وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)
قولُهُ ـ تعالى شَأْنُهُ: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي} مقابلةٌ بَيْنَ متبعِ هُدَى اللهِ، وبينَ المعرِضِ عنهُ، فقد ذَكَرَ اللهُ ـ تَعَالى في الآيةِ السَّابقةِ أَنَّ مَنِ آمَنَ باللهِ وَاتَّبعَ هُداهُ لا يَضِلُّ في الحَياةِ الدُنْيا، وَلَا يَشَقَى في الأُخرى بالعذابِ في نارِ جَهَنَّمَ، وقابلَهُ هنا بِمَنْ كفرَ باللهِ وَأَعْرِضَ عنْ ذِكْرِهِ بالتَضْييقِ عليْهِ في معيشتِهِ في حياتِهِ الدنيا، وبالعَمَى في حياتِهِ الأُخرى.
قَوْلُهُ: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} أَيْ: لَا يَشْعُرُ بالسَّعَادَةِ في حياتِهِ الدُّنيا بَلْ بالضِّيقِ والشِّدَّةِ والتعاسَةِ وإنْ حازَ الكثيرَ مِنْ أَسْبابِ السَّعادةِ كالمالِ والبَنِينِ والنِّساءِ وغيرِ ذلكَ مِنْ متاعِ الحياةِ، بلْ إنَّها تكونُ سببَ تعاستِهِ وشقائِهِ، وَالمُتَبَادِرِ للذِّهْنِ أَنَّ تِلْكَ المَعِيشَةِ إنَّما هِيَ فِي الحياةِ الدُّنْيا، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ، وسعيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما.
وَسَبَبُ الضِّيقِ في مَعيشَةِ الكَافِرِ المُعْرِضِ عَنْ ذِكرِ ربِّهِ، في الدُّنْيا، أَنَّهُ شَديدُ الحِرْصِ عَلَى الدُّنْيَا وزينتِها، مُتَهَالِكٌ عَلى الاسْتِزادَةِ مِنْهَا، دائمُ التَّخَوُّفِ مِنْ أَنْ يَطْرَأَ النَّقْصُ عَلَى ما بَيْنَ يدَيْهِ مِنْها، غَالِبٌ عَلَى حالِهِ الشُّحُّ بِهَا، لا هَمَّ لَهُ سِواهَا، بِخِلَافِ المُؤْمِنِ فإنَّ طَلَبَهُ هوَ لِلْآخِرَةِ وما وَعَدَهُ اللهُ مِنْ نعيمٍ دائمٍ فِيها.
وَقِيلَ: الضَّنْكُ هُوَ مَجَازٌ عَنْ كُلِّ مَا لَا خَيْرَ فيهِ، وَقَدْ وُصِفَتْ مَعيشَةُ الكافِرِ فيها بِذَلِكَ لِأَنَّهَا وَبَالٌ عَلَيْهِ، وَزِيَادَةٌ فِي آلامِهِ وَعَذَابِهِ يَوْمَ القِيامَةِ، وهوَ مَا دَلَّتْ عَلَيْه الآياتُ القُرْآنِيَّةُ الشَّريفةُ، وَهَذَا المَعْنَى مَأْخُوذٌ مِمَّا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، أَنَّهُ قَالَ فِي مَعْنَى هَذِهِ الآيَةِ الكَريمةِ: يَقُولُ كُلُّ مَالٍ أَعْطَيْتُهُ عَبْدًا مِنْ عِبَادِي ـ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، لَا يَتَّقِينِي فِيهِ، فَلَا خَيْرَ لَهُ فِيهِ، وَهُوَ الضَّنْكُ فِي المَعِيشَةِ الَّتِي تتحَدَّثُ عَنْهُ هَذِهِ الآيةُ الكريمةُ.
