لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى} تَعْلِيلٌ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ في الآيَةِ الَّتي قَبْلَها {تَخْرُجْ بَيْضاءَ}، فَاللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِـ {تَخْرُجْ} لِأَنَّ {تَخْرُجْ بَيْضاءَ} فِي مَعْنَى (نَجْعَلُهَا بَيْضَاءَ فَتَخْرُجُ بَيْضَاءَ)، أَوْ (نُخْرِجُهَا لَكَ بَيْضَاءَ). وَيَرْجِعُ هَذَا التَّعْلِيلُ إِلَى تَكْرِيرِ الْآيَةِ، والمعنى: كَرَّرْنَا لَكَ الْآيَاتِ لِنُرِيَكَ بَعْضَ آيَاتِنَا فَتَعْلَمَ قُدْرَتَنَا عَلَى الإِتْيَانِ بِغَيْرِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ اللَّامُ في "لِنُرِيَكَ" بِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {أَلْقِها} وَمَا تَفَرَّعَ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ} الآيَةَ: 22، السابقةَ وَمَا بَعْدَهُ، وَالتَقْدِيرُ: فَعَلْنَا ذَلِكَ لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا.
و "الْكُبْرَى" تَأْنِيثُ "الأَكْبَر"، وَهِيَ نَعْتُ الآياتِ، وَلَمْ يَقُلِ "مِنْ آياتِنا الْأَكْبَر" مُراعاةً لِخَوَاتِمِ الآياتِ. وَلَوْ قِيلَ "الكُبُر" لَجَازَ وَحَسُنَ، ولِكِنْ لِوِفاقِ رُؤُوسِ الآيِ جَاءَ قولُهُ "الكبرى". وَيَجُوزُ أَنْ تَكونَ "الْكُبْرَى" نَعْتًا لِمَنْعُوتٍ مَحْذوفِ، والتَقْديرُ: لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الآيَةَ الكُبْرَى.
وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ أَبي عُبَيْدَةَ الَّذي نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ: (مَجازُ القُرْآنِ): (2/18). وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ المُفَسِّرينَ كالطَّبَرِيِّ في تفسيرِهِ: "جَامِعُ البَيَانِ": (16/158)، والبَغَوِيُّ فِي تَفْسيرِهِ: "مَعَالِمُ التَنْزيلِ: (5/270)، وابْنُ عطيَّةَ في تفسيرِهِ "المُحَرَّرُ الوَجِيزُ": (10/22). والزمخشريُّ في تَفْسيرِهِ "الكَشَّافُ": (2/534)، والفخرُ الرازيُّ في "التَّفْسيرِ الكَبيرِ": (22/30).
ومعجزةُ اليَدِ هي الأَكْبَرُ عِنْدَ ترجُمانِ القُرآنِ وَحَبْرِ الأُمَّةِ عَبْدِ اللهِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: (كَانَتْ يَدُ مُوسَى أَكْبَرَ آياتِهِ). ذكَرَهُ الثَّعُلَبِيُّ في تَفْسِيرِهِ (الكَشْفُ وَالبَيَانُ في تفسيرِ القُرآنِ): (3/17 أ)، والبغويُّ في تفسيرِهِ (مَعالِمُ التَنْزيلِ): (5/270)، و القُرْطُبيُّ في تَفْسيرِهِ (الجامِعُ لِأَحْكَامِ القُرْآنِ): (11/191). وكذلكَ هيَ عِنْدَ الكَلَبِيِّ، قَالَ: (يَدُهُ أَعْظَمُ مَا رَأَى مِنَ الآياتِ). انْظُرْ: "الكَشْفُ والبَيَانُ" لأبي عُبَيْدَةَ: (3/17 أ)، و (الجَامِعُ لِأَحْكامِ القُرآنِ) للقُرطُبيِّ: (11/191)، و "التَّفْسيرُ الكَبِيرَ" للإمامِ: الفَخْرُ الرازيُّ: (22/30). وَهو ما قَالَهُ الإمامُ الثَّوْرِيُّ أَيْضًا، قالَ: (يَدُهُ هِيَ الآيَةُ الكُبْرَى). وانْظُرْ: "الكَشْفُ والبَيَانُ" لِأَبي عُبَيْدَةَ: (3/17/ب)، و (مَعَالِمُ التَنْزِيلِ) للبَغَوِيِّ: (5/270)، و (الجامِعُ لِأَحْكامِ القُرْآنِ) للقُرْطُبيِّ: (11/191)، و (التَّفْسيرُ الكَبِيرُ) للرازيِّ: (22/30)، و (الفُتُوحاتُ الإِلَهِيَّةُ) للإمامِ سُلَيْمَانَ بِنِ عُمَرَ العَجِيلي الشَّهِيرِ بِـ "الجَمَل": (3/88). وقدْ تَقَدَّمَ في تفسيرِ الآيةِ السابقةِ أَنَّهُ رأْيُ الحَسَنِ البصْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ. وَقالَ الوَرْتَجِي: أَرَى اللهُ مُوسَى مِنْ يَدِهِ أَكْبَرَ آيَةٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَلْبَسَ أَنْوَارَ يَدِ قُدْرَتِهِ يَدَ مُوسَى، فَكانَ يَدُ مُوسَى يَدَ قَدْرَةِ اللهِ، مِنْ حَيْثُ التَّخَلُّقُ والاتِّصافُ، كَمَا فِي حَديثِ: (كُنْتُ لَهُ سَمْعًا وَبَصَرًا وَلِسَانًا وَيَدًا).
