قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى
(63)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ} قالَ السُّدِّيُّ وابْنُ يَسَارٍ هَذِهِ هيَ نَجْواهُمْ الَّتي أَسَرُّوهَا بَيْنَهُم، كَمَا تَقَدَّمَ الحديثُ عَنْها في الآيَةِ الَّتي قَبْلَها. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هؤُلاءِ الْقَائِلُونَ هُمْ بَعْضٌ ممَّنْ شَاهَدَ مَا أَتَى بِهِ مُوسَى ـ علَيْهِ السَّلامُ، فِي مَجْلِسِ فِرْعَوْنَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكونُوا مِمَّنْ بَلَغَهُمْ ذَلِكَ بِالتَّسَامُعِ وَالِاسْتِفَاضَةِ.
إِذًا فَقَدِ اسْتَقَرَّ رَأْيُ الأَغْلَبِيَّةِ بَعَدَ التَّنَازُعِ بَيْنَهمْ والتَّشَاوُرِ عَلَى القَوْلِ إِنَّ هذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ ـ يَعْني مُوسَى وهارونُ، عَلَيْهِما السَّلامُ، هُمَا سَاحِرَانِ، عَالِمَانِ بِصِنَاعَةِ السِّحْرِ مُتْقِنانِ لِفُنُونِهَا.
قَوْلُهُ: {يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما} أَيْ: وَهُمَا يُرِيدَانِ أَنْ يَغْلِبَاكُمْ عَلَى أَرْضِكُمْ وَيُخِرجاكُمْ وَقَوْمَكُمْ مِنْها بِسِحْرِهِمَا، وَيَسْتَوْلِيَا عَلَى عُقولِ النَّاسِ وأَلْبابِهِم، حَتَّى تَتْبَعَهُمَا العَامَّةُ، ثُمَّ يُقَاتِلاَنِ فِرْعَوْنَ وَجُنُودَهُ، وَيَنْتَصِرَانِ عَلَيْهِم.
وَقَدْ أْكَّدُ السَّحَرَةُ كَوْنَ مُوسَى وَهَارُونَ ـ عَلَيْهِما السَّلامُ، سَاحِرَيْنِ بِحَرْفِ "إِنَّ" لِيَتَحَقَّقَ ذَلِكَ عِنْدَ كُلِّ مَنْ يُخَامِرُهُ الشَّكُّ فِي صِحَّةِ دَعْوَتِهِمَا أَنَّهُما مُرْسَلَيْنِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالى. وَكافُ الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: "يُخْرِجاكُمْ" عائدَةٌ لِلمَلَأِ مِنْ قومِ فرعونَ.
وَتَسْمِيَتُهم مَا أَظْهَرَهُ مُوسَى بَيْنَ يَدَيْ فِرْعَوْنَ مِنَ الأُمُورِ الْمُعْجِزَةِ سِحْرًا لِأَنَّهُمْ كانوا يُطْلِقُونَ السِّحْرَ عَلَى خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وهذا كَمَا قَالَتِ الْمَرْأَةُ الَّتِي شَاهَدَتْ نَبْعَ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِقَوْمِهَا: (جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ أَسْحَرِ النَّاسِ). فقد أَخْرَجَ الأَئِمَّةُ: أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ: (4/434، برقم: 20140)، والدَّارِمِيُّ: (743)، والبُخَارِي في كِتابِ المَغازي مِنْ صَحِيحِهِ: (1/93، برقم: 344)، و: (1/96، برقم: 348)، و: (4/232، برقم: 3571)، ومُسْلِمٌ في صحيحِهِ: (2/140، برقم: 1509)، و: (2/141، برقم: 1510)، والنَّسَائِيُّ: (1/171، وَفي "الكُبْرَى: (306)، وابْنُ خُزَيْمَةَ: (113 و 271 و 987 و 997) مُقَطَّعًا، والبغويُّ في شَرْحِ السُّنَّةِ: (13/293)، والنَّصُّ لَهُ: عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: "سَرَى رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي سَفَرٍ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، قَالَ: فَأَصَابَهُمْ عَطَشٌ شَدِيدٌ، فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ، قَالَ: أَحْسِبُهُ عَلِيًّا وَالزُّبَيْرَ أَوْ غَيْرَهُمَا، فَقَالَ: إِنَّكُمَا سَتَجِدَانِ امْرَأَةً بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا مَعَهَا بَعِيرٌ عَلَيْهِ مَزَادَتَانِ، فَأْتِيَانِي بِهَا، قَالَ: فَأَتَيَا الْمَرْأَةَ، فَوَجَدَاهَا قَدْ رَكِبَتْ بَيْنَ مَزَادَتَيْنِ عَلَى الْبَعِيرِ، فَقَالا لَهَا: أَجِيبِي رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: وَمَنْ رسُولُ اللهِ؟ هَذَا الصَّابِئُ؟ قَالا: هُوَ الَّذِي تَعْنِينَ، وَهُوَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَقًّا، فَجَاءَا بِهَا، فَأَمَرَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجُعِلَ فِي إِنَاءٍ مِنْ مَزَادَتَيْهَا، ثُمَّ قَالَ فِيهِ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَقُولَ، ثُمَّ أَعَادَ الْمَاءَ فِي الْمَزَادَتَيْنِ، ثُمَّ أَمَرَ بِعَزْلاءِ الْمَزَادَتَيْنِ، فَفُتِحَتْ، ثُمَّ أَمَرَ النَّاسَ، فَمَلَئُوا آنِيَتَهُمْ وَأَسْقِيَتَهُمْ، فَلَمْ يَدَعُوا يَوْمَئذٍ إِنَاءً وَلا سِقَاءً إِلَّا مَلَئُوهُ. قَالَ عِمْرَانُ: حَتَّى كَانَ يُخَيَّلُ إِلَيَّ أَنَّهَا لَمْ تَزْدَدْ إِلَّا امْتِلاءً، قَالَ: فَأَمَرَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِثَوْبِهَا فَبُسِطَ، ثُمَّ أَمَرَ أَصْحَابَهُ، فَجَاءُوا مِنْ زَادِهِمْ حَتَّى مَلأَ لَهَا ثَوْبَهَا، ثُمَّ قَالَ لَهَا: اذْهَبِي، فَإِنَّا لَمْ نَأْخُذْ مِنْ مَائِكِ شَيْئًا، وَلَكِنَّ اللهَ سَقَانَا، فَجَاءَتْ أَهْلَهَا، فَأَخْبَرَتْهُمْ، فَقَالَتْ: جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ أَسْحَرِ النَّاسِ، أَوْ إِنَّهُ لَرَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَقًّا، فَجَاءَ أَهْلُ ذَلِكَ الْحِوَاءِ حَتَّى أَسْلَمُوا كُلُّهُمْ". وَهَذَا حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ، أَخْرَجَاهُ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ. والمَزَادَةُ: هي الَّتِي يُسَمِّيها النَّاسُ (الرَّاوِيَةُ)، وَالرَّاوِيَةُ: الْبَعِير الَّذِي يُسْقَى عَلَيْهِ.
قولُهُ: {وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى} بِطَرِيقَتِكُمُ: الْبَاءُ هُنَا لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ "يَذْهَبا"، فهي كَهَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ، والمعنى: يَذْهَبَا بِأَهْلِ طَرِيقَتِكُمْ. أَوْ: يُذْهِبَانِهَا، وَهُوَ أَبْلَغُ فِي تَعَلُّقِ الْفِعْلِ بِالْمَفْعُولِ مِنْ نَصْبِ الْمَفْعُولِ.
وَالطَّرِيقَةُ: السُّنَّةُ وَالْعَادَةُ شُبِّهَتْ بِالطَّرِيقِ الَّتِي يَسِيرُ فِيهِا السائِرُ، بِجَامِعِ الْمُلَازَمَةِ. وقِيلَ: عبَّروا بالطَّريقَةِ هُنَا عَنِ السَّادَةِ فَلَا حَذْفَ.
وَالْمُثْلَى: اسْمُ تَفْضِيلٍ مُشْتَقٌّ مِنَ الْمَثَالَةِ، مُؤَنَّثُ "الْأَمْثَلِ". وَتَعْنِي حُسْنَ الْحَالَةِ، فَقَولُهم: (فُلَانٌ أَمْثَلُ قَوْمِهِ)، يَعْنِي أَنَّهُ أَقْرَبُهُمْ إِلَى الْخَيْرِ وَأَحْسَنُهُمْ حَالًا.
يُرِيدَونَ القولَ: إِنِّ موسَى وهارونَ يُريدانِ الِاسْتِئْثَارَ بِصِنَاعَةِ السِّحْرِ فِي أَرْضِكُمْ الَّذي هُوَ سُنَّتُكُمْ وَشَرِيعَتُكُمْ وَمَوْرِدُ رِزْقِكُمْ، وَمَصْدَرُ جَاهِكُمْ، والَّذِي هُوَ طَرِيقَةُ عَيْشِكُمُ المُثْلَى المُفَضَّلَةُ عَنْدَكم. فَتَخْرُجُوا مِنَ الْأَرْضِ بِإِهْمَالِ النَّاسِ لَكُمْ وَإِقْبَالِهِمْ عَلَى سِحْرِ مُوسَى وَهَارُونَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى" قَالَ: أُولُو الْعَقْلِ وَالشَّرَفِ وَالأَسْنَانِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَوَكِيعٌ فِي (الْغرُورِ) عَنْ أَبي صَالِحٍ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تعالى: "وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى"، قَالَ: أَي: بِأَشْرَافِكُمْ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى" قَالَ: يَذْهَبَا بِالَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ.
وَقد أَرَادُ السَّحَرةُ مِنِ ادِّعائِهِمْ هَذَا إِثَارَةَ حَمِيَّةِ بَعْضِهِمْ غَيْرَةً عَلَى عَوَائِدِهِمْ، فَإِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ غَيْرَةً عَلَى عَوَائِدِهَا وَشَرَائِعِهَا وَأَخْلَاقِهَا ومَوروثِها الثَّقافيِّ. وَلِذَا فَرَّعُوا عَلَى ذَلِكَ أَمْرَهُمْ بِأَنْ يَجْمَعُوا حِيَلَهُمْ، وَكُلَّ مَا فِي وُسْعِهِمْ وَأَنْ يَغْلِبُوا بِهِ مُوسَى ـ عليْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ.
قوْلُهُ تَعَالَى: {قالُوا} قَالُوا: فِعْلٌ ماضٍ مبنيُّ على الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجَماعَةِ، وواوُ الجَماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والأَلِفُ للتَّفْريقِ، وَالجُمْلَةُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ {وَأَسَرُّوا النَّجْوى} في الآيةِ التي قبلَها، لِأَنَّ إِسْرَارَ النَّجْوَى يَشْتَمِلُ عَلَى أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ ذُكِرَ مِنْهَا هَذَا الْقَوْلُ، لِأَنَّهُ الْقَوْلُ الْفَصْلُ فيما بَيْنَهُمْ، وَالرَّأْيُ الَّذِي أَرْسَوْا عَلَيْهِ قرارَهم، فَهُوَ زُبْدَةُ مَخِيضِ نَجْوَاهم تِلْكَ. وَذَلِكَ هو شَأْنُ التَّشَاوُرِ وَتَنَازُعِ الْآرَاءِ، أَنْ يُسْفِرَ عَنْ رَأْيٍ يَصْدُرُ عَنْهُ جَمِيعُ المُتَشاورينَ والمتنازعينَ. وَإِسْنَادُ الْقَوْلِ إِلَى ضَمِيرِ جَمْعِهِمْ عَلَى مَعْنَاهُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: "إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ"، فَقَالَ الباقونَ: نَعَمْ "إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ"، فَأُسْنِدَ هَذَا الْقَوْلُ إِلَى جَمِيعِهِمْ، أَيْ: هي مَقَالَةٌ تَدَاوَلُوا الْخَوْضَ فِي شَأْنِهَا فَأَرْسَوْا الرَّأْيَ عَلَيْهَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: نَعَمْ هُوَ كَذَلِكَ، وَنَطَقُوا بِالْكَلَامِ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ رَأْيُهُمْ، وَهُوَ تَحَقُّقُهُمْ أَنَّ مُوسَى وَأَخَاهُ هارونَ سَاحِرَانِ.
