قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى
(50)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ} قَالَ مُجاهِدٌ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (لَمْ يَجْعَلْ خَلْقَ الإِنْسانِ كَخَلْقِ البَهائِمِ، وَلَا خَلْقَ البَهَائِمِ كَخَلْقِ الإِنْسانِ، وَلَكِنْ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْديرًا) "جَامِعُ البَيَانِ" للطَبري: (16/172)، وَ "الكَشْفُ وَالبَيَانُ عَنْ تفسيرِ القُرْآنِ" للثَّعْلَبيِّ: (3/18 ب)، و "مَعَالِمُ التَنْزِيلِ" للبَغَوِيِّ: (5/276)، و "زَادُ المَسيرِ" لابْنِ الجَوْزِيِّ: (5/291)، و "الجامعُ لأحكامِ القرآنِ" للقُرْطُبِيِّ: (11/204)، و "الدُّرُ المَنْثُورُ" للإمامِ السُّيوطيِّ: (4/538). وهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، وَبِهِ قَالَ الضَّحَّاكُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَهُوَ مَا عَلَيْهِ أَكْثَرُ المُفَسِّرينَ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم أَجْمَعِينَ.
وقالَ عَطِيَّةُ بْنُ الحارِثِ، أَبو رَوْقٍ الهَمَدانِيُّ، الكُوفِيُّ، ومُقَاتِلُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: في تَفْسيرَيْهِما: "أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ" يَعْنِي صُورَتَهُ. "الكَشْفُ والبَيَانُ" للثعلبي: (3/18 ب)، و "زَادُ المَسيرِ" لابْنِ الجَوزيِّ: (5/291)، و "الجامِعُ لِأَحْكامِ القُرْآنِ" للقرطبيّ: (11/205)، و "البَحْرُ المُحِيطُ" لأبي حيَّان الأندلُسيّ: (6/247). وهُو كَقَوْلِ مُجَاهِدٍ المُتَقَدِّمِ؛ لَأَنَّ المَعْنَى خَلَقَ كُلَّ جِنْسٍ مِنَ الحَيَوانِ عَلَى صُورَةٍ مُخالفةٍ لغيرِهِ مِنَ الأَجْنَاسِ الأُخْرَى.
وَقَالَ الحَسَنُ البَصْريُّ، وَقَتَادَةُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ صَلاحَهُ وَمَا يُصْلِحُهُ. "تَفْسِيرُ القَرْآنِ" للصَّنْعَانِيِّ: (1/16)، و "جَامِعُ البَيَانِ" للطبريِّ: (16/172)، و "بَحْرُ العُلومِ" لأَبي حيَّان الأندلُسيّ: (2/345)، و "النُّكَتُ والعُيُونُ" للماورديِّ: (3/406). وَالمَعْنَى: مَا يُصْلِحُهُ مِنْ الخَلْقِ والصُّورَةِ، فَكُلُّ شَيْءٍ أُعْطِيَ مِنَ الصُّورَةِ مَا يَصْلُحُ لِمَا خُلِقَ لَهُ، وَيُطابِقُ المَنْفَعَةَ المَنُوطَةَ بِهِ، كَمَا أَعْطَى العَيْنَ الهَيْئَةَ الَّتي تُطَابِقُ الإِبْصارَ، وَالأُذُنَ الشَّكْلَ الذي يُوافِقُ الاسْتِمَاعَ، وكَذَلِكَ باقي أَعضاءِ الجِسْمِ كَاليَدِ والرِّجْلِ وَاللِّسَانِ وغيرِها. كَمَا أَعْطى كُلَّ حَيَوَانٍ زوجَهُ نَظِيرًا لهُ فِي الخَلْقِ والصُّورَةِ، حَيْثُ جَعَلَ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ زوجَيْنِ، والحِصَانَ وَالفَرَسَ زَوْجَيْنِ، والبَعِيرَ والناقَةَ زَوْجَيْنِ، وهكَذا باقي المَخْلُوقاتِ، وَلَمْ يُزَاوِجْ شَيْئًا مِنْهَا غَيْرَ ما هوَ مِنْ جِنْسِهِ وَنَظيرًا لَهُ، وَموافقًا لَهُ في الخَلْقِ، وقدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيَضًا ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما، وَبِهِ قَالَ السُّدِّيُّ، فَيْكُونُ المَعْنَى: أَعْطَى كُلَّ حَيَوَانٍ مَا يُماثِلُهُ، ويُشَاكِلُهُ، ويُناسِبُهُ، وَيُوَافقُهُ.
