الموسوعةُ القرآنيةُ (فيضُ العليم مِن معاني الذكْر الحكيم) سورةُ (طه) الآية: 4
تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى
(4)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى} تَنْزيلًا: هُوَ نَصْبٌ عَلَى المَصْدَرِيَّةِ تَأْكِيدًا لِمُضْمَرٍ مُسْتَأْنَفٍ مُقَرِّرٍ لِمَا قَبْلِهِ، أَيْ: وَهَذا القُرْآنُ نَزَلَ تَنَزَّلَ بِهِ جِبْريلُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، تَنْزيلًا مِنْ عِنْدِ رَبِّكَ اللهِ تَعَالَى، رَبِّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكِهِ، الْقَادِرِ عَلَى مَا يَشَاءُ، الَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ بانْخِفاضِهَا وَكَثَافَتِهَا، وَالسَّمَاوَاتِ العُلاَ فِي ارْتِفَاعِهَا وَلَطَافَتِهَا.
وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ سُمْكَ كُلِّ سَمَاءٍ مَسِيرَةُ خَمْسِمِئَةِ عَامٍ، وَبُعْدَ مَا بَيْنَهَا وَالَّتِي تَلِيهَا مَسِيرَةُ خَمْسِمِئَةِ عَامٍ أَيْضًا. فقد رَوَى زِرُّ بْنِ حُبَيْشٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: (إِنَّ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مَسِيرَةَ خَمْسِمِئَةِ عَامٍ، وَمَا بَيْنَ كُلِّ سَمَاءَيْنِ مَسِيرَةَ خَمْسِمِئَةِ عَامٍ، وَنَضَدُ كُلِّ سَمَاءٍ ـ يَعْنِي غِلَظَهُ، خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، وَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَبَيْنَ الْكُرْسِيِّ مَسِيرَةُ خَمْسِمِئَةِ عَامٍ، وَمَا بَيْنَ الْكُرْسِيِّ إِلَى الْمَاءِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِئَةِ عَامٍ، وَالْعَرْشُ فَوْقَ الْمَاءِ، وَاللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَوْقَ الْعَرْشِ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْءٌ) أَخْرجَهُ البيهقيُّ في (الأسماءُ والصِّفات): (2/291)، وَأخْرَجَهُ أَبو الشَّيْخِ الأَصْبَهانِيُّ في (العَظَمَةِ): (2/565)، وأَخِرَجَهَ ابْنُ خُزَيْمَةَ في (التوحيد): (2/885)، وَابْنُ بَطَّةَ في (الإبانةُ الكُبْرَى): (7/171). والحديثُ لَهُ حُكْمُ المَرْفوعِ. وأَخْرَجَهُ أَيْضًا البَزَّارُ في مُسْنَدِهِ: (9/453)، وذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ العَسَقَلانيُّ في (المَطَالِبِ العَالِيَةِ ـ بابُ: بِدْءُ الخَلْقِ): (10/72)، كلاهما عَنْ أَبي ذَرٍّ الغِفَارِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، مَرْفوعًا.
وأَخْرَجَ الإمامُ أَحْمَدُ، والتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ مَرَّتْ سَحَابَةٌ فَقَالَ: ((أَتَدْرُونَ مَا هَذِهِ؟)). قَالَ: قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: ((الْعَنَانُ وَرَوَايَا الأَرْضِ، يَسُوقُهُ اللهُ إِلَى مَنْ لاَ يَشْكُرُهُ مِنْ عِبَادِهِ، وَلاَ يَدْعُونَهُ، أَتَدْرُونَ مَا هَذِهِ فَوْقَكُمْ؟)). قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: ((الرَّقِيعُ مَوْجٌ مَكْفُوفٌ، وَسَقْفٌ مَحْفُوظٌ، أَتَدْرُونَ كَمْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهَا؟)). قُلْنَا اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ)). قَالَ: ((مَسِيرَةُ خَمْسِمِئَةِ عَامٍ)). ثُمَّ قَالَ: ((أَتَدْرُونَ مَا الَّتِي فَوْقَهَا؟)). قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ)). قَالَ: ((سَمَاءٌ أُخْرَى، أَتَدْرُونَ كَمْ بَيْنَها وَبَيْنَهَا؟)). قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: ((مَسِيرَةُ خَمْسِمِئَةِ عَامٍ)). حَتَّى عَدَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ، ثُمَّ قَالَ: ((أَتَدْرُونَ مَا فَوْقَ ذَلِكَ؟)). قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ)). قَالَ: ((الْعَرْشُ))، قَالَ: ((أَتَدْرُونَ كَمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ؟)). قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: ((مَسِيرَةُ خَمْسِمِئَةِ عَامٍ)). ثُمَّ قَالَ: ((أَتَدْرُونَ مَا هَذَا تَحْتَكُمْ؟)). قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: ((أَرْضٌ، أَتَدْرُونَ مَا تَحْتَهَا؟)). قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: ((أَرْضٌ أُخْرَى، أَتَدْرُونَ كَمْ بَيْنَهَا وَبَيْنَهَا؟)). قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: ((مَسِيرَةُ خَمْسِمِئَةِ عَامٍ)). حَتَّى عَدَّ سَبْعَ أَرَضِينَ، ثُمَّ قَالَ: ((وَايْمُ اللهِ لَوْ دَلَّيْتُمْ أَحَدَكُمْ بِحَبْلٍ إِلَى الأَرْضِ السُّفْلَى السَّابِعَةِ لَهَبَطَ. ثُمَّ قَرَأَ: هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُو بِكُّلِ شَيْءٍ عَلِيمٌ)). مُسنَدُ أَحْمَدٍ: (2/370، برقم: 8814)، والتِّرمِذِيُّ: (3298).
وَ "العُلَى" جَمْعُ عُلْيَا، نَحَوَ: "دُنْيَا" و "دُنَا". وَنَظِيرُهُ فِي الصَّحِيحِ "كُبْرَى" و "كُبَرٌ"، وَ "فُضْلَى" و "فُضَلٌ".
وَفِي "خَلَق" الْتِفَاتٌ مِنْ التَكَلُّمِ في قَوْلِهِ "أَنْزَلْنا" إِلَى الغَيْبة. وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكونَ {مَا أَنزَلْنا} حِكايَةً لِكَلامِ جِبْريلَ وَبَعْضِ المَلائكَةِ، وعَلَى هذا فَلَا الْتِفاتَ.
قوْلُهُ تَعَالَى: {تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى} تَنْزِيلًا: منصوبٌ عَلى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِفِعْلٍ مَحْذوفٍ، والتَقْديرُ: نَزَّلْناهُ "تَنْزِيلًا" فَحُذِفَ وُجُوبًا، وفي نَصْبِهِ أَوْجُهٌ أُخْرَى، هيَ:
الأَوَّلُ: أَنْ يَكونَ بَدَلًا مِنْ قولِهِ: {تَذْكِرَةً} مِنَ الآيةِ التي قبلَها، إِذَا جُعِلَ حالًا منهُ لَا إِذا كانَ مَفْعُولًا لَهُ، لأَنَّ الشَّيْءَ لَا يُعَلَّلُ بِنَفْسِهِ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ التَّقْديرُ: مَا أَنْزَلْنا القُرْآنَ إلَّا لِلتَّنْزيلِ.
الثاني: أَنْ يَنْتَصِبَ بقولِهِ: {أَنْزَلْنا} مِنَ الآيةِ الَّتي قبلَها لِأَنَّ مَعْنَى مَا أَنْزَلْنَاهُ إِلَّا تَذْكِرَةً: أَنْزَلْناهُ تَذْكِرَةً.
الثالثُ: أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى المَدْحِ وَالاخْتِصَاصِ، أَيْ: أَخُصُّ، أَوْ أَمْدَحُ "تنزيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى".
الرَّابِعُ: أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى كونِهِ مَفْعُولًا بِهِ لِقَوْلِهِ: {يَخْشَى} مِنَ الآيَةِ الَّتي قَبْلَها، أَيْ: أَنْزَلَهُ للتَّذْكِرَةِ لِمَنْ يَخْشَى تَنْزيلَ اللهِ، وَهُوَ مَعْنًى حَسَنٌ وَإِعْرابٌ بَيِّنٌ. قالَ الشَّيْخُ أَبو حيَّانَ الأندَلُسيُّ: وَالأَحْسَنُ مَا قَدَّمْنَاهُ أَوَّلًا مِنْ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بـ "نَزَّلَ" مُضْمَرَةً. وَمَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ نَصْبِهِ عَلَى غَيْرِهِ فَمُتَكَلَّفٌ: أَمَّا الأَوَّلُ فَفِيهِ جَعْلُ {تَذْكِرَةً} و "تَنْزيلًا" حَالَيْنِ، وَهُمَا مَصْدَرانِ. وَجَعْلُ المَصْدَرِ حَالًا لَا يَنْقَاسُ. وَأَيْضًا فَمَدْلُولُ {تَذْكِرَةً} لَيْسَ مَدْلولَ "تَنْزيلًا"، وَلَا "تَنْزيلًا" بَعْضُ {تَذْكِرَةً}. فَإِنْ كانَ بَدَلًا فَيَكونُ بَدَلَ اشْتِمَالٍ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى أَنَّ الثاني مُشْتَمِلٌ عَلَى الأَوَّلِ؛ لِأَنَّ التَنْزيلَ مُشْتَمِلٌ عَلَى التَذْكِرَةِ وَغَيْرِها. وَأَمَّا قَوْلُهُ: لِأَنَّ مَعْنَى مَا أَنْزَلْنَاهُ إِلَّا تَذْكِرَةً: أَنْزَلْنَاهُ تَذْكِرَةً، فَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ مَعْنَى الحَصْرِ يَفُوتُ فِي قَوْلِهِ: أَنْزَلْنَاهُ تَذْكِرَةً. وَأَمَّا نَصْبُهُ عَلَى المَدْحِ فَبَعِيدٌ. وَأَمَّا نَصْبُهُ بـ "يَخْشَى" فَفِي غَايَةِ البُعْدِ، لِأَنَّ "يَخْشَى" رَأْسُ آيَةٍ وَفَاصِلٌ، فَلَا يُنَاسِبُ أَنْ يَكونَ "تَنْزيلًا" مَنْصُوبًا بـ "يَخْشَى"، وَقَوْلُهُ فِيهِ: (وَهُوَ حَسَنٌ وَإعِرَابٌ بَيِّنٌ) عُجْمَةٌ وَبُعْدٌ عَنْ إِدْراكِ الفَصَاحَةِ. و "مِمَّنْ" مِنْ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تَنْزِيلًا"، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَحْذوفٍ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لـ "تَنْزيلًا". و "مَنْ" اسْمٌ موْصُولٌ بِمَعْنَى "الذي"، مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. الجُمْلَةُ المَحْذوفَةُ: مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ. و "خَلَقَ" فِعْلٌ ماضٍ مبْنيٌّ عَلى الفَتْحِ، وفاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يعودُ على "مَنْ"، و "الْأَرْضَ" مَفْعولُهُ منصوبٌ بِهِ. وَ "السَّمَاوَاتِ" مَعْطُوفٌ عَلَى "الْأَرْضَ" منصوبٌ مثْلُهُ، وعلامةُ نَصبِهِ الكسْرةُ عَوَضًا عنِ الفتْحَةِ لأَنَّهُ جمعُ المُؤَنَّثِ السَّالِمُ. و "الْعُلَى" صِفَةُ "السَّماوَاتِ" منصوبَةٌ مثلُها وعلامةُ النَّصْبِ فتحةٌ مقدَّرةٌ على آخرِهِ لتعذُّرِ ظهورِها على الألِفِ. والجُمْلَةُ: صِلَةُ المَوْصُولِ لا محلَّ لها مِنَ الإِعرابِ.
قَرَأَ الجُمهورُ: {تَنْزيلًا} بالنَّصْبِ، وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ الشَّامِيُّ: "تَنْزِيلٌ" بِالرَّفْعِ عَلَى مَعْنَى: هَذَا تَنْزيلٌ.