قولُهُ: {إِنْ هذانِ لَساحِرانِ} إِنْ: هِيَ المُخَفَّفَةُ مِنْ "إِنَّ" الثَّقيلَةِ، واسْمًها ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وخبرُها الجملةُ الاسْميَّةُ بعدها، أَوْ هِيَ المُهْمَلَةُ، و "هَذَانِ" اسْمُ إِشارَةٍ مَبْنِيُّ عَلَى الأَلِفِ لِأَنَّهُ مُثَنَّى في مَحَلِّ الرَّفْعِ بِالابْتِدَاءِ، وَ "لَسَاحِرَانِ" اللَّامُ: هِيَ الفَارِقَةُ الَّتي تُشْعِرُ بِكَوْنِ "إِنْ" هِيَ المُخَفَّفَةُ. أَوْ هِيَ حَرْفُ ابْتِدَاءٍ، وَقِيلَ: "إِنْ" نافِيَةٌ، وَاللَّامً: بِمَعْنَى "إِلَّا"، وهُوَ بَعيدٌ. وَ "سَاحِرَانِ" خَبَرُ المُبْتَدَأِ مَرْفُوعٌ، وَعَلامَةُ رَفعِهِ الأَلِفُ لِأَنَّهُ مُثنَّى، والنونُ عِوَضٌ مِنَ التَّنْوينِ في الاسْمِ المُفردِ، وَهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "إِنْ" المُخَفَّفَةِ، وَجُمْلَةُ "إِنْ" المُخَفَّفَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولً القولِ لـ "قَالُوا".
قوْلُهُ: {يُرِيدانِ} فِعْلٌ مُضَارعٌ مَرْفُوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وَعلامةُ رَفعِهِ ثباتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفعالِ الخَمْسَةِ، وأَلِفُ الإثْنَيْنِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ صِفَةً للخَبَرِ "سَاحِرَانِ".
قَوْلُهُ: {أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما} أَنْ: حَرْفٌ ناصِبٌ مَصْدَريٌّ. و "يُخْرِجَاكُمْ" فِعْلٌ مُضارعٌ منصوبٌ بِـ "أَنْ"، وعلامةُ نَصْبِهِ حَذْفُ النَّونِ مِنْ آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسَةِ، وَأَلِفُ الإثْنَيْنِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفعِ بالفَاعِلِيَّةِ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالمفْعوليَّةِ، والميمُ علامةُ الجمعِ المُذَكَّرِ. و "مِنْ" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يُخْرِجَاكُمْ"، وَ "أَرْضِكُمْ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ مُضافٌ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ، والميمُ علامةُ الجمعِ المُذكَّرِ. و "بِسِحْرِهِمَا" الباءُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِحَالٍ مِنْ فَاعِلِ "يُخْرِجَاكُمْ"؛ أَيْ: حَالَةَ كَوْنِهِمَا مُتَلَبِّسَيْنِ بِسِحْرِهِمَا، و "سِحْرِهِمَا" مجرورٌ بِحَرْفِ الجرِّ، مُضافٌ، و "هما" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإِضافةِ إلَيْهِ. وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مَعَ "أَنْ" المَصْدَرِيَّةِ فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَنْصُوبٍ عَلَى المَفْعُولِيَّةِ لِـ "يُرِيدَانِ" والتقديرُ: يُريدانِ إِخْرَاجَهُمَا إِيَّاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا.
قولُهُ: {وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى} الوَاوُ: للعَطْفِ، و "يَذْهَبَا" فِعْلٌ مُضارعٌ مَعْطُوفٌ عَلَى "يُخْرِجَا" ولهُ مِثلُ إِعرابِهِ. و "بِطَرِيقَتِكُمُ" الباءُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يذهبا"، و "طَرِيقَتِكُمُ" مجرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ، مُضافٌ، وَكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإِضافةِ إلَيْهِ، والميمُ علامةُ تذْكيرِ الجَمعِ. و "الْمُثْلَى" صِفَةٌ لِـ "طَريقَتِكُمْ" مجرورةٌ مِثْلُها، وعلامةُ جَرِّها كسْرةٌ مُقدَّرةٌ على آخِرِها لِتَعَذُّرِ ظهورِها على الأَلِفِ، والجُملةُ معطوفةٌ على جملةِ قولِهِ "يُخْرِجَاكم" عَلَى كَوْنِها في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَنْصُوبٍ عَلَى المَفْعُولِيَّةِ لِـ "يُرِيدَانِ".
