مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)
قوْلُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ} أَيْ: خَلَقْناكُمْ مِنَ الأَرضِ الَّتِي سَبَقَ أَنْ ذَكَرَهَا ـ سُبْحانَهُ، في الآيَةِ: 53، السَّابِقَةِ، فَقَالَ: {الَّذي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا}، فَإِنَّ ذِكْرَ خَلْقِ الْأَرْضِ وَمَنَافِعِهَا يَسْتَدْعِي إِكْمَالَ ذِكْرِ الْمُهِمِّ لِلنَّاسِ مِنْ أَحْوَالِهَا، فَكَانَ خَلْقُ أَصْلِ الْإِنْسَانِ مِنَ الْأَرْضِ شَبِيهًا بِخُرُوجِ النَّبَاتِ مِنْهَا. أَمَّا خَلْقُهُ إِيَّاهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَقَدْ ذَكَرَهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ. كَقَوْلِهِ تعالى مِنْ سُورَةِ الحَجّ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} الْآيَةَ: 5، وَقَوْلُهُ مِنْ سُورَةِ الرُّومِ: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} الْآيَةَ: 20، وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ غافر: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} الآية: 67، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. ذَلِكَ لِأَنَّهُ سُبحانَهُ وَتَعَالَى خَلَقَ آدَمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، مِنْ تَرَابِ الأَرْضِ، وخلَقَ حواءَ مِنْ ضِلْعِهِ، ثَمَّ خلقَ ذُرِّيَّتَهما مِنْ نَسْلِهما، فكُلُّ ما خُلِقَ منهُما فهوَ مِمَّا خُلِقا مِنْهُ، فَمَعْنَى خَلْقِ اللهِ النَّاسَ مِنْ تُرَابٍ أَنَّهُ خَلَقَ أَبَاهُمْ آدَمَ مِنْهَا. كَمَا قَالَ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ آل عِمْرانَ: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} الْآيَةَ: 59. وأَخْرَجَ أَحْمَدُ والتِّرْمِذِيُّ والحاكمُ وصحَّحَهُ، أَنَّهُ ـ سُبْحانَهَ وَتَعَالى، قَبَضَ قَبْضَةً مِنْ جَمِيعِ الأَرْضِ سَهْلَهَا وَحَزْنَهَا، فَخَلَقَ مِنْها آدَمَ ـ عليْهِ السَّلامُ)). وَقَدْ كَشَفَتِ التَّحَالِيلُ العِلْمِيَّةُ حَديثًا أَنَّ الأَرضَ تَتَأَلَّفَ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ عُنْصُرًا ـ بِحسَبِ ما أَثبتَهُ المُحَلِّلونَ، وأَنَّ هَذِهِ العناصِرَ هيَ نَفْسُها العَنَاصِرُ الَّتي تُشَكِّلُ جِسْمَ الإِنْسَانِ، وهذِهِ العَنَاصِرُ هِيَ: الأُكْسُجِين، الهيدروجين، النِيتْروجِين، الكُلورُ، الكَرْبُونُ، الحَديدُ، السِّيلْيكونُ، المَغْنِيسيوم، الأَلْمُنْيُومُ، الكالسْيُوم. الصُّوديوم، البُوتاسْيُوم، التِيتانْيُوم، الفوسفورُ، اليُودُ، الكبْريتُ. وَلَمَّا خَلَقَ أَبَاهُمْ مِنْ تُرَابٍ وَكَانُوا تَبَعًا لَهُ فِي الْخَلْقِ صَدَقَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ خُلِقُوا مِنْ تُرَابٍ. ثُمَّ إِنَّ الخَلْقَ بَعْدَ ذِلِكَ إِنَّما يَكونُ مِنْ نُطْفةِ الرَّجَلِ وبُوَيْضَةِ الأُنْثَى، وَالنُّطْفَةُ والبُوَيْضَةُ هُمَا ممَّا يتغَذَّىَ بِهَ الذَّكَرُ والأُنْثى، وما يتغَذَّيانِ بِهِ هوَ مِنَ الأَرضِ.
وَقالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَنَّ مَعْنَى خَلْقِهِمْ مِنْ تُرَابٍ أَنَّ النُّطْفَةَ إِذَا وَقَعَتْ فِي الرَّحِمِ انْطَلَقَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِالرَّحِمِ، فَأَخَذَ مِنْ تُرَابِ الْمَكَانِ الَّذِي يُدْفَنُ فِيهِ، فَيَذْرُهُ عَلَى النُّطْفَةِ، فَيَخْلُقُ اللهُ النَّسَمَةَ مِنَ النُّطْفَةِ، وَالتُّرَابِ مَعًا.
لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، أَنَّ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا وَقَدْ ذُرَّ عَلَيْهِ مِنْ تُرَابِ حُفْرَتِهِ)). أَخْرَجَهُ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ. قالَ الإمامُ القُرطُبيُّ في تفسيرِهِ: (وَعَلَى هَذا يَكونُ كُلُّ إِنْسانٍ مَخٍلُوقًا مِنْ طِينٍ وَمَاءٍ مَهِينٍ كَمَا أَخْبَرَ ـ عَزَّ وَجَلَّ، فِي سُورَةِ "المُؤْمِنونَ" فَتَنْتَظِمُ الآياتُ وَالأَحَادِيثُ وَيَرْتَفِعُ الإِشْكالُ وَالتَّعَارُضُ واللهُ أَعْلَم. تَفْسيرُ القُرْطُبِيِّ: (6/388)، ومَا أَشَارَ إِلَيْهَا الإمامُ القُرطُبيُّ مِنْ سُورةِ "المُؤْمِنُونَ" قولُهُ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} الآيات: (12 ـ 14). وَقَدْ وَرَدَ مِثْلُ هَذَا الْمَعْنَى عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فقد جاءَ فِي "نَوَادِرِ الْأُصُولِ" للحَكيمِ أَبي عَبْدِ اللهِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ مُرَّةَ الطَّيِّبِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قالَ: (أَن الْمَلَكَ الْمُوَكَّلَ بِالرَّحِمِ يَأْخُذُ النُّطْفَةَ فَيَعْجُنُها بِالتُّرَابِ الَّذِي يُدْفَنُ فِي بُقْعَتِهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: "مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وفيهَا نُعيدُكُمْ". وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ أَبي عَبْدِ اللهِ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: (لَو حَلَفْتَ حَلَفْتَ صَادِقًا بَارًّا غَيْرَ شَاكٍّ، وَلَا مُسْتَثْنٍ أَنَّ اللهَ تَعَالَى مَا خَلَقَ نَبِيَّهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، وَلَا أَبَا بَكْرٍ، وَلَا عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، إِلَّا مِنْ طِينَةٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ رَدَّهُمْ إِلَى تِلْكَ الطِّينَةِ). عُمْدَةُ القارِي، شَرْحُ صَحيحِ البُخَارِي، للمُلّا علي القاري: (8/226). وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ ـ رَضِيَ للهُ عنْهُ، قَالَ: إِنَّ الْمَلَكَ يَنْطَلِقُ، فَيَأْخُذُ مِنْ تُرَابِ الْمَكَانِ الَّذِي يُدْفَنُ فِيهِ، فَيَذُرُّهُ عَلَى النُّطْفَةِ، فَيُخْلَقُ مِنَ التُّرَابِ، وَمِنَ النُّطْفَةِ. وَذَلِكَ قَوْلُهُ ـ تعالى: "مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ".