وقريبٌ مِنْ هذا مَا قِيلَ مِنْ أَنْ المعنى: أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ مِمَّا خَلَق خِلْقَتَهُ وَصُورتَهُ عَلَى مَا يُنَاسِبُهُ مِنَ الإِتْقانِ. وَلَمْ يَجْعَلْ خَلْقَ الإِنسانِ في خَلْقِ البَهَائِمِ، وَلَا بِالعَكْسِ، بَلْ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْديرًا ـ تَبَارَكَتْ أَسْماؤهُ، وجلَّتْ صِفاتُ فقدْ أَحسنَ كلَّ شيْءٍ خَلَقَهُ، كما قالَ ـ جَلَّ وَعَلَا مِنْ سورةِ الَّجْدَةِ: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ} الآيتانِ: (6 و 7). وَرَوَى عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عنهُما، أَنَّهُ قالَ: يُريدُ أَتْقَنَ كُلَّ مَا خَلَقَ. وَعَلَى هَذَا فالمَعْنَى: أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ تَمَامَ خَلْقِهِ. انْظُرْ: "جامِعُ البَيَانِ في تَأْويلِ القُرآنِ" للطَّبَرِيِّ: (16/172)، و "المُحَرَّرُ الوَجِيزِ في تَفْسيرِ الكِتابِ العَزيزِ" لابْنِ عَطِيَّةَ: (10/36)، و "تَفْسيرُ القُرْآنِ العَظِيمِ" لابْنِ كثيرٍ: (3/172).
وَقِيلَ: المَعْنَى: أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ مَخْلوقٍ خَلْقَهُ، أَيْ: هُوَ الذي ابْتَدَعَهُ، والنَّصُّ مُحْتَمِلٌ لكُلِّ هَذَا، وَكلُّ هَذِهِ التَفْسيراتِ والتَأْويلاتِ صحيحةٌ وَتَتَنَاوَلُ جانبًا مِنَ المَعْنَى، فَقَدْ "أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ" لِيَعْلَمَ الخَلْقُ أَنَّ الدَّلِيلَ عَلَى إِثْبَاتِ وُجودِهِ ـ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، في مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ أَفْعَالُهُ، والحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.
قولُهُ: {ثُمَّ هَدَى} أَيْ: هَدَاهُ لِمَا يُصْلِحُ شَأْنَهُ في مَعِيشَتِهِ مِنْ مَطْعَمٍ، وَمَشْرَبٍ، وَمَنْكَحٍ، ومَسْكَنٍ، وغَيْرِ ذَلِكَ. رَوَاهُ ابْنُ أَبي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، وَهُوَ ما اخْتَارَهُ أَبو إِسْحَاقٍ الزَّجَّاجُ، وَبَيَّنَهُ فَقَالَ: مَعْنَاهُ: خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ عَلَى الهَيْئَةِ الَّتِي بِهَا يَنْتَفِعُ، وَالَّتِي هِيَ أَصْلَحُ الخَلْقِ لَهُ، ثُمَّ هَدَاهُ لِمَعِيشَتِهِ. "مَعَاني القُرْآنِ وإعرابُهُ" لَهُ: (3/358). ورَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما: أَنَّ المَعْنَى: هَدَى الذَّكَرَ كَيْفَ يَأْتِي الأُنْثَى. وِبِهِ قَالَ سَعيدُ ابْنُ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. ورُويَ عنْ مجاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قالَ: هَدَى كُلَّ شَيْءٍ إِلَى مَعِيشَتِهِ. واللهُ أَعْلَمُ.
قوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ} فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على الفتْحِ، وفاعلُهُ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هوَ) يَعُودُ عَلى سيِّدِنا مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ. والجُمْلةُ مُسْتأْنَفةٌ لا محلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {رَبُّنَا الَّذِي} رَبُّنَا: مرفوعٌ بالابتِداءِ، وهوَ مُضافٌ، و "نَا" ضميرُ جماعةِ المُتكلِّمينَ متَّصِلٌ بِه، مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الجرِّ بالإِضافةِ إِليْهِ. و "الذي" اسْمٌ مَوصولٌ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرفعِ خبرُ المُبتَدَأِ، وهذِهِ الجُملةُ الاسْميَّةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ بـ (قالَ).
قولُهُ: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ} أَعْطَى: فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلى الفَتْحِ المقدَّرِ على آخِرِهِ لتَعذُّر ظهورِهِ على الأَلِفِ، فاعِلُهُ ضميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هُوَ) يعودُ على "رَبُّنا". و "كلَّ" مفعولُهُ الأوَّلُ مَنْصُوبٌ بِهِ، وهوَ مُضافٌ. و "شَيْءٍ" مَجْرُورٌ بالإِضافَةِ إِلَيْهِ. و "خَلْقَهُ" مفعولُهُ الثاني منصوبٌ بِهِ، وهوَ مُضافٌ، والهاءُ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافَةِ إلَيْهِ، والجملةُ الفعلِيَّةُ هَذِهِ صِلَةُ الاسْمِ المَوْصولِ "الذي" فَلَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ.
قوْلُهُ: {ثُمَّ هَدَى} ثمَّ: حَرْفُ عَطْفٍ للترتيبِ، و "هَدَى" فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ المُقدَّرِ عَلى آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظهورِهِ عَلى الأَلِفِ، وفاعِلُهُ، مُسْتترٌ فيهِ جَوازًا تقديرُهُ (هوَ) يَعُودُ عَلى "الذي"، وقدْ حُذِفَ مَفْعُولُهُ اخْتِصارًا، والتقديرُ: ثمَّ هدَاهُ، فيَعودُ هذا الضميرُ عَلَى "كُلَّ"، وَقِيلَ: "خَلْقَهُ" هوَ المفعولُ الأَوّلُ وَ "كُلَّ" هوَ الثاني وَقُدِّمِ للاهْتِمَامِ بِهِ؛ أَيْ: أَعْطَى خَلْقَهُ كُلَّ شَيْءٍ يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، وَالجُمْلةُ الفعليَّةُ هَذِهِ معطوفةٌ على جُمْلَةِ "أَعطى" عَلَى كَوْنِها صِلَةَ المَوْصُولِ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
قَرَأَ العامَّةُ: {خَلْقَهُ}، بسُكونِ اللامِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ أَوَّلُ لِـ "أَعْطَى" منصوبٌ بِهِ كما تَقَدَّمَ في مَبْحَثِ الإِعْرابِ.
وَقَرَأَ أميرُ المُؤْمنينَ عُمَرُ بْنُ الخطابِ، وَعَبْدُ اللهِ ابْنُ مَسْعودٍ، وعبدُ اللهِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالحَسَنُ البَصْرِيُّ، وَالأَعْمَشُ، وابْنُ السُّمَيْفَعِ، وَأَبُو نُهَيْكٍ، وَابْنُ أَبِي إِسْحاقَ، وَنَصِيرٌ عَنِ الكِسَائِيِّ وناسٌ مِنْ أَصْحَابِ سيِّدِنا رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آلِهِ وصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: "خَلَقَهُ" بِفَتْحِ اللَّامِ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ، فالهاءُ بحسَبِ هَذِهِ القراءةِ: مَفْعُولُهُ الأَوَّلُ، وَالثَّاني مَحْذُوفٌ للعِلْمِ بِهِ.
وبِحَسَبِ هَذِهِ القِرَاءَةِ يُحْتَمَلُ أَنْ تكونَ هَذِهِ الجُمْلَةُ مَنْصُوبَةَ المَحَلِّ على أَنَّها صِفَةٌ لِـ "كُلَّ" أَوْ فِي مَحَلِّ الجَرِّ صِفَةً لِـ "شيء"، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ، قالَ في كَشَّافِهِ: (صِفَةٌ للمُضَافِ ـ يَعْنِي "كُلَّ"، أَوْ للمُضَافِ إِلَيْهِ ـ يَعْنِي "شَيْءٍ". وَعَلى هَذِهِ القِرَاءَةِ فالمَفْعُولُ الثاني محذوفٌ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكونَ حَذْفُهُ حَذْفَ اخْتِصَارٍ لِلدَّلالَةِ عَلَيْهِ، أَيْ: "أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ" كَمَالَهُ، أَوْ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ ويُصْلِحُهُ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكونَ هَذا مِنْ حَذْفِ الاقْتِصَارٍ، وَالمَعْنَى: أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ اللهُ لَمْ يُخْلِهِ مِنْ إعْطائِهِ وَالإِنْعامِ عَلَيْهِ.