قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا
(125)
قَوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا} أَيْ: أَنَّ المُعرِضَ عَنِ ذِكْرِ اللهِ فِي الحَيَاةِ الدُنْيا لَمَّا حُشِرَ أَعْمى يَوْمَ القيامةِ سَأَلَ رَبَّهُ قائلًا: رَبِّ لِمَاذا حَشَرْتَني أَعْمَى، وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَبِأَيِّ ذَنْبٍ عَاقَبْتَنِي بِالْعَمَى، يَظُنُّ أَنَّهُ لَا ذَنْبَ لَهُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ ـ رَضيَ اللهُ عنهُما، المَعْنَى: لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى عَنْ حُجَّتِي وَقَدْ كُنْتُ صاحِبَ حجَّةٍ في الحياةِ الدُنيا عَالِمًا بِحُجَّتِي. وقدِ اسْتَبْعَدَ الْقُشَيْرِيُّ هَذا التأْويلَ فقالَ: هوَ بَعِيدٌ إِذْ مَا كَانَ لِلْكَافِرِ حُجَّةٌ فِي الدُّنْيَا.
و "أَعمى" مِنَ العَمَى، وهوَ ذَهَابُ البَصَرِ، مِنْ عَمِيَ فَهُوَ أَعْمَى، وَأَعْمَاهُ اللهُ. وَتَعَامَى عَنِ الحقيقةِ: إِذَا أَظْهَرَ عَدَمَ رُؤيَتِهَا. وَعَمِيَ الأمْرُ عَلَيْهِ: الْتَبَسَ، وَمِنْ ذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ هود: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} الآيَة: 28، وَقَالَ مِنْ سُورَةِ القَصَصِ: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ * فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ} الآيتانِ: (65 و 66). وَهوَ أَعْمى القَلْبِ وَعَمِيُّهُ، أَيْ: جَاهِلٌ لا يُبْصِرُ الحقائقَ، وامرَأَةٌ عَمِيَةٌ عَنِ الصَوَابِ، وَعَمِيَةُ القَلْبِ، بوزْنِ "فَعِلَةٍ"، وَقَوْمٌ عُمْيٌ، وَعَمُونَ. وعَمِيَّةُ القَوْمِ، جَهَلَتُهُمْ. والنِّسْبَةُ إِلَى أَعْمَى أَعْمْوِيٌّ، وإِلَى عَمٍ عَمَوِيٌّ. وَعَمَّى المَعْنَى تَعْمِيَةً. وَالعَمَاءُ: السَّحَابُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ} قَالَ: فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ، وفاعلُهُ ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى المُعْرِضِ عنْ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى، والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {رَبِّ} منَصْوبٌ بالنِّدَاءِ مُضَافٌ، وَعَلامَةُ نَصْبِهِ فَتْحَةٌ مُقَدَّرَةٌ عَلَى مَا قَبْلَ الياءِ المَحْذوفَةِ للتَّخْفيفِ، وَالياءُ المَحْذوفَةُ للتَّخْفيفِ هَذِهِ مُضَافٌ إِلَيْهِ، وجُمْلَةُ النِّداءِ هَذِهِ جُمْلةٌ اعتراضِيَّةٌ لا مَحَلَّ لَها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى؟} لِمَ: اللَّامُ: هي حَرْفُ جَرٍ مُتعلِّقٌ بـ "حَشَرْتَني"، وَ "مَ" اسْمُ اسْتِفْهامٍ مَبْنِيٌّ بِسُكونٍ عَلَى الأَلِفِ المَحْذُوفَةِ تَفْريقًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ "مَا" الاسْمِ المَوْصُولِ، وهي مبنِيَّةٌ على الفَتْحِ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. وَ "حَشَرْتَني" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رَفعٍ مُتَحَرِّكٍ هوَ تاءُ الفاعِلِ، وتاءُ الفاعلِ هَذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفَاعِلِيَّةِ، والنُّونُ: هي نونُ الوِقايَةِ، والياءُ: هِيَ ياءُ المُتَكَلِّمِ، وهيَ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالمَفْعُولِيَّةِ. وَ "أَعْمَى" مَنْصوبٌ عَلَى الحَالِ مِنْ ياءِ المُتَكَلِّمِ، وَعَلامَةُ نَصْبِهِ فَتْحَةٌ مُقَدَّرةٌ عَلى آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظهورِها عَلَى الأَلِفِ، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ لأنّها مَقُولُ القَولِ لِـ "قَالَ".
قولُهُ: {وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا} الوَاوُ: حالِيَّةٌ، وَ "قَدْ" حَرْفٌ للتَّحْقيقِ، وَ "كُنْتُ" فِعْلٌ ماضٍ ناقِصٌ مَبْنيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رَفعٍ مُتَحَرِّكٍ هوَ تاءُ الفاعِلِ، وتاءُ الفاعلِ هَذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الرَّفعِ اسْمُهُ. وَ "بَصِيرًا" خَبَرُهُ منصوبٌ بِهِ، وَالجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ على أَنَّها حَالٌ ثانيَةٌ مِنْ ياءِ المُتَكَلِّمِ.
قَرَأَ العامَّةُ: {حَشَرْتني أَعْمَى} بِسُكونِ الياءِ قَبْلَ الهَمْزَةِ، وَقَرَأَ نافعٌ وابْنُ كَثِيرٍ "حَشَرْتنِيَ أَعْمَى" بِفَتْحِها.