قَرَأ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ المُعْتَبَرينَ: {هاذانِ} بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ من قَوْلِهِ "إِنْ هَاذَانِ لَساحِران" مَا عَدَا أَبَا عَمْرٍو بْنِ العلاءِ، مِنَ القرَّاءِ الْعَشَرَةِ، وَمَا عَدَا الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ مِنَ القرَّاءِ الْأَرْبَعَةَ عَشَرَ. وَذَلِكَ يُوجِبُ الْيَقِينَ بِأَنَّ إِثْبَاتَ الْأَلِفِ فِي لَفْظِ (هَاذَانِ) أَكْثَرُ تَوَاتُرًا بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَيْفِيَّةِ النُّطْقِ بِكَلِمَةِ (إِنَّ) مُشَدَّدَةً أَوْ مُخَفَّفَةً، وَأَنَّ أَكْثَرَ مَشْهُورِ الْقِرَاءَاتِ الْمُتَوَاتِرَةِ قَرَأُوا ـ بِتَشْدِيدِ نُونِ (أَنَّ)، مَا عَدَا ابْنَ كَثِيرٍ وَحَفْصًا عَنْ عَاصِمٍ فَقد قَرَآ "أَنْ" ـ بِسُكُونِ النُّونِ، عَلَى أَنَّهَا مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ.
وَمَا رَسَمُوهُ في الْمُصْحَفَ الْإِمَامَ إِلَّا اتِّبَاعًا لِأَشْهَرِ الْقِرَاءَاتِ الْمَسْمُوعَةِ الْمَرْوِيَّةِ مِنْ زَمَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقُرَّاءِ أَصْحَابِهِ ـ رُضْوانُ اللهِ عليهم، فَإِنَّ حِفْظَ الْقُرْآنِ فِي صُدُورِ الْقُرَّاءِ أَقْدَمُ مِنْ كِتَابَتِهِ فِي الْمَصَاحِفِ، وَمَا كُتِبَ فِي أُصُولِ الْمَصَاحِفِ إِلَّا مِنْ حِفْظِ الْكَاتِبِينَ، وَمَا كُتِبَ الْمُصْحَفُ الْإِمَامُ إِلَّا مِنْ مَجْمُوعِ مَحْفُوظِ الْحُفَّاظِ وَمَا كَتَبَهُ كُتَّابُ الْوَحْيِ فِي مُدَّةِ نُزُولِ الْوَحْيِ.
فَأَمَّا قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ إِنْ هذانِ لَساحِرانِ ـ بِتَشْدِيدِ نُونِ، "إِنَّ" وَبِالْأَلِفِ فِي "هاذانِ" وَكَذَلِكَ فِي "لَساحِرانِ"، فَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي تَوْجِيهِهَا آرَاءٌ بَلَغَتِ السِّتَّةَ. وَأَظْهَرُهَا أَنْ تَكُونَ "إِنَّ" حَرْفُ جَوَابٍ مِثْلَ: "نَعَمْ" وَ "أَجَلْ"، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ مِنِ اسْتِعْمَالَاتِ "إِنَّ"، أَيِ اتَّبَعُوا لَمَّا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ أَمْرُهُمْ بَعْدَ النَّجْوَى كَقَوْلِ عَبْدِ اللهِ بْنِ قَيْسِ الرُّقَيَّاتِ:
وَيَقُلْنَ شَيْبٌ قَدْ عَلَا ......................... كَ وَقَدْ كَبِرْتَ فَقُلْتُ إِنَّهُ
أَيْ أَجَلْ أَوْ نَعَمْ، وَالْهَاءُ فِي الْبَيْتِ هَاءُ السَّكْتِ، وَقَوْلِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ لِأَعْرَابِيٍّ اسْتَجْدَاهُ فَلَمْ يُعْطِهِ، فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: لَعَنَ اللهُ نَاقَةً حَمَلَتْنِي إِلَيْكَ. قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: إِنَّ وَرَاكِبَهَا. وَهَذَا التَّوْجِيهُ مِنْ مُبْتَكَرَاتِ أَبِي إِسْحَاقَ الزَّجَّاجِ ذَكَرَهُ فِي تَفْسِيرِهِ (معاني القُرآنِ وإعرابُهُ). وَقَالَ: عَرَضْتُهُ عَلَى عَالِمَيْنَا وَشَيْخَيْنَا وَأُسْتَاذَيْنَا مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدٍ (يَعْنِي الْمُبَرِّدَ)، وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ حَمَّادٍ (يَعْنِي الْقَاضِيَ الشَّهِيرَ)، فَقَبِلَاهُ وَذَكَرَا أَنَّهُ أَجْوَدُ مَا سَمِعَاهُ فِي هَذَا. وَقُدْ صَدَقَا وَحَقَّقَا، أَمَّا ما أَوْرَدَهُ ابْنُ جِنِّيٍّ عَلَيْهِ مِنَ الرَّدِّ، فِفيهِ نَظَرٌ.