وَ "ضَنْكًا" مَصْدَرُ ضَنُكَ ـ مِنْ بَابِ كَرُمَ، ضَنَاكَةً وَضَنْكًا، بِمَعْنَى "ضَيِّقَةً"، فَالضَّنْكُ: الضِّيقُ، يُقَالُ: مَكَانٌ ضَنْكٌ، أَيْ ضَيِّقٌ. وَقد اسْتُعْمِلَ مَجَازًا لِعُسْرِ الْأُمُورِ فِي الْحَيَاةِ، ومِنْ ذلكَ قَولُ عَنْتَرَةَ العَبْسِيِّ:
إِنْ يَلْحَقُوا أَكْرُرْ وَإِنْ يَسْتَلْحِمُوا .......... أَشْدُدْ وَإِنْ نَزَلُوا بِضَنْكٍ أَنْزِلِ
أَيْ بِمَنْزِلٍ ضَنْكٍ، أَيْ فِيهِ عُسْرٌ عَلَى نَازِلِهِ. وَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى عُسْرِ الْحَالِ مِنَ اضْطِرَابِ الْبَالِ وَتَبَلْبُلِهِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَجَامِعَ هَمِّهِ وَمَطَامِحَ نَظَرِهِ تَكُونُ إِلَى التَّحَيُّلِ فِي إِيجَادِ الْأَسْبَابِ وَالْوَسَائِلِ لِمَطَالِبِهِ، فَهُوَ مُتَهَالِكٌ عَلَى الِازْدِيَادِ خَائِفٌ عَلَى الِانْتِقَاصِ غَيْرُ مُلْتَفِتٍ إِلَى الْكِمَالَاتِ وَلَا مَأْنُوسٌ بِمَا يَسْعَى إِلَيْهِ مِنَ الْفَضَائِلِ، يَجْعَلُهُ اللهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، وَبَعْضُهُمْ يَبْدُو لِلنَّاسِ فِي حَالَةٍ حَسَنَةٍ وَرَفَاهِيَةِ عَيْشٍ وَلَكِنَّ نَفْسَهُ غَيْرُ مُطَمَئِنَّةٍ. وَلِكَوْنِهِ مَصْدَرًا لَمْ يَتَغَيَّرْ لَفْظُهُ بِاخْتِلَافِ مَوْصُوفِهِ، فَوَصَفَ بِهِ هُنَا في الآيةِ: "مَعِيشَةً" وَهِيَ مُؤَنَّثٌ. فَلِهَذَا لَمْ يُؤَنَّثْ بِأَنْ يُقَالَ: "ضَنْكَةً"، وَهَذَا مِنْ قَبيلِ القاعِدَةِ الَّتي ذَكَرَهَا ابْنُ مَالِكٍ فِي الخُلاصَةِ:
وَنَعَتُوْا بِمَصْدَرٍ كَثِيْرَا ........................ فَالْتَزَمُوْا الإِفْرَادَ وَالتَّذْكِيْرَا
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَمُسَدِّدٌ، فِي مُسْندِهِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ ووافقَهُ الذَّهَبِيُّ في التَّلْخِيص، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي كتاب "عَذَاب الْقَبْر" عَنْ أَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، مَرْفُوعًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "مَعِيشَةً ضَنْكًا"، قَالَ: عَذَابُ الْقَبْرِ. وَفِي لَفْظِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ قَالَ: يَضِيقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ أَضْلَاعُهُ. وَفِي لَفْظِ ابْنِ أَبي حَاتِمٍ عَنْ ضَمَّةِ الْقَبْرِ. وأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ في صحيحِهِ عنْ أبي هُرَيرَةَ رَضِي اللهُ عنْهُ، مَرفوعًا أَيضًا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَالْبَزَّارُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَالْحَاكِمُ ـ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عنْهُ، عَنِ النَّبِيَّ ـ عَلَيْهِ صَلَاةُ اللهِ وَسَلامُهُ، فِي قَوْلِهِ: "فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا"، قَالَ: عَذَابُ الْقَبْرِ.
وَأَخْرَجَ هَنَّادُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا" قَالَ: عَذَاب الْقَبْر.
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عنْهُ، قَالَ: إِن الْمَعيشَةَ الضَّنْكَ: أَنْ يُسَلَطَ عَلَيْهِ تِسْعَةٌ وَتسْعُونَ تِنِّينًا تَنْهَشُهُ فِي الْقَبْرِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حَمِيدٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبي صَالِحٍ، وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما، مِثْلَهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي الدُّنْيَا فِي "ذِكْرُ الْمَوْتِ"، وَالحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو يَعْلَى، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ حِبَّانٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((الْمُؤْمِنُ فِي قَبْرِهِ فِي رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ، وَيُرَحَّبُ لَهُ قَبْرُهُ سَبْعِينَ ذِرَاعًا، وَيُضِيءُ حَتَّى يَكونَ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، هَلْ تَدْرُونَ فِيمَا أُنْزِلَتْ "فَإِن لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا"؟)). قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: ((عَذَابُ الْكَافِرِ فِي قَبْرِهِ يُسَلَّطُ عَلَيْهِ تِسْعَةٌ وَتسْعُونَ تِنِّينًا. هَلْ تَدْرُونَ مَا التِّنِّينُ؟. تِسْعَةٌ وَتسْعُونَ حَيَّةً لِكلِّ حَيَّة سَبْعَة رُؤُوسٍ، يَخْدِشُونَهُ، وَيَلْسَعُونَهُ، وَيَنْفُخونَ فِي جِسْمِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)).
وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وابْنُ حِبَّانٍ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا"، قَالَ: الْمَعيشَةُ الضَّنْكُ الَّتِي قَالَ اللهُ: إِنَّهُ يُسَلَّطُ عَلَيْهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ حَيَّةً تَنْهَشُ لَحْمَهُ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةٌ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي كِتابِ "عَذَابُ الْقَبْرِ"، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عنْهُ، قَالَ: إِذَا حَدَّثْتُكمْ بِحَدِيثٍ أَنْبَأْتُكُمْ بِتَصْدِيقِ ذَلِكَ مِنْ كِتَابِ اللهِ، إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ، أُجْلِسَ فِيهِ، فَيُقَالُ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟. وَمَا دِينُكَ؟. وَمَنْ نَبِيُّكَ؟. فَيُثَبِّتُهُ اللهُ ـ تَعَالى، فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللهُ، وَدِيني الإِسْلَامُ، وَنَبِيِّي مُحَمَّدٌ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيُوَسَّعُ لَهُ فِي قَبْرِهِ، وَيُرَوَّحُ لَهُ فِيهِ. ثُمَّ قَرَأَ عَبْدُ اللهِ: {يُثَبِّتُ اللهُ الَّذينَ آمَنُوا بالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} الآيةَ: 27، مِنْ سُورةِ إِبْراهيمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ. فَإِذَا مَاتَ الْكَافِرُ أَجْلِسَ فِي قَبْرِهِ، فَيُقَالُ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟. وَمَا دِينُكَ؟. وَمَنْ نَبِيُّكَ؟. فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي. قَالَ: فَيَضِيقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ، وَيُعَذَّبُ فِيهِ، ثمَّ قَرَأَ: "وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا". الآيةَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "مَعِيشَةً ضَنْكًا" قَالَ: الشَّقَاءُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما، فِي قَوْلِهِ تعالى: "مَعِيشَةً ضَنْكًا"، قَالَ: شدَّةٌ عَلَيْهِ فِي النَّارِ.
وَأَخْرَج الطَّسْتِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما، أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ قَالَ لَهُ: أَخْبرنِي عَن قَوْلِهِ: "مَعِيشَةً ضَنْكًا" قَالَ: الضَّنْكُ الشَّديدُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. قَالَ: وَهَلْ تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ؟. قَالَ: نَعَم، أَمَا سَمِعْتَ الشَّاعِرَ وَهُوَ يَقُولُ:
وَالْخَيْلُ قَدْ لَحِقَتْ بِهَا فِي مَأْزِقٍ .......... ضَنْكٍ نَوَاحِيهِ شَدِيدِ الْمَقْدِمِ
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، فِي قَوْلِهِ: "مَعِيشَةً ضَنْكًا" قَالَ: يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: كُلُّ مَالٍ أَعْطَيْتُهُ عَبْدًا مِنْ عِبَادِي ـ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، لَا يُطِيعُني فِيهِ، فَلَا خَيْرَ فِيهِ، وَهُوَ الضَّنْكُ فِي الْمَعيشَةِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "مَعِيشَةً ضَنْكًا"، قَالَ: ضَيِّقَةً.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ الْحَسَنِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "مَعِيشَةً ضَنْكًا" قَالَ: الْمَعيشَةُ الضَّنْكُ خَصْمٌ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "مَعِيشَةً ضَنْكًا" قَالَ: الضَّنْكُ مِنَ الْمَعيشَةِ، إِذا وَسَّعَ اللهُ عَلَى عَبْدِهِ أَنْ يَجْعَلَ مَعِيشَتَهُ مِنَ الْحَرَامِ، فَيَجْعَلَهُ اللهُ عَلَيْهِ ضَيِّقًا فِي نَارِ جَهَنَّمَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "مَعِيشَةً ضَنْكًا" قَالَ: يُحَوِّلُ اللهُ رِزْقَهُ فِي الْحَرَامِ، فَلَا يُطْعِمُهُ إِلَّا رَانًا حَتَّى يَمُوتَ فَيُعَذِّبُهُ عَلَيْهِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، فِي قَوْلِهِ: "مَعِيشَةً ضَنْكًا"، قَالَ: الْعَمَلُ السَّيِّءُ، والرِّزْقُ الْخَبيثُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "مَعِيشَةً ضَنْكًا" قَالَ: فِي النَّارِ شَوْكٌ، وَزَقُّومٌ، وغِسْلِينٌ، والضَّريعُ، وَلَيْسَ فِي الْقَبْرِ وَلَا فِي الدُّنْيَا مَعِيشَةٌ. مَا الْمَعيشَةُ وَالحَيَاةُ إِلَّا فِي الْآخِرَةِ.
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "مَعِيشَةً ضَنْكًا": ضَيِّقَةً يَضِيقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ. واللهُ أَعلمُ.
قَوْلُهُ: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} "أَعْمَى" فاقِدُ البَصَرِ، فَقد جَعَلَ اللهُ تعالى عِقَابَ مَنْ يُعْرِضُ عَنْ ذكْرِ ربِّهِ أَنْ يحشَرَ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى تَمْثِيلًا لِحَالَتِهِ الْحِسِّيَّةِ يَوْمَئِذٍ بِعَماهُ الْمَعْنَوِيِّ فِي الدُّنْيَا، عَنِ النَّظَرِ فِيما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ هُدًى إِلى طَريقِ الحقِّ والصَّوابِ. وَفي هذَا الْعَمَى دليلٌ عَلَى غَضَبِ اللهِ عَلَيْهِ، وَإِقْصَائِهِ عَنْ رَحْمَتِهِ، فَـ "أَعْمى" الْأَوَّلُ مِنَ المَجَازِ و "أَعْمى" الثَّانِي حَقِيقَةٌ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ المُبَارَكَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللهَ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، حَذَّرَ الْإِنْسَانَ مِنْ سلوكِ سُبُلِ الشِّرْكِ وَالضَّلَالِ مُنْذُ نَشْأَتِهِ، وعَلَى ذَلِكَ فَطَرَهُ، حَتَّى أَنَّ مِنَ العُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: بِأَنَّ المُشْرِكينَ مِنَ الْأُمَمِ مِنْ أَهلِ الفَتْرَةِ بَيْنَ نُزُولِ الشَّرَائِعِ مُعَذَّبونَ ومُسْتحقونَ الْعِقَابَ، وَقَالَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ: إِنَّ مَعْرِفَةَ اللهِ وَاجِبَةٌ بِالْعَقْلِ، واللهُ أَعْلَمُ.
قوْلُهُ تَعَالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي} الواوُ: حرفُ عطْفٍ، و "مَنْ" حرفُ شَرْطٍ جازِمٌ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالابتِداءِ. والخَبَرُ جُمْلَةُ الشَّرْطِ، أَوِ الجَوابِ، أَوْ هُما معًا. وَ "أَعْرَضَ" فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ في مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "مَنْ" الشَّرطيَّةِ عَلَى كَوْنِهِ فِعْلَ شَرْطٍ لَهَا، وَفاعِلُهُ: ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هوَ) يَعُودُ عَلَى "مَنْ". و "عَنْ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَعْرَضَ"، و "ذِكْري" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ مُضافٌ، وياءُ المُتَكَلِّمِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، وَجُمْلَةُ: "مَنْ أَعْرَضَ" فِي مَحَلِّ الجَزْمِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ قولِهِ: "مَنِ اتَّبَعَ" السَّابِقَةِ، عَلى كَوْنهَا جَوَابًا لِـ "إنَّ" الشَّرْطِيَّةِ.
قولُهُ: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} الفاءُ: رابِطةٌ لِجَوَابِ "مَنْ" الشَّرْطِيَّةِ وُجُوبًا لِكَوْنِ الجَوَابِ جُمْلَةً اسْمِيَّةً، وَ "إِنَّ" حرْفٌ ناصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ للتَّوكِيدِ. و "لهُ" اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرِ "إِنَّ" المُقدَّمِ، والهاءُ: ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ. وَ "مَعيشَةً" خَبَرُ "إِنَّ" المُؤَخَرُ مَنْصُوبٌ بِها. وَ "ضَنْكًا" صفةٌ لِـ "مَعيشَةً" مَنْصوبَةٌ مِثْلُها. والجُمْلَةُ في محلِّ الجَزْمِ بِـ "مَنْ" الشَّرطيَّةِ عَلَى كَوْنِها جَوابَ شَرْطٍ لَهَا.
قولُهُ: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} الوَاوُ: حَرْفٌ لِلْعَطْفِ، وَ "نَحْشُرُهُ" فِعْلٌ مُضارِعٌ مَرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجَازِمِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فِيهِ وُجوبًا تقديرُهُ "نحنُ" يَعُودُ عَلَى المُعَظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالى، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بالمفعولِيَّةِ. و "يَوْمَ" منصوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الزَّمانِيَّةِ، مُتَعَلِّقٌ بِـ "نَحْشُرُهُ"، وهوَ مُضافٌ، و "القِيَامَةِ" مَجْرورٌ بالإضافةِ إلَيْهِ. و "أَعْمَى" مَنْصوبٌ عَلَى الحَالِ مِنْ ضَمِيرِ المفعولِ بِهِ. والجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذوفٍ تَقْديرُهُ "نَحْنُ" وَهذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ في مَحَلِّ الجَزْمِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ جَوَابِ الشَّرْطِ.