أَمَّا الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ الأَنْدَلُسِيُّ فقدِ اسْتَبْعَدَ أَنْ تَكونَ مُعْجِزَةُ اليَدِ أَعْظَمَ مِنْ مُعْجِزَةِ العَصَا، قَالَ: (وَيَبْعُدُ مَا قَالَ الْحَسَنُ مِنْ أَنَّ الْيَدَ أَعْظَمُ فِي الْإِعْجَازِ مِنَ الْعَصَا لِأَنَّهُ ذَكَرَ عَقِيبَ الْيَدِ "لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى" لِأَنَّهُ جَعَلَ الْكُبْرى مَفْعُولًا ثَانِيًا لِـ "نُرِيَكَ" وَجَعَلَ ذَلِكَ رَاجِعًا إِلَى الْآيَةِ الْقَرِيبَةِ، وَهِيَ إِخْرَاجُ الْيَدِ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ، وَقَدْ ضَعُفَ قَوْلُهُ هَذَا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْيَدِ إِلَّا تَغْيِيرُ اللَّوْنِ، وَأَمَّا الْعَصَا فَفِيهَا تَغْيِيرُ اللَّوْنِ وَخَلْقُ الزِّيَادَةِ فِي الْجِسْمِ وَخَلْقُ الْحَيَاةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْأَعْضَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ وَابْتِلَاعِ الشَّجَرِ وَالْحَجَرِ، ثُمَّ عَادَتْ عَصًا بَعْدَ ذَلِكَ فَقَدْ وَقَعَ التَّغْيِيرُ مِرَارًا فَكَانَتْ أَعْظَمَ مِنَ الْيَدِ). تَفْسيرُ (البَحْرُ المُحِيطُ) لَهَ: (7/326). وهوَ رأيُّ الإمامِ الرازيِّ أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ في تفسيرِ الآيةِ: 22، السابقةِ.
قوْلُهُ تَعَالى: {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى} اللامُ: هي لامُ "كي" حَرْفُ جَرٍّ وَتَعْلِيلٍ. وَ "نُرِيَكَ" فِعْلٌ مُضارعٌ منصوبٌ بِـ "أَنْ" مُضْمَرَةٍ بَعْدَ لَامِ "كي"، وفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فِيهِ وُجوبًا تَقْديرُهُ (أنتَ) يَعُودُ عَلَى اللهِ تعالى. وكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ مَفْعُولٍ أَوَّلَ مَنْصُوبٍ بِهِ. وَ "مِنْ" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِحالٍ مِنَ "الْكُبْرَى"، و "آيَاتِنَا" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ، مُضافٌ، وضميرُ التعظيمِ "نَا" متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "الْكُبْرَى" صِفَةٌ للمَفْعُولِ الثاني المَحْذوفِ، والتقديرُ: لِنُرِيَكَ الآيَةَ الكُبْرَى حَالَةَ كَوْنِهَا مِنْ آياتِنا، وَالْكِبَرُ: مُسْتَعَارٌ لِقُوَّةِ الْمَاهِيَّةِ. أَيْ آيَاتِنَا الْقَوِيَّةِ الدَّلَالَةِ عَلَى قُدْرَتِنَا العَظيمةِ. وَجُمْلَةُ "نُرِيَكَ" مَعَ "أَنْ" المُضْمَرَةِ: فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرُورٍ باللَّامِ، والتَقْديرُ: لِإِراءَتِنَا إِيَّاكَ الآيَةَ الكُبْرَى مِنْ آياتِنَا، وَالجَارُّ وَالمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذوفٍ، والتقديرُ: أَمَرْنَاكَ بِمَا ذَكَرْنَا لإِرائَتِنَا إِيَّاكَ، وَالجُمْلَةُ المَحْذوفَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ.