فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ
(78)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ} أَيْ: فَنَفَّذَ مُوسَى ـ عليْهِ السَّلامُ، ما أَمَرَه رَبُّهُ بِهِ، فَسَارَ بِبَنِي إِسْرائيلَ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ، وَكانَ عَدَدُهم سِتُّمِئَةِ وَسَبْعُونَ أَلفًا. فَإِنَّ فِرْعَوْنَ بَعْدَ أَنْ رَأَى آيَاتِ غَضَبِ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَى قَوْمِهِ، وَأَيْقَنَ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ تَأْيِيدٌ لِمُوسَى، أَذِنَ لِمُوسَى وَهَارُونَ ـ عليْهِما السَّلامُ، أَنْ يُخْرِجَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ إِذْنُ فِرْعَوْنَ قَدْ حَصَلَ لَيْلًا لِحُدُوثِ مَوَتَانٍ عَظِيمٍ فِي الْقِبْطِ فِي لَيْلَةِ الشَّهْرِ السَّابِعِ مِنْ أَشْهُرِ الْقِبْطِ وَهُوَ شَهْرُ (بَرَمْهَاتَ) وَهُوَ الَّذِي اتَّخَذَهُ الْيَهُودُ رَأَسَ سَنَتِهِمْ بِإِذْنٍ مِنَ اللهِ وَسَمَّوْهُ (تِسَّرِي) فَخَرَجُوا مِنْ مَدِينَةِ (رَعَمْسيس) متَّجهينَ إِلى شاطىءِ الْبَحْرِ الْأَحْمَرِ. وَنَدِمَ فِرْعَوْنُ عَلَى إِطْلَاقِهِمْ، فَأَرَادَ أَنْ يَلْحَقَهُمْ لِيُرْجِعَهُمْ إِلَى مَدِينَتِهِ، وَخَرَجَ فِي مَرْكَبَتِهِ وَمَعَهُ سِتُّمِئَةِ مَرْكَبَةٍ مُخْتَارَةٍ وَمَرْكَبَاتٍ أُخْرَى تَحْمِلُ جَيْشَهُ، وكانَتْ مُقَدَّمةُ جَيْشِهِ "أَيْ مَا يُسَمَّى الْيَوْمَ بِقُوَّاتِ التَّدَخُّلِ السَّريعِ، الَّتي تَكونُ دَائِمَةَ الجُهُوزيَّةِ"، سَبْعَ مِئَةِ أَلْفٍ، وَوَصَلوا جميعًا إِلَى شَاطِئِ البَحْرِ، فَلَمَّا رَأَى بَنُو إِسْرائيلَ أَنَّ فِرْعَوْنَ قدْ لَحِقَ بهمْ بجيشِهِ الجرَّارِ ذاكَ، وَخافُوا أَنْ يَفْتُكُوا بِهِمْ، ضَرَبَ موسَى بِعَصَاهُ البَحْرَ فَانْفلَقَ البحْرُ بإذْنِ رَبِّهِ عَنْ اثْنَي عَشَرَ طَريقًا كلُّها يابسٌ صالحٌ للسَّيْرِ فِيهِ، فَنَزَلَ مُوسَى ومَنْ مَعَهُ، وتَوَزَّعُوا عَلَى تِلْكَ الطُّرُقِ، لِيَجْتَازُوا البَحْرَ، وَلِيَعْبُروا إِلَى الشاطئِ الآخَرِ، ووصلَ فرعونُ وَجُندُهُ إلى السَّاحِلِ فَوَجَدُوا بَنِي إِسْرائيلَ في تِلْكَ الطُّرُقاتِ اليابِسَةِ يَعْبُرونَ، فَاتَّبَعَوهُمْ، لإلْقاءِ القَبْضِ عَلَيْهِمْ، والنَّيْلِ مِنْهُم.
فالفَاءُ هُنَا فَصِيحَةٌ مُعْرِبَةٌ عَنْ كُلِّ هَذا المُضْمَرِ الَّذي طُوِيَ ذِكْرُهُ لِعَظَمَةِ بَلَاغَةِ هَذا القُرْآنِ العَظِيمِ، لِلْعِلْمِ بِهِ وَظُهُورِهِ، وَإِيذانًا بِمُسَارَعَةِ نَبِيِّ اللهِ مُوسَى ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، إِلَى تَنْفِيذِ مَا أَمَرَهُ بِهِ رَبُّهُ ـ سُبْحانهُ، دونَ إبطاءٍ ولا تَرَدُّدٍ ولا شَكٍّ بِنَصْرِ اللهِ لَهُ، طاعَةً لَمولاهُ وامْتِثالًا لِأَمْرِهِ ـ جَلَّ جَلالُهُ العَظيمُ.
قولُهُ: {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} فَغَشِيَهُم: الفَاءُ: للعَطْفِ والتَّعْقِيبِ، إِظْهارًا لِسُرْعَةِ نَفَاذِ أَمْرِ اللهِ فِيهِمْ، ونُزُولِ غَضَبِهِ عَلَيْهِمْ. و "غَشِيَهُمْ" أَيْ: عَلَا فَوْقَ فِرْعونَ وَعَسْكَرِهُ الكَثِيرُ الهائلُ مِنْ المَاءِ، وَغَمَرَهُمْ وَغَطَّاهُمْ، وَابْتَلَعَهُمْ كُلَّهُمْ مَعَ خُيولِهِمْ وأَسْلِحَتِهِم وَأَخْفَاهُمْ، بِحَيْثُ لَمْ يُبْقِ شَيئًا مِنْهُمْ. وَالغِشَاءُ: هوَ الغِطَاءُ، فتَقولُ: غَشَّيْتُ الشَّيْءَ تَغْشِيَةً إِذَا غَطَّيْتَهُ، وغَشَّى عَلَى بَصَرِهِ وَقَلْبِهِ فَهُوَ غَشْوٌ، وَغَشْوةٌ، وغُشْوَةٌ، وَغِشْوَةٌ، وَغِشاوَةٌ، وَغَشَاوَةٌ، وَغُشَاوَةٌ، وَغَاشِيَةٌ، وَغُشْيَةٌ، وَغُشَايَةٌ، وَغِشَايَةٌ. وَالغِشَاوَةُ مَا غَشِيَ القَلْبَ مِنَ الطَّبَعِ، وقيلَ هِيَ جِلْدةٌ رَقِيقَةٌ غُشِّيَتِ القَلْبَ فإِذا انْخَلَعَ مِنْهَا مَاتَ صَاحِبُهُ، ومنْهُ ما أَنْشَدَهُ ابْنُ بَرِّيٍّ لِلَشَّاعِرِ الحَرْثُ بْنُ خَالِدٍ المَخْزومِيُّ:
صَحِبْتُكَ إِذْ عَيْني عَلَيْهَا غِشَاوَةٌ ...... فَلَمَّا انْجَلَتْ قَطَّعْتُ نَفْسِي أَلُومُها
وَتَقُولُ غَشَّيْتُ الشَّيْءَ تَغْشِيةً إِذَا غَطَّيْتَهُ، وَقَدْ غَشَّى اللهُ عَلَى بَصَرِ فلانٍ، وَأَغْشى، ومِنْهُ قولُهُ تَعَالى مِنْ سُورةِ يَس: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فأَغْشَيْناهم فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} الآية: 9، وَقَالَ مِنْ سُورةِ البَقَرَةِ: {خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} الآيَةَ: 7، وَقُرِئَ "غَشْوَةٌ" فَكأَنَّما رُدَّ إِلى أَصْلِهِ فإنَّ المَصَادِرَ كُلَّها تُرَدُّ إِلى وَزْنِ "فَعْلَةٍ". لَكنَّ "غِشَاوَةٌ" هي القِرَاءَةُ المُخْتَارَةِ التي عليها الجُمهورُ، فَكُلُّ مَا كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى الشَّيْءِ يُبْنَى عَلى "فِعَالَةٍ" نَحْوَ "غِشَاوَة"، و "عِمَامَة" و "عِصابَة"، وأَسْمَاءُ الصِّناعاتِ كَذَلِكَ أَيْضًا لِاشْتِمالِها عَلَى كُلِّ مَا فِيهَا كَ "الحِدَادَةِ" و "النِّجارةِ" و "التِجارةِ" وَ "الخِياطَةَ" و "الصِّرافَةِ"، و "الحِيَاكَةِ" .. . وَغَشِيَهُ الأَمْرُ، وَتَغَشَّاهُ، وأَغْشَيْتُهُ إِيَّاهُ، وَغَشَّيْتُهُ، كَمَا جَاءَ فِي الآيَةِ: 54، مِنْ سُورَةِ الأَعْرَاف، قَوْلُهُ تَعَالى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا}، وَقرِئَ "يُغَشِّي" وكَذَلِكَ في سُورةِ الأَنْفالِ فإنَّهُ {يُغْشِيكُم النُّعاسَ}، وَ {يُغَشِّكُمُ النُّعاسَ}، وَ "يَغْشَاكُم النُّعاسُ}، وَفي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الغاشِيَةِ: {هَلْ أَتَاكَ حَديثُ الغاشِيَةِ} الآيةَ: 1، قِيلَ: الغَاشِيَةُ هِيَ القِيَامَةِ، لأَنَّهَا تَغْشَى الخَلْقَ بِأَهْوَالِهَا وأَفْزَاعِهَا، وَقِيلَ: الغاشِيَةُ: النَّارُ، لأَنَّها تَغْشَى وُجُوهَ الكُفَّارِ، وغِشَاءُ كُلِّ شَيْءٍ مَا تَغَشَّاهُ، كَ "غِشَاءِ القَلْب" و "السَّرْجِ" و "الرَّحْلِ" و "السَّيْفِ" ونَحُوِهَا. عَنْ لِسَانِ العَرَبِ لِمُحَمَّدِ بْنِ مَكْرَمِ بْنِ مَنْظورٍ المِصْرِيِّ: (15/126)، بِشَيْءٍ مِنَ التَّصَرُّفِ.
وَ "اليَمّ" البَحْرُ، فقدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "فَغَشِيَهُمْ مِنَ الَيَمِّ" قَالَ: الْبَحْرِ. وَكَذَلِكَ قَالَ الزَّجَّاجُ أَيْضًا: اليَمