وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79)
قولُهُ ـ تَعَالَى شأْنُهُ: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ} أَي: حَرَفَهم عنِ الصَّوابِ حينَ دَعَاهم إِلى عِبَادَتِهِ، وَسَلَكَ بِهِمْ مَسْلَكًا أَدى بِهِمْ إِلَى الخُسْرانِ فِي الآخرةِ، وَالخَيْبَةِ فِي الدُّنْيَا حَيْثُ مَاتُوا عَلَى الكُفْرِ بِعَذابٍ هائلٍ حِينَ ساقَهُمْ إِلى الهَلاكِ، لِأَنَّهُ قَدَّرَ أَنَّ مُوسَى وَقَوْمَهُ لَنْ يُفْلِتوا مِنْهُ لِكَوْنِهِمْ بَيْنَ يَدَيْهِ يَمْشُونَ في طَريقٍ يَابِسَةٍ في البَحْرِ.
ذَكَرَ الإمامُ الرازي في تفسيرِهِ أَنَّ فِرْعَوْنَ أَقْبَلَ إِلَى تِلْكَ الطُّرُقِ التي سلَكَها بنو إسْرائيلَ فَقَالَ لهُ قَوْمُهُ: إِنَّ مُوسَى قَدْ سَحَرَ الْبَحْرَ فَصَارَ كَمَا تَرَى وَكَانَ عَلَى فَرَسٍ حِصَانٍ، وَأَقْبَلَ جِبْرِيلُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَلَى فَرَسٍ أُنْثَى، فِي ثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَصَارَ جِبْرِيلُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، بَيْنَ يَدَيْ فِرْعَوْنَ، وَأَبْصَرَ الْحِصَانُ الْفَرَسُ الْحِجْرَ، فَاقْتَحَمَ بِفِرْعَوْنَ عَلَى أَثَرِهَا، وَصَاحَتِ الْمَلَائِكَةُ فِي جُنْدِهِ: أَنِ الْحَقُوا الْمَلِكَ، حَتَّى إِذَا دَخَلَ آخِرُهُمْ، وَكَادَ أَوَّلُهُمْ أَنْ يَخْرُجَ، الْتَقَى الْبَحْرُ عَلَيْهِمْ، فَغَرِقُوا، فَسَمِعَ بَنُو إِسْرَائِيلَ خَفْقَةَ الْبَحْرِ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: مَا هَذَا يَا مُوسَى؟ قَالَ: قَدْ أَغْرَقَ الله فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ، فَرَجَعُوا لِيَنْظُرُوا إِلَيْهِمْ، فَقَالُوا: يَا مُوسَى ادْعُ اللهَ أَنْ يُخْرِجَهُمْ لَنَا حَتَّى نَنْظُرَ إِلَيْهِمْ، فَدَعَا موسَى، فَلَفَظَهُمُ الْبَحْرُ إِلَى السَّاحِلِ، وَأَصَابُوا مِنْ سِلَاحِهِمْ وعتادِهِمْ.
وَذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، أَنَّ جِبْرِيلَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، قالَ لسَيِّدِنا رَسُولِ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ: يا مُحَمَّدُ لَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا أَدُسُّ فِرْعَوْنَ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ مَخَافَةَ أَنْ يَتُوبَ.
وَالْإِضْلَالُ: الْإِيقَاعُ فِي الضَّلَالِ، وَهُوَ خَطَأُ الطَّرِيقِ الْمُوَصِّلِ. وَيُسْتَعْمَلُ بِكَثْرَةٍ فِي مَعْنَى الْجَهَالَةِ وَعَمَلِ مَا فِيهِ ضُرٌّ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا. وهوَ مِنْ ضَلَّ الرَجُلُ، يَضِلُّ ضَلالًا، فهوَ ضَالٌّ أَي: ضَاعَ وَهَلَكَ، وَالضَّلالُ والضَلالَةَ: ضِدُّ الرَّشَادِ. وَقَدْ ضَلَلْتُ الطَّريقَ أَضِلُّهُ إِذا أَضَعْتُهُ. والضِلِّيلُ كثيرُ الضَّلالِ، وهي صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ مِنْهُ. وَالاسْمُ مِنْهُ "الضُلُّ" ـ بِالضَمِّ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: هوَ ضُلُّ بْنُ ضُلٍّ، أَي لَا يُعْرفُ هوَ وَلَا يُعْرَفُ أَبُوهُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ فِرْعَوْنَ أَوْقَعَ قَوْمَهُ فِي الْجَهَالَةِ وَسُوءِ الْعَاقِبَةِ بِمَا بَثَّ فِيهِمْ مِنْ قَلْبِ الْحَقَائِقِ وَالْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ، وقدْ ضَلوا فَلَمْ يُصَادِفُوا السَّدَادَ فِي أَعْمَالِهِمْ حَتَّى كَانَتْ خَاتِمَتُهَا وُقُوعُهُمْ غَرْقَى فِي الْبَحْرِ بِعِنَادِهِ فِي تَكْذِيبِ دَعْوَةِ مُوسَى ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلَامُ
قوْلُهُ: {وَمَا هَدَى} تَأْكِيدٌ لإِضْلالِ فِرْعونَ قَوْمَهُ، وَتَقريرٌ لَهُ، لِأَنَّ المُضِلَّ قَدْ يُرْشِدُ مِنْ يُضِلَهُ فِي بَعْضِ الأُمُورِ، لَكِنَّ فِرْعَونَ لمْ يُرشِدْ قومَهَ إلى نَفْعٍ قطُّ.
وهُوَ تَهَكُّمٌ بِفِرْعَوْنَ، وَالتَّهَكُّمُ: أَنْ يَأْتِيَ بِعِبارَةٍ والمُرادُ هوَ عَكْسُ مُقْتَضَى هذِهِ العِبارةِ، كَقَوْلِهِمْ: {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} الآيةَ: 87، مِنْ سورةِ هودٍ. والهَدَفُ وَضْعُهُ بِضِدِّ هَذَيْنِ الوَضْعَيْنِ "الحِلْمُ" و "الرَّشادُ".
قولُهُ تَعَالَى: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ} الواوُ: استئنافيةٌ، أو عاطفةٌ، و "أضَلَّ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، و "فِرْعَونُ" فَاعِلُهُ مرفوعٌ. و "قومَهُ" مفعولُهُ مُنْصوبٌ بِهِ، وهوَ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ، وَالجُمْلَةُ مُسْتَأنَفةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ، إِذا أُعْرِبَتِ الواوُ: اسْتِئْنَافِيَّةً، أَوْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ {فَغَشِيَهُمْ} مِنَ الجُملةِ التي قبلَها، عَلى كوْنِها صِلَةَ "مَا" المَوْصولِةِ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ، أَوْ صِفَةً لَهَا في مَحَلِّ الرَّفعِ، وَيَكونُ فِي الكَلامِ تَقْديمٌ وَتَأْخِيرٌ؛ لِأَنَّ إِضْلالَهُ قَوْمَهُ كانَ قَبْلَ غَرَقِهمْ في البَحْرِ طَبْعًا.
قوْلُهُ: {وَمَا هَدَى} الواوُ: عَاطِفَةٌ، و "مَا" نَافِيَةٌ. و "هَدَى" فِعْلٌ
مَاضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ المُقدَّرِ على آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظُهُورِهِ عَلَى الأَلِفِ. وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى "فِرْعَوْن"، وَالجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "أَضَلَّ" ولها ما لها مِنَ الإعْرابِ.