وَفِي (التَّفْسِيرِ الْوَجِيزِ) لِلْوَاحِدِيِّ سَأَلَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي، وَهُوَ ابْنُ إِسْحَاقَ بْنِ حَمَّادٍ، ابْنَ كَيْسَانَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: لَمَّا لَمْ يَظْهَرْ فِي الْمُبْهَمِ إِعْرَابٌ فِي الْوَاحِدِ وَلَا فِي الْجَمْعِ (أَيْ فِي قَوْلِهِمْ هَذَا وَهَؤُلَاءِ إِذْ هُمَا مَبْنِيَّانِ) جَرَتِ التَّثْنِيَةُ مَجْرَى الْوَاحِدِ إِذِ التَّثْنِيَةُ يَجِبُ أَنْ لَا تُغَيَّرَ. فَقَالَ لَهُ القاضي إِسْمَاعِيل: مَا حَسُنَ هَذَا لَوْ تَقَدَّمَكَ أَحَدٌ بِالْقَوْلِ فِيهِ حَتَّى يُؤْنَسَ بِهِ! فَقَالَ لَهُ ابْنُ كَيْسَانَ: فَلْيَقُلْ بِهِ الْقَاضِي حَتَّى يُؤْنَسَ بِهِ، فَتَبَسَّمَ.
وَعَلَى هَذَا التَّوْجِيهِ يَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ حِكَايَةً لِمَقَالِ فَرِيقٍ مِنَ الْمُتَنَازِعِينَ، وَهُوَ الْفَرِيقُ الَّذِي قَبِلَ هَذَا الرَّأْيَ لِأَنَّ حَرْفَ الْجَوَابِ يَقْتَضِي كَلَامًا سَبَقَهُ.
وَدَخَلَتِ اللَّامُ عَلَى الْخَبَرِ: إِمَّا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ الْخَبَرِ جُمْلَةً حُذِفَ مُبْتَدَأُهَا وَهُوَ مَدْخُولُ اللَّامِ فِي التَّقْدِيرِ، وَوُجُود اللّام يُنْبِئُ بِأَنَّ الْجُمْلَةَ الَّتِي وَقَعَتْ خَبَرًا عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ جُمْلَةٌ قَسَمِيَّةٌ وَإِمَّا عَلَى رَأْيِ مَنْ يُجِيزُ دُخُولَ اللَّامِ عَلَى خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ فِي غَيْرِ الضَّرُورَةِ.
وَوُجِّهَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ أَيْضًا بِجَعْلِ "إِنَّ" حَرْفَ تَوْكِيدٍ وَإِعْرَابُ اسْمِهَا الْمُثَنَّى جَرَى عَلَى لُغَةِ كِنَانَةَ وَبِلْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ عَلَامَةَ إِعْرَابِ الْمُثَنَّى الْأَلِفَ فِي أَحْوَالِ الْإِعْرَابِ كُلِّهَا، وَهِيَ لُغَةٌ مَشْهُورَةٌ فِي الْأَدَبِ الْعَرَبِيِّ وَلَهَا شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا قَوْلُ الْمُتَلَمِّسِ:
فَأَطْرَقَ إِطْرَاقَ الشُّجَاعِ وَلَوْ دَرَى ......... مَسَاغًا لِنَابَاهُ الشُّجَاعُ لَصَمَّمَا
وَقَرَأَهُ حَفْصٌ ـ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَتَخْفِيفِ نُونِ "إِنْ" مُسَكَّنَةً، عَلَى أَنَّهَا مُخَفَّفَةُ (إِنَّ) الْمُشَدَّدَةِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ اسْمُ "إِنِ" الْمُخَفَّفَةِ ضَمِيرَ شَأْنٍ مَحْذُوفًا عَلَى الْمَشْهُورِ. وَتَكُونُ اللَّامُ فِي لَساحِرانِ اللَّامَ الْفَارِقَةَ بَيْنَ "إِنِ" الْمُخَفَّفَةِ وَبَيْنَ "إِنِ" النَّافِيَةِ.
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ ـ بِسُكُونِ نُونِ "إِنْ"، عَلَى أَنَّهَا مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَبِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ فِي "هَاذَانِ" وَبِتَشْدِيدِ نُونِ "هَاذَانِّ".
وَأَمَّا قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو وَحْدَهُ "إِنَّ هَذَيْنِ" ـ بِتَشْدِيدِ نُونِ "إِنَّ" وَبِالْيَاءِ بَعْدَ ذَالِ "هَذَيْنِ". فَقد قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هِيَ مُخَالفَة للمصحف. وَأَقل: ذَلِكَ لَا يَطْعَنُ فِيهَا لِأَنَّهَا رِوَايَةٌ صَحِيحَةٌ وَوَافَقَتْ وَجْهًا مَقْبُولًا فِي الْعَرَبِيَّةِ.
وَنُزُولُ الْقُرْآنِ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ الْفَصِيحَةِ فِي الِاسْتِعْمَالِ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ إِعْجَازِهِ لِتَجْرِيَ تَرَاكِيبُهُ عَلَى أَفَانِينَ مُخْتَلِفَةِ الْمَعَانِي مُتَّحِدَةِ الْمَقْصُودِ. فَلَا الْتِفَاتَ إِلَى مَا رُوِيَ مِنِ ادِّعَاءِ أَنَّ كِتَابَةَ "إِنَّ هَاذَانِ" خَطَأٌ مِنْ كَاتِبِ الْمُصْحَفِ، وَرِوَايَتِهِمْ ذَلِكَ عَنْ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ. عَنْ أَبِيهِ، وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أُمِّ المُؤْمٍنٍينَ السيِّدةَ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنها وأرضاها، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ سَنَدٌ صَحِيحٌ. حَسِبُوا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَخَذُوا قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ مِنَ الْمَصَاحِفِ وَهَذَا تَغَفُّلٌ، فَإِنَّ الْمُصْحَفَ مَا كُتِبَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ قَرَأَ الْمُسْلِمُونَ الْقُرْآنَ نَيِّفًا وَعِشْرِينَ سَنَةً فِي أَقْطَارِ الْإِسْلَامِ، وَمَا كُتِبَتِ الْمَصَاحِفُ إِلَّا مِنْ حِفْظِ الْحُفَّاظِ، وَمَا أَخَذَ الْمُسْلِمُونَ الْقُرْآنَ إِلَّا مِنْ أَفْوَاهِ حُفَّاظِهِ قَبْلَ أَنْ تُكْتَبَ الْمَصَاحِفُ، وَبَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الْيَوْمِ فَلَوْ كَانَ فِي بَعْضِهَا خَطَأٌ فِي الْخَطِّ لَمَا تَبِعَهُ الْقُرَّاءُ، وَلَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا تُرِكَ مِنَ الْأَلِفَاتِ فِي كَلِمَاتٍ كَثِيرَةٍ وَبِمَنْزِلَةِ كِتَابَةِ أَلِفِ الصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالْحَيَاةِ، وَالرِّبَا ، بِالْوَاوِ، فِي مَوْضِعِ الْألف وَمَا قرأوها إِلَّا بِأَلِفَاتِهَا.