وَقَدْ رَدَّ كلَّ ذلكَ العَلَّامَةُ مُحَمَّدُ أَمِين الشَّنْقِيطِيُّ صاحِبُ تَفْسيرِ: (أَضْوَاءُ البَيَانِ فِي إِيضاحِ القُرْآنِ بِالقُرْآنِ) في: (4/25) مِنْ تفسيرِهِ، فقالَ: "وَمَا يَزْعَمُهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَنَّ مَعْنَى خَلْقِهِمْ مِنْ تُرَابٍ أَنَّ النُّطْفَةَ إِذَا وَقَعَتْ فِي الرَّحِمِ انْطَلَقَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِالرَّحِمِ فَأَخَذَ مِنْ تُرَابِ الْمَكَانِ الَّذِي يُدْفَنُ فِيهِ فَيَذْرُهُ عَلَى النُّطْفَةِ فَيَخْلُقُ اللهُ النَّسَمَةَ مِنَ النُّطْفَةِ، وَالتُّرَابِ مَعًا، فَهُوَ خِلَافُ التَّحْقِيقِ". لِأَنَّ الْقُرْآنَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَرْحَلَةَ النُّطْفَةِ بَعْدَ مَرْحَلَةِ التُّرَابِ بِمُهْلَةٍ. فَهِيَ غَيْرُ مُقَارِنَةٌ لَهَا بِدَلِيلِ التَّرْتِيبِ بَيْنَهُمَا بِـ "ثُمَّ" فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} (22/5)، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} الْآيَةَ: 40/ 67، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} (23/12 و 13)، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} الآية: (32/6 ـ
، وَكَذَلِكَ مَا يَزْعُمُهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ أَنَّ مَعْنَى خَلْقِهِمْ مِنْ تُرَابٍ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ خُلِقُوا مِنَ الْأَغْذِيَةِ الَّتِي تَتَوَلَّدُ مِنَ الْأَرْضِ فَهُوَ ظَاهِرُ السُّقُوطِ كَمَا تَرَى. انْتَهَى. ولا نَرى في ما أَوْرَدَهُ دليلًا لِمَا ادَّعاهُ، والعلْمُ عنْدَ عَلَّامِ الغُيُوبِ ـ جَلَّ وَعَلا.
قوْلُهُ: {وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} أَيْ: عِنْدَمَا يَحِينُ أَجَلُكمْ ويَتَوَفَّاكُمُ مَلَكُ المَوْتُ، نُعيدُكُم إِلى الأَرْضِ، الَّتي مِنْهَا خلَقْناكم، أَيْ: بَعْدَ الْمَوْتِ". وَقالَ تعالى مِنْ ُسُورَةِ المُرْسَلَاتِ: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} الآيتانِ: (25 و 26)، فَـ "كِفَاتًا" أَيْ: مَوْضِعُهُمُ الَّذِي يَكْفِتُونَ فِيهِ، أَيْ: يُضَمُّونَ فِيهِ: أَحْيَاءً عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ، وَأَمْوَاتًا فِي بَاطْنِهَا.
وَأَخرجَ الإمامُ أحمدُ في مُسْنَدِهِ، مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عازبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قالَ خرجْنا مَعَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي جِنَازَةِ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ، وَلَمَّا يُلَحَّدْ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ كَأَنَّ عَلى رُؤُوسِنَا الطَّيْرَ، وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ بِهِ الْأَرْضَ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: ((اسْتَعِيذُوا بِاللهِ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ (مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا)، ثمَّ قَالَ: ((إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنَ الْآخِرَةِ، نَزَلَ إِلَيْهِ مَلَائِكَةٌ مِنَ السَّمَاءِ بِيضُ الْوُجُوهِ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الشَّمْسُ مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنَ اللهِ وَرِضْوَان. قَالَ: فَتَخْرُجُ تَسِيلُ، كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فِي السِّقَاءِ، فَيَأْخُذُهَا، فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَأْخُذُوهَا فَيَجْعَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ وَفِي ذَلِكَ الْحَنُوطِ، وَيَخْرُجَ مِنْهَا كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَيَصْعَدُونَ بِهَا فَلَا يَمُرُّونَ بِهَا ـ يَعْنِي عَلَى مَلَأٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، إِلَّا قَالُوا: مَا هَذِهِ الرُّوحُ الطَّيِّبَةُ؟ فَيَقُولونَ: فُلانُ بْنُ فُلَانٍ ـ بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانُوا يُسَمُّونَهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا، حَتَّى يَنْتَهُوا بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهُ، فَيُفْتَحُ لَهُ، فَيُشَيِّعُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيهَا، حَتَّى يَنْتَهِيَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَيَقُولُ اللهُ: اكْتُبُوا كِتَابَ عَبْدِي فِي عِلِّيِّينَ وَأَعِيدُوهُ إِلَى الْأَرْضِ، فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ، وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى.
