أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ} أَنْ: هُنَا تفسيريَّةٌ جِيءَ بِها لِتَفْسِيرِ فِعْلِ {أَوْحَيْنا} لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ، أَوْ لِتَفْسِيرِ قولِهِ {يُوحَى}. وَ "اقْذِفِيِهِ" ضَعِيهِ في التَّابُوتِ وَاجْعَلِيهِ فيهِ، واسْتُعْمِلَ لَفْظُ القَذْفِ هَهُنا للعَجَلَةِ، كي تُسْرعَ قَبْلَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهَا رَجَالُ فرعونَ فيذبحونَهُ، وَأَصْلُ الْقَذْفُ: الرَّمْيُ بالسَّهْمِ، أوِ الحجرِ أَوْ الحَصَى، أَوْ غَيْرِهِ، ويُقَالُ للشَّتمِ والسَّبِّ قَذْفٌ؛ لِأَنَّهُ رَمْيٌ بالكلامِ القَبيحِ، لَكِنَّهُ أُطْلِقَ هُنَا عَلَى الْوَضْعِ فِي التَّابُوتِ، تَمْثِيلًا لِهَيْئَةِ الْذي يُريدُ إِخْفاءَ شَيْءٍ عَمِلَهُ، فَتَرَاهُ يُسْرِعُ في وَضْعَهُ مِنْ يَدِهِ، كَمَنْ يَقْذِفُ حَجَرًا وَنَحْوَهُ. وَ "التَّابُوتُ" صُّنْدُوقٌ خَشَبِيٌّ طَويلٌ.
قولُهُ: {فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ} اليَمُّ مِنْ أَسماءِ البَحْرِ، لكنَّ المُرادَ بهِ هُنَا نَهْرُ النِّيلِ، كذا يُسَمِّيهِ المَصْرِيُّونَ فيقولونَ: بحرُ النِّيلِ، لِعِظَمِهِ وسَعَتِهِ وغَزَارَةِ مِياهِهِ. فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "فَاقْذِفِيهِ فِي اليَمِّ" قَالَ هُوَ النِّيلُ. وَقالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُريدُ النِّيلَ. قَالَ الأَزْهَرِيُّ: الْيَمِّ: البَحْرُ، وَيَقَعُ عَلى مَا كانَ مَاؤُهُ مِلْحًا زُعَاقًا، وَعَلَى النَّهْرِ الكَبيرِ العَذْبِ المَاءِ كَالَّذي فِي هَذِهِ الآيَةِ، وَهُوَ نَهْرُ النِّيلِ بِمِصْرَ، وَمَاؤُهُ عَذْبُ. "تَهْذيبُ اللُّغَةِ" لَهُ: (4/3984). وَقالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: الْيَمُّ: البَحْرُ الذي لَا يُدْرَكَ قَعْرُهُ وَلَا شَطَّاهُ. ويَنْفِيهِ قوْلُهُ تَعَالى: {فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ"، فقدْ جَعَلَ لهُ ساحلًا.
قولُهُ: {فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ} السَّاحِلُ: شاطئُ البحرِ، أَمَّا جانبُ النَّهرِ فيُسَمَّى ضِفَّةً، لَكِنْ بما أَنَّ أُطْلِقَ عَلى النِّيلِ اسْمُ اليَمِّ، وَهُوَ البحرُ، جازَ أَنْ يُقَالَ لِضِفَّتِهِ "السَّاحِل"، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ المَاءَ يَسْحَلُهُ، أَيْ: يَقْشُرُهُ إِذَا عَلَاهُ، وَهُوَ فَاعِلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ. قالَ الإمامُ الوَاحِدِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ (البَسِيطُ): (14/394): اشْتَرَكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ" الأَمْرُ وَالجَزَاءُ؛ لِأَنَّهُ جَوَابٌ لِقَوْلِهِ: "فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ" وَهُوَ أَمْرٌ بِالإِلْقاءِ، فَصَارَ كَقَوْلِهِ منْ سورةِ العَنْكَبُوتِ: {اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} الآيةَ: 12، فَقَوْلُهُ: {اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا} أَمْرٌ وَلَهُ جَوَابٌ، وَجَوَابُهُ فِي قَوْلِهِ: {نَحْمِلْ}، وَدُخُولُ الوَاوِ وَالْلَّامِ دَلَالَةٌ عَلى اسْتِئْنَافِ أَمْرٍ لِنَفْسِهِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ الأَعْشَى:
فَقُلْتُ ادْعِي وأَدْعُ فَإنَّ أَنْدَى ................ لِصَوْتِ أَنْ يُنَادِيَ دَاعِيَانِ
بِمَعْنَى: وَلْأَدْعُ أَنْا، فَهُوَ جَوَابٌ وَأَمْرٌ لِنَفْسِهِ بِهِ، وهو كَقَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ مريمَ: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} الآيةِ: 75.
قولُهُ: {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ} هوَ فرعونُ، فقد ذَكَرَ المُفَسِّرونَ: أَنَّ النِّيلَ أَلْقَى التابوت الذي فيهِ الطفلُ مُوسَى إِلَى مَشْرَعَةِ آلِ فِرْعَوْنَ الَّتِي يَسْتَقُونَ مِنْهَا المَاءَ. وقال الزمخشري: «لَمَّا كانَتْ مشيئةُ اللهِ وإرادتُه أَنْ لا تُخْطِىءَ جَرْيَةُ ماءِ اليَمِّ الوصولَ به إلى الساحل، وألقاه إليه، سلك في ذلك سبيلَ المجاز، وجعل اليَمَّ كأنه ذو تمييزٍ، أمر بذلك ليطيع الأمرَ ويَمْتَثِلَ رسمَه».
قولُهُ: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي" قَالَ: كَانَ كُلُّ مَنْ رَآهُ أُلْقِيَتْ عَلَيْهِ مِنْهُ مَحَبَّةٌ. وَقَالَ أَيْضًا ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، في رِوايَةِ عَطاءٍ عَنْهُ: المَعْنَى: لَا يَرَاكَ أَحَدٌ إِلَّا أَحَبَكَ، لَا مُؤْمِنٌ وَلَا كَافِرٌ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ ـ عَزَّ مِنْ قائلٍ: "وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي" قَالَ: حَيْثُ نَظَرَتْ آسِيَةُ وَجْهَ مُوسَى فَرَأَتْ حُسْنًا ومَلَاحَةً، فَعِنْدَهَا قَالَتْ لِفِرْعَوْنَ: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ، لَا تَقْتُلُوهُ} الآيةَ: 9، مِنْ سورةِ القَصَص.
وأَخرجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلِ بنِ حُصَيْنٍ الحَضْرَمِيُّ التِّنْعِيِّ الكوفيِّ ـ رَضِي الله عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي"، قَالَ: حَبَّبْتُكَ إِلَى عِبَادِي.
وَأخرج الْحَكِيم التِّرْمِذِيّ عَن أبي رَجَاء ـ رَضِي الله عَنْهُ، فِي قَوْله: "وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي". قَالَ: الملاحة والحلاوة.
وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِي الله عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي" قَالَ: حَلَاوَةً فِي عَيْنَيْ مُوسَى ـ عليهِ سلامُ اللهِ، لَمْ يَنْظُرْ إِلَيْهِ خَلْقٌ إِلَّا أحَبَّهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ عَبٍدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، فَتَلَقَّاهُ النَّاسُ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ، وَيُحَيُّونَهُ، وَيُثْنُونَ عَلَيْهِ، وَيَدْعونَ لَهُ ـ فَيَضْحَكُ ابْنُ عُمَرَ، فَإِذا انْصَرَفوا عَنْهُ أَقْبَلَ عَليَّ فَقَالَ: إِنَّ النَّاسَ لَيَجِيئُونَ حَتَّى لَوْ كُنْتُ أُعْطيهِمُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، مَا زَادُوا عَلَيْهِ، ثُمَّ تَلا هَذِه الْآيَةِ: "وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي".
قولُهُ: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} أَيْ: وَلِتُرَبَّى بإِشْرَافي، وَيُحْسَنَ إِلَيْكَ وَأَنَتَ فِي عِنَايَتِي، وَرِعَايْتي، وَمُرَاقُبَتِي، وَحِفْظِي، وَحِمَايَتي، كَمَا يُراعِي الإِنْسانُ شَيْئًا بِعَيْنِهِ، إِذَا كَانَ أَمْرُهُ يُهِمُّهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي نُهَيٍكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْني" قَالَ: وَلِتُعْمَلَ عَلَى عَيْني.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ أَبي عِمْرَانٍ الْجُونِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْني" قَالَ: تَرَبَّى بِعَيْنِ اللهِ.
وَأَخْرَجَ عبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْن أبي حَاتِم، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْني" قَالَ: وَلِتُغَذَّى عَلَى عَيْنِي.
قولُهُ تَعَالَى: {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ} أَنِ: تَفْسِيريَّةٌ بِمَعْنَى "أَيْ". ويَجوزُ أَنْ تُعرَبَ مَصْدَرِيَّةً. والمَصْدَرُ المُؤَوَّلُ فِي مَحَلِّ نَصْب بَدَلًا مِنِ "ما" المَوْصُولِةِ. وَ "اقْذِفِيهِ" فِعْلُ أَمْرٍ مَعْنَاهُ الخَبَرُ، وَإِنَّمَا صِيغَ بِصِيغَةِ الأَمْرِ مُبَالَغَةً؛ إِذِ الأَمْرُ أَقْطَعُ الأَفْعَالِ وآكَدُها، وهوَ مَبْنِيٌّ عَلى حَذْفِ النُّونِ مِنْ آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفعالِ الخَمْسَةِ، وَفَاعِلُهُ ضميرٌ مُسْتترٌ فيِهِ وُجوبًا تَقْديرُهُ (أَنْتِ) يَعُودُ إلى أُمِّ مُوسَى، والهاءُ: ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ يَعُودُ إِلَى مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَجَوَّزَ بعضُهُمْ أَنْ يَعودَ إِلى التَّابوتِ. وَ "فِي" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "اقْذِفِيهِ" وَ "التَّابُوتِ" مجرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ، والجُمْلَةُ: فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بـ "قَالَ".
قولُهُ: {فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ} الفاءُ: للعَطْفِ، و "اقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ" مثلُ "اقْذِفيهِ فِي التَّابوتِ" مَعْطوفَةٌ عَلَيْها، ولَها مِثْلُ إِعْرَابِها.
قولُهُ: {فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ} الفاءُ: عَاطِفَةٌ، وَاللَّامُ: لامُ الأَمْرِ، و "يُلْقِ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَجْزُومٌ بِلَامِ الأَمْرِ، وَعَلامَةُ جَزْمِهِ حَذْفُ حَرْفِ العِلَّةِ مِنْ آخِرِهِ، وَهَذَا أَمْرٌ مَعْنَاهُ الخَبَرُ، وَلِكَوْنِهِ أَمْرًا لَفْظًا جُزِمَ جَوَابُهُ في قَوْلِهِ: "يَأْخُذْهُ"، وَالهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ عَلَى المفعوليَّةِ. وَ "الْيَمُّ" فاعِلُهُ مرفوعٌ بِهِ، و "بِالسَّاحِلِ" الباءُ حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يُلْقِهِ" عَلَى أَنَّ الباءَ ظَرْفِيَّةٌ بِمَعْنَى "فِي"، ويَجُوزُ أَنْ تكونَ هَذِهِ الباءُ حاليَّةً، أَيْ: مُلْتَبِسًا بِالسَّاحِلِ، وَ "السَّاحِلِ" مَجْرورٌ بحرفِ الجَرِّ. والجُملةُ مَعْطوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ قولِهِ "فَاقْذِفِيهِ" عَلى كونِها في مَحَلِّ النَّصْبِ بِـ "قالَ".
قولُهُ: {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ} فِعْلٌ مُضارعٌ مَجْزُومٌ بِالطَّلَبِ السَّابِقِ على أنَّهُ جوابٌ لَهُ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ بالمَفعوليَّةِ. و "عَدُوّ" فَاعِلُهُ مَرْفوعٌ بِهِ. و "لِي" اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِصِفَةٍ لِـ "عَدُوّ". و "وَعَدُوٌّ" الواوُ حَرْفُ عَطْفٍ، و "عَدُوّ" مَعْطُوفٌ عَلَى "عَدُوٌّ" الأُولى، و "لَهُ" اللامُ حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بما تَعَلَّقَ بِهِ الجارُّ قَبْلَهَ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرٍّ. والجملةُ جوابُ الطَلَبِ في محلِّ الجزمِ.
قولُهُ: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} الوَاوُ: حرفُ عَطْفٍ، و "أَلْقَيْتُ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ عنِ السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ مُتحَرِّكٍ هو تاءُ الفاعِلِ، وهي ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ. و "عَلَيْكَ" عَلى: حَرْفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَلْقَيْتُ"، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "مَحَبَّةً" مَنْصوبٌ بـ "أَلْقَيْتُ" على أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ. و "مِنِّي" مِنْ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِصِفَةٍ لِـ "مَحَبَّةً" والتقديرُ: مَحَبَّةً عَظِيمَةً كَائِنَةً مِنِّي قَدْ زَرَعْتُها لكَ في القُلوبِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بـ "أَلْقَيْتُ" فَيَكون المَعْنَى: عَلى أَنِّي أَحْبَبْتُك، وَمَنْ أَحْبَّهُ اللهُ أَحَبَّتْهُ القُلوبُ، والياءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجرِّ. والجملةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "مَنَنَّا" عَلَى كَوْنِهَا واقعةً جَوَابًا للقَسَمٍ مُقدَّرٍ فلَيسَ لَهَا مَحَلَّ مِنَ الإِعْرابِ.
قولُهُ: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} وَلِتُصْنَعَ: الواوُ: عاطِفَةٌ، وَاللَّامُ: حَرْفُ جَرٍّ وَتَعْليلٍ، و "تُصْنَعَ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مُغَيَّرُ الصِّيغَةِ، مَبْنِيٌّ للمَجْهولِ، مَنْصوبٌ بِـ "أَنْ" مُضْمَرَةٍ بَعْدَ لامِ التعليلِ، وَنائبُ فاعِلِهِ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنْتَ) يَعُودُ عَلَى "مُوسَى" ـ عَليْهِ السَّلامُ. و "عَلَى" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِحالٍ مِنَ الضَّمِيرِ المُسْتَتِرِ فِي "تُصْنَعَ"، و "عَيْنِي" مَجْرُورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ، مُضافٌ، وياءُ المُتكلِّمِ: ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ. وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى عِلَّةٍ مُقَدَّرَةٍ قَبْلَهَا، وَتِلْكَ العِلَّةُ المُقَدَّرَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِـ "أَلْقَيْتُ"؛ أَيْ: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي لِيُعْطَفَ عَلَيْكَ وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي.
قَرَأَ العامَّةُ: {وَلِتُصْنَعَ} بِكَسْرِ اللَّامِ، وَضَمِّ التَّاءِ، وَفَتْحِ النُّونِ، عَلَى البِنَاءِ للمَفْعُولِ، وَنَصْبِ الفِعْلِ بِإِضْمَارِ "أَنْ" بَعْدَ لَامِ "كَيْ"، ذَلِكَ لَأَنَّ هَذِهِ العِلَّةَ مُعْطُوفَةٌ عَلَى عِلَّةٍ مُقَدَّرَةٍ قَبْلَهَا. وَالتَّقْديرُ: لِيُتَلَطَّفَ بِكَ وَلِتُصْنَعَ، أَوْ لِيُعْطَفَ عَلَيْكَ وَتُرامَ، وَلِتُصْنَعَ. وَتِلْكَ العِلَّةُ المُقَدَّرَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: "وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ محبَّةً مِنِّي" أَيْ: أَلْقَيْتُ عَلَيْكُ المَحَبَّةَ منْيِّ لِيُعْطَفَ عَلَيْكَ وَلِتُصْنَعَ على عَيْنِي. فَفِي الحَقِيقَةِ هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ مِنْ إِلْقَاءِ المَحَبَّةِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ هَذِهِ اللَّامُ بِمُضْمَرٍ بَعْدَها والتَّقْديرُ: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي فَعَلْتُ ذَلِكَ.
وَقَرَأَ الحَسَنُ وأَبُو نُهَيْكٍ: "ولِتَصْنَعَ" بِفَتْحِ التَّاءِ. قَالَ ثَعْلَبٌ: مَعْنَاهُ لِتَكونَ حَرَكَتُكَ وَتَصَرُّفُك عَلَى عَيْنٍ مِنِّي. وَقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَريبًا مِنْهُ، وَقالَ العُكْبُريُ: أَيْ لِتَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِمَرٍأًى مِنِّي.
وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرَ النَّحاسُ وَشَيْبَةُ: "ولْتُصْنَعْ" بِسُكونِ اللَّامِ وَالعَيْنِ، وَضَمِّ التَّاءِ، وَهُوَ أَمْرٌ مَعْنَاهُ: لِيُرَبَّ وليُحْسَنَ إِلَيْكَ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ النَحَّاس في هَذِهِ القِرَاءَةِ كَسْرُ لامِ الأَمْرِ. وَيُحْتَمَلُ مَعَ كَسْرِ اللَّامِ أَو سُكونِها حَالَةُ تَسْكينِ العَيْنِ أَنْ تَكونَ لامَ "كَي"، وَإِنَّما سُكِّنَتْ تَشْبِيهًا لها بِـ "كَتْفٍ" و "كَبِدٍ"، وَالْفِعْلُ مَنْصُوبٌ. والتَّسْكِينُ فِي العَيْنِ لِأَجْلِ الإِدغامِ لَا يُقْرَأُ فِي الوَصْلِ إِلَّا بِالإِدْغامِ فَقَطْ.