَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَيَنْفُخُ في الصُّورِ نَفْخَةً واحِدةً، فَيَمُوتُ كلَّ مَنْ في السَّمَاواتِ والسَّبعِ والأَراضينَ السَّبعِ، ثمَّ يَنْفُخُ فيهِ نفخةً أُخْرَى، فيبعثُ اللهُ تَعَالَى كُلَّ مخلوقٍ كانَ قدْ خَلَقَهُ اللهُ مِنْ أَوَّلِ مخلوقٍ إلى آخرِ مخلوقٍ، وذلكَ ليُحاسِبَهم، جميعًا ويجزيَ كُلًا منهم بما قَدَّمَ مِنْ عَمَلٍ، قالَ تعالىَ مِنْ سُورةِ الزُّمَر: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} الآياتِ: (68 ـ 70). وَلِعُلَماءِ التَفْسيرِ في الآيَةِ أَيْضًا أَقوالٌ:
أَوَّلُها: رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُمَا قَرَآ: "أَكادُ أُخْفِيهَا مِنْ نَفْسِي". وَنَقَلَ بَعْضُهُمْ: "فَكَيْفَ أُظْهِرُهَا لَكُمْ". وَأَخْرَجَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ عَنِ الْفَرَّاءِ، قَالَ: فِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، "أَكَادُ أُخْفِيهَا مِنْ نَفْسِي فَكَيْفَ أُطْلِعُكُمْ عَلَيْهَا. وَأَخْرَجَ سَعيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ: "إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا" قَالَ: أَكادُ أُخْفيهَا مِنْ نَفْسِي. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي الْمَصَاحِفِ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "أَكَادُ أُخْفِيهَا" قَالَ: مِنْ نَفْسِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُ قَرَأَ: أَكَادُ أُخْفِيهَا مِنْ نَفْسِي. يَقُول: لِأَنَّهَا لَا تَخْفَى مِنْ نَفْسِ اللهِ أَبَدًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: لَيْسَ مِنْ أَهْلِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَحَدٌ إِلَّا وَقَدْ أَخْفَى اللهُ عَنْهُ عِلْمَ السَّاعَةِ، وَهِيَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "أَكَادُ أُخْفِيهَا عَنْ نَفْسِي" يَقُولُ: أَكْتُمُهَا مِنَ الْخَلَائقِ حَتَّى لَوِ اسْتَطَعْتُ أَنْ أَكْتُمَهَا مِنْ نَفْسِي فَعَلْتُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: فِي بَعْضِ الْقِرَاءَةِ أَكادُ أُخْفيهَا عَنْ نَفْسِي، قَالَ: لَعَمْرِي لَقَدْ أَخْفاهَا اللهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ المُقَرَّبينَ، وَمِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أَبي صَالِحٍ فِي قَوْلِهِ: "أَكادُ أُخْفِيهَا" قَالَ: يُخْفيها مِنْ نَفْسِهِ. وَهَذَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ اثْنَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ المَعْنَى: أُخْفِيهَا مِنْ خَلْقِي. وَلَيْسَ المَقْصُودُ بِـ "مِنْ نَفْسِي" في هَذِهِ القراءَةِ ذَاتَهُ المُقدَّسَةَ الْعَلِيَّةَ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الحِجْر: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} الآيَةَ: 29، وَكَقَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ مَرْيَمَ: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} الآيَةَ: 17، فَإِنَّهُ قَدْ أَخْفَى ذَاتَهُ، وَلَكِنْ فُهِمَ مِنْهُ أَنَّ المُرَادَ خَلْقُهُ؛ وَاللهُ أَعْلَمُ. والثاني: أَنْ يَكُونَ المَقْصُودُ: أَكَادُ أُخفِيهَا مِنْ أَخْيَارِ عِبَادِي، مَعَ عَظِيمِ قَدْرِهِمْ وَمَنْزِلَتِهِمْ عِنْدِي كَالمَلائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ والمُرْسَلَينَ؛ فَإِنَّ مِنْ عَادَةِ المُلوكِ أَلَّا يَكْتُمُوا أَسْرَارَهُمْ مِنْ خَوَاصِّهِمْ، بَلْ يُطْلِعُونَهُمْ عَلَيها، فَقَدْ أَخْبَرَ ـ جَلَّ وَعَزَّ، أَنَّهُ أَخْفَاهَا مِنْ خَوَاصِّ عَبَادِهِ وَأَخْيَارِهِمْ، وَالْعَرَبُ إِذَا بَالَغَتْ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ إِخْفَاءِ شَيْءٍ، قَالَتْ: كَتَمْتُهُ حَتَّى مِنْ نَفْسِي.
ثانيها: قَالَ الْأَخْفَشُ: بِأَنَّ مَعْنَى "أَكَادُ" هُنَا: أُرِيد، أَيْ: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أُرِيدُ أُخْفِيها.
ثالِثُها: وَقالَ الحَسَنُ: "أَكادُ" هُنَا صِلَةٌ، وَعَلَيْهِ فَالمَعْنَى: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أُخْفِيهَا.
رابِعُها: قَيلَ: إِنَّ مَعْنَى "أَكادُ" تَقْريبُ الْوُرُودُ وَالإِتْيَانِ، فهوَ كَمَا قَالَ صابِئٌ البُرْجُمِيُّ وقد حَبَسَهُ سَيِّدُنَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، إِلَى أَنْ مَاتَ في حَبْسِهِ لِهِجائِهِ بَعْضَ بَنِي جَرْوَلَ بْنِ نَهْشَلٍ:
هَمَمْتُ وَلَمْ أَفْعَلْ وَكِدْتُ وَلَيْتَنِي ....... تَرَكْتُ عَلَى عُثْمَانَ تَبْكِي حَلائلُهْ
فَقَوله: كِدْتُ لِتَقْريبِ الْفِعْل، فهوَ حديثُ نَفْسٍ كَقَولِ جَمِيلِ بُثَيْنَةَ:
هَمَمْتُ بِهَمٍّ مِنْ بُثَيْنَةَ لَوْ بَدَا ........ شَفَيْتُ غَلِيلَاتِ الْهَوَى مِنْ فُؤَادِيَا
ثُمَّ اسْتَأْنَفَ قَوْلَهُ فقالَ: "أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى" أَيْ: تَأْتيكُمْ بَغْتَةً، لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ: "إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيها" يَقُول: لَا أُظْهِرُ عَلَيْهَا أَحَدًا غَيْرِي.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ عَنْ وَرْقَاءَ قَالَ: أَقْرَأَنِيهَا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: "أَكَادُ أَخْفِيهَا" يَعْنِي بِنَصْبِ الْأَلِفِ وَخَفْضِ الْفَاءِ. يَقُولُ: أُظْهِرُهَا، ثُمَّ قَالَ أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ كَعْبِ بْنِ زُهيرٍ:
دَأْبَ شَهْرَين، ثُمَّ شَهْرًا دَمِيكًا .................. بِأَريكَيْنِ يَخْفِيانِ غَميرًا
أَيْ: يُظْهِرانِهِ. وقَوْلُهُ: الدَّمِيكُ: الشَّهْرُ التَّامُّ، وَالأَريكَيْنِ: اسْمُ مَوْضِعٍ، الغَمِيرُ: نَباتٌ رَطْبٌ، يَنْبُتُ فِي خِلالٍ يَبْسٍ. وَمِنْ مَجِيءِ خَفَيْتُ بِمَعْنَى أَظْهَرْتُ قَوْلُ امْرِئِ القَيْسِ يَذْكُرُ أَنَّ الفَرَسَ اسْتَخْرَجَ الفَأْرَةَ مِنْ جُحْرِها كالمَطَر:
خَفَاهُنَّ مِنْ أَنْفَاقِهِنَّ كَأَنَّمَا .............. خَفَاهُنَّ وَدْقٌ مِنْ عِشِيٍّ مُجْلِّبِ
وقَوْلُ امرئِ القيسِ أَيْضًا:
فَإنْ تَدْفِنُوا الدَّاءَ لاَ نُخْفِهِ ................. وَإنْ تُوقِدُوا الحَرْبَ لَا نَقْعُدُ
أَيْ: فإنْ تَدْفِنُوا الداءَ لَا نُظْهِرُهُ.
قَوْلُهُ: {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} وقالَ مِنْ سُورَةِ الطُّور: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} الآيةَ: 16، وَقالَ مِنْ سُورَةِ الزَّلْزَلَةِ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} الآيَتَانِ: (7 و
. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى" قَالَ: لِتُعْطَى ثَوَابَ مَا تَعْمَلُ. أَيْ: أَكادُ أُخْفي مَوْعِدَها لِيُعْلَمَ مَنْ يَخْشَى اللهَ بالغَيْبِ فَيَسْتَعِدَّ للِقائِهِ، وَبَيْنَ مَنْ يَغْفُلُ عَنْها وَيَسْتَرسِلَ معَ نَفْسِهِ وَشَهَوَاتِها، وَلَا يَسْتَعِدَّ لِهَذَا اليَوْمِ العَظِيمِ، فَتَكْتَمِلَ شُرُوطُ العَدَالَةِ، وَأَجْزِيَ كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ، فَيَكونَ الجَزَاءُ عَدْلًا، لأنَّ الإنْسَانَ لوْ عَلِمَ مَوْعِدَ الساعةِ ـ سَواءً كانتِ الصُّغْرَى أَوِ الكُبْرَى لاسْتَعَدَّ لَهَا، وحينئذٍ لا تَظْهَرُ مَزيَّةُ الإيمانِ بالغيبِ.
وَلِذَلِكَ كَانَ الفِعْلُ "كادَ" هُنَا في أَرْقى دَرَجَاتِ سُلَّمِ البَلاغَةِ، إِذْ أَدَّى وَظِيفَتَهُ عَلَى أَكْمَلِ وَجِهٍ، فَالْسَّاعَةُ لَيْسَتْ مُبْهَمَةً تَمَامًا وَلَيْسَتْ شَديدَةَ الوُضُوحِ، فالمَعْلوماتُ عَنْهَا مُتَوَفِّرَةٌ، وَمَوْعِدُهَا مَسْتُورٌ وَإِنَّمَا ثَمَّةَ عَلَامَاتٌ عَلَيْهِ، وَإِشَاراتٌ إِلَيْهِ.
قولُهُ تَعَالَى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ} إِنَّ: حرفٌ نَاصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفِعلِ، للتوكيد. وَ "السَّاعَةَ" اسْمُهُ مَنصوبٌ بِهِ. و "آتِيَةٌ" خَبَرُهُ مرفوعٌ بِهِ، وَالجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ.
قولُهُ: {أَكَادُ أُخْفِيهَا} أَكَادُ: فِعْلٌ مُضارِعٌ ناقِصٌ مِنْ أَفعالِ المقاربةِ، مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، واسمُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فِيه وُجوبًا تقديرُهُ "أنا" للتعظيمِ يَعُودُ عَلَى اللهِ تَعَالى. و "أُخْفِيهَا" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رفعِهِ ضمَّةٌ مُقدَّرةٌ على آخِرِهِ لِثِقَلِها على الياءِ، وَفاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فِيه وُجوبًا تقديرُهُ "أَنَا" للتَّعْظيمِ، يَعُودُ عَلَى اللهِ تَعَالى، و "ها" ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ في مَحَلِّ النَّصْبَ خَبَرُ "أَكَادُ" وَجُمْلَةُ: "أَكَادُ" فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرٌ ثانٍ لِـ "إِنَّ".