قَالَ: فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللهُ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: دِينِي الْإِسْلَامُ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الذي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هُوَ رَسُولُ اللهِ، فَيَقُولَانِ لَهُ: وَمَا عِلْمُكَ؟ فَيَقُولُ: قَرَأْتُ كِتَابَ اللهِ فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ، فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: أَنْ صَدَقَ عَبْدِي فَأَفْرِشُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ ـ قَالَ: فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا وَطِيبِهَا، وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ، وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ، حَسَنُ الثِّيَابِ، طَيِّبُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ، هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ، فَيَقُولُ لَهُ: مَنْ أَنْتَ، فَوَجْهُكَ الوَجْهُ الذي يَأْتِي بِالْخَيْرِ؟ فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ، فَيَقُولُ: رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ، حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي وَمَالِي. قَالَ: وَإِنَّ الْعَبْدَ الْكَافِرَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا، وَإِقْبَالٍ مِنَ الْآخِرَةِ، نَزَلَ إِلَيْهِ مَلَائِكَةٌ مِنَ السَّمَاءِ سُودُ الْوُجُوهِ مَعَهُمُ الْمُسُوحُ، فَجَلَسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ فَيَجْلِسُ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ، اخْرُجِي إِلَى سَخَطٍ مِنَ اللهِ وَغَضَبٍ. قَالَ: فَتُفَرَّقُ فِي جَسَدِهِ فَيَنْتَزِعُهَا كَمَا يُنْتَزَعُ السَّفُّودُ مِنَ الصُّوفِ الْمَبْلُولِ، فَيَأْخُذُهَا، فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَجْعَلُوهَا فِي تِلْكَ المُسُوحِ، فَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَيَصْعَدُونَ بِهَا، فَلَا يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلَأٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا قَالُوا: مَا هَذِهِ الروحُ الخَبِيثَةُ؟ فيَقولونَ: فُلانُ بْنُ فُلَانٍ ـ بِأَقْبَحِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانَ يُسَمَّى بِهَا في الدُّنْيا، حتَّى يَنْتَهِى بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيُسْتَفْتَحُ لَهُ فَلَا يُفْتَحُ لَهُ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ} الآيةَ: 40، مِنْ سُورةِ الْأَعْرَافِ، فَيَقُولُ اللهُ: اكْتُبُوا كِتَابَهُ فِي سِجِّينٍ، فِي الْأَرْضِ السُّفْلَى، فَتُطْرَحَ رُوحُهُ طَرْحًا. ثُمَّ قَرَأَ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ} الآيةَ: 31، مِنْ سورةِ الحَجِّ، فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ وَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟
فَيَقُولُ: هَاهْ، هَاهْ، لَا أَدْرِي، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ، هَاهْ، لَا أَدْرِي، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ، هَاهْ، لَا أَدْرِي، فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: أَنْ كَذَبَ عَبْدِي فَأَفْرِشُوهُ مِنَ النَّارِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى النَّارِ، فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا وَسُمُومِهَا، وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلَاعُهُ، وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ، قَبِيحُ الثِّيَابِ، مُنْتِنُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُوؤُكَ، هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ، فَيَقُولُ: وَمَنْ أَنْتَ، فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالشَّرِّ؟ فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ، فَيَقُولُ: رَبِّ لَا تُقِمِ السَّاعَةَ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، والحاكمُ في مُسْتَدركِهِ وصحَّحَهُ، ووافقَهُ الإمامُ الذَّهَبيُّ.
قولُهُ: {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} أَيْ: نُخرِجُكمْ مِنَ الأَرضِ يومَ القيامةِ عِنْدَ البَعْثِ بعدَ الموتِ لِلْحِسَابِ والجَزاءِ، كَمَا أَخْرَجَناكُمْ مِنَ الأَرْضِ أَوَّلَ مَرَّةٍ عِنْدَ خَلْقِ آدَمَ ـ عليْهِ السَّلامُ. وَ "تَارَةً أُخْرى" مَرَّةً ثانيةً أَمَّا الأُولى فهيَ: عِنْدَمَا خَلَقَهُم مِنْهَا في المَرَّةِ الأُولَى. فَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَن قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "تَارَة أُخْرَى" قَالَ مَرَّةً أُخْرَى. وَقالَ الزَّجَّاجُ فِي "مَعَاني القُرْآنِ وَإِعْرَابُهُ" لَهُ: (3/360): لِأَنَّ إِخْرَاجَهُمْ وَهُمْ تُرابٌ بِمَنْزِلَةِ خَلْقِ آدَمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، مِنْ تُرَابٍ، فَكَأَنَّهُ قالَ ـ واللهُ أَعْلَم: وَمِنْها نَخْلُقُكُمْ تَارَةً أُخْرَى".
وَإِخْرَاجُ النَّاسِ إِلَى الْحَشْرِ شَبِيهٌ بِإِخْرَاجِ النَّبَاتِ مِنَ الْأَرْضِ. قَالَ تَعَالَى مِنْ سُورةِ نُوحٍ: {وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتًا ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجًا} الآيَتان: (17 و 18). وأَخْرَجَ الإمامُ أَحْمد، وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبي أُمَامَةَ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا وُضِعَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْها، بِنْتُ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي الْقَبْرِ، قَالَ رَسُول اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وفيهَا نعيدكم وَمِنْهَا نخرجكم تَارَة أُخْرَى"، ((بِسْمِ اللهِ، وَفِي سَبِيلِ اللهِ، وَعَلى مِلَّةِ رَسُولِ اللهِ)).
قولُهُ تَعَالَى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ} مِنْهَا: مِنْ: حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "خَلَقْنا"، و "ها" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "خَلَقْنَاكُمْ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ مُتَحَرِّكٍ هوَ "نا" المُعَظِّمِ نَفْسَهُ، و "نا" التعظيمِ هَذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَةِ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بهِ في محلِّ النَّصْبِ على المَفْعُوليَّةِ، والميمُ علامةُ الجمعِ المُذكَّرِ، والجُمْلَةُ الفعليِّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ.
قوْلُهُ: {وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} الوَاوُ: حرفُ عَطْفٍ، و "فِيهَا" في: حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِالفعلِ بعدَهُ "نُعيدُ". و "نُعِيدُكُمْ" فِعُلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وفاعِلُهُ ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (نحنُ) المُعظِّمِ نفسَهُ ـ سُبْحانَهَ وتَعَالى، يَعُودُ عَلَى اللهِ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالى، وكافُ الخطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ على المَفْعُولِيَّةِ، والميمُ للتذْكيرِ. والجملةُ مَعْطوفَ عَلى جملةِ "خَلَقْنَاكُمْ" على كونِها جملةً مُسْتأْنَفةً لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قوْلُهُ: {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} الوَاوُ: حرفُ عَطْفِ، و "مِنْهَا" "مِنْ" حرفُ جَرٍ مُتَعَلِّق بِـ "نُخْرِجُكُمْ"، وَ "ها" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "نُخْرِجُكم" فعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجَرُّدِهِ مِنَ الناصِب، وفاعِلُهُ ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (نحنُ) المُعظِّمِ نفسَهُ ـ سُبْحانَهَ وتَعَالى، وهَذا الضميرُ يَعُودُ عَلَى اللهِ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالى، وكافُ الخطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ على المَفْعُولِيَّةِ، والميمُ للتذْكيرِ. والجُمْلَةُ مَعْطوفَ عَلى جُمْلَةِ "خَلَقْنَاكُمْ" عَلَى كَوْنِهَا جُمْلَةً مُسْتأْنَفةً لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ. وَ "تَارَةً" منصوبٌ على الظَّرْفِيَّةِ الزَّمَانِ مُتَعَلِّقٌ بِـ "نُخْرِجُكُمْ"، وَ "أُخْرَى" صِفَةٌ لِـ "تَارَةً" منصوبةٌ مثلُها، وعلامةُ نَصِبِها مقدَّرةٌ على آخرِها لتعَذُّر ظهورِها على الأَلِف، والجُمْلةُ معطوفةٌ على الجُمْلَةِ التي قبلَها عَلَى كونِها مُسْتَأْنَفَةً لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.