قَوْلُهُ: {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} اللَّامُ: حَرْفُ جَرٍّ وَتَعْلِيلٍ ـ لامُ (كي)، وَ "تُجْزَى" فِعْلٌ مُضارعٌ مَبْنِيٌّ للمَفْعولِ (مُغَيَّرُ الصِّيغَةِ)، مَنْصُوبٌ بِـ "أَنْ" مُضْمَرةً بَعْدَ لامِ "كَيْ"، وَعَلامَةُ نَصْبِهِ مُقدَّرَةٌ عَلى آخرِهِ لِتَعَذُّرِ ظُهُورِها عَلى الأَلِفِ. وَ "كُلُّ" نائِبُ فَاعِلِهِ مَرْفوعٌ بِهِ، وَهُوَ مُضافٌ. وَ "نَفْسٍ" اسمٌ مَجْرُورٌ بالإضافةِ إِليْهِ. وَ "بِمَا" الباءُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أُخْفِيها"، أَوْ تَتَعَلَّقُ بِـ "آتِيَةٌ"، وَ "ما" مَوْصُولٌ حَرْفِيٌّ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الجرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ، أَوْ هِيَ مَصْدَريَّةٌ. وَ "تَسْعَى" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفُوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ ضَمَّةٌ مُقَدَّرَةٌ عَلى آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظُهُورِهَا عَلَى الأَلِفِ، وَفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ جَوَازًا تَقْديرُهُ (هِيَ) يَعُودُ عَلى "نَفْسٍ"، وَالجُمْلَةُ صلَةٌ لِـ "مَا"، إِنْ كانَتْ مَوْصُولَةً، فَلَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ، أَيْ: بِمَا سَعَتْهُ، وَلَكِنَّهُ عَلَى تَقْديرِ مُضَافٍ؛ أَيْ: بِعِقابِ مَا سَعَتْهُ. أَوْ هِيَ صِلَةٌ لِـ "مَا" المَصْدَرِيَّةِ إِنْ أُعْرِبَتْ كَذَلِكَ؛ أَيْ: بِسَعْيِهَا، أَيْ: بِعِقَابِ سَعْيِهَا. وَجُمْلَةُ "تُجْزَى" الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ، مَعَ "أَنْ" المُضْمَرَةِ هُمَا في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرُورٍ بِاللَّامِ، وَالتَقْديرُ: لِجَزاءِ كُلِّ نَفْسٍ. وَجُمْلَةُ "أَكَادُ أُخْفِيهَا" جُمْلَةٌ اعْتِرَاضِيَّةٌ بَيْنَ هَاتَيْنِ الجملتينِ، ولَيْسَتْ نَعْتًا لِلخَبَرِ "آتِيَةٌ" وَذَلِكَ حَتَّى لَا يَلْزَمُ مِنْهُ إِعْمالُ اسْمِ الفاعِلِ المَوْصُوفِ، فإِنْ عَمِلَ ثُمَّ وُصِفَ جَازَ.
قَرَأَ العامَّةُ: {أَكَادُ أُخْفِيهَا} بِضَمِّ الهَمْزَةِ مِنْ "أُخْفيها". وَفِيهَا تَأْويلاتٌ، أَحَدُها: أَنَّ هَذِهِ الهَمْزَةَ لِلسَّلْبِ والإِزَالَةِ، أَيْ: أُزِيلُ خَفَاءَها نَحْوَ: أَعْجَمْتُ الكِتَابَ، أَيْ: أَزَلْتُ عُجْمَتَهُ. ثُمَّ فِي ذَلِكَ مَعْنَيَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الخَفَاءَ هُنَا بِمَعْنَى السَّتْرِ، وَإِذا أَزَالَ سَتْرَهَا فَقَدْ أَظْهَرَهَا. والمَعْنَى: أَنَّهَا ـ لِتَحْقُّقِ وُقُوعِهَا وَقُرْبِها، أَكادُ أُظْهِرُها لَوْلَا مَا تَقْتَضِيهِ الحِكْمَةُ مِنَ التَأْخِيرِ.
والثاني: أَنَّ الظُّهُورَ مِنْ معاني الخَفَاءِ، فيَكونُ المَعْنَى: أُزيلُ ظُهُورَهَا، وَإِذَا أَزَالَ ظُهُورَها فَقَدْ سَتَرَها، أَيْ: أَنِّي لِشِدَّةِ إبْهامِها أَكادُ أُخْفِيهَا فَلَا أُظْهِرُها البَتَّةَ، وَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنْ إِظْهَارِها؛ وَلِذَلِكَ وُجِدَ في بَعْضِ المَصَاحِفِ: أَكادُ أُخْفِيهَا مِنْ نَفْسِي فَكَيْفَ أُظْهِرُكُمْ عَلَيْهَا؟ كَمَا فِي مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وقدْ تقدَّمَ ذلكَ في مَبحثِ التفسيرِ، وَهُوَ عَلى مَا جَرَتْ عَلَيْهِ عَادةُ العَرَبِ فِي المُبَالَغَةِ في الإِخْفَاءَ.
وَمِنَ الْمُبَالَغَةِ قَوْلُهُ ـ عَلَيْهِ صَلاةُ اللهِ وَسَلامُهُ، فِي حَدِيثِ السَّبْعَةِ الَّذِينَ يُظِلُّهُمُ اللهُ في ظلِّهِ يَوْمَ لا ظَلَّ إِلَّا ظِلُّهُ، فَذَكَرَ منْهم: ((رَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمُ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ))، وَهَذَا الْقَوْلُ مَرْوِيٌّ عَنْ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ وَأَبُو صَالِحٍ كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَجَعْفَرٌ الصَّادِقُ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ العلَّامَةُ الْأَلُوسِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ. والتَأْويلُ الثاني: أَنَّ "كَادَ" زَائِدَةٌ. وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ. وَقَدْ أَنْشَدوا عَلَيْهِ قَوْلَ الصَّحابيِّ الجَليلِ زَيْدِ الخَيْلِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
سَريعٌ إِلَى الهَيْجاءِ شَاكٍ سِلاحَهُ ............. فَمَا إِنْ يَكادُ قِرْنُهُ يَتَنَفَّسُ
وَقَوْلَ حَسَّانِ بْنِ ثابِتٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
وَتَكادُ تَكْسَلُ أَنْ تَجِيَءَ فِراشَهَا ......... فِي جِسْمِ خَرْعَبَةٍ وَحُسْنِ قَوَامِ
أَيْ: وَتَكْسَلُ أَنْ تَجِيءَ فِرَاشَهَا.
التَأْويلُ الثالثُ: أَنَّ الكَيْدُوْدَةَ بِمَعْنَى الإِرادةِ، ونُسِبَ لِجَمَاعَةٍ مِنْهُم سَعِيدٌ الأَخْفَش.
والتأويل الرابع: أَنَّ خَبَرَ "كاد" مَحْذوفٌ وَالتَقْديرُ: أَكادُ آتي بِهِ لِقُرْبِهَا. فالوَقْفُ عَلَى "أَكادُ"، والابْتِداءُ بـ "أُخْفِيهَا"، وقدِ اسْتَحْسَنَ ذلكَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحاسُ. وَقَرَأَ أَبُو الدَّرْداءِ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، والحَسَنُ، ومُجَاهِدٌ، وَحُمَيْدٌ: "أَخْفِيهَا" بِفَتْحِ الهَمْزَةِ. وَالمَعْنَى: أُظْهِرُها، بالتَأْويلِ المُتَقَدِّمِ، يقال: خَفَيْتُ الشيءَ: أظهَرْتُه، وأَخْفَيْتُه: سَتَرْتُهُ، وَهوَ المَشْهُورُ. وَقِيلَ إِنَّ خَفَيْتُ وأَخْفَيْتُ بِمَعْنًى. فإِنَّهُ يَأْتي بِمَعْنَى أَظْهَرَ، وَيَأْتي بِمَعْنَى سَتَرَ، فَهُوَ مِنَ الأَضْدَادِـ وَبناءً عَلى هَذَا تَتَّحِدُ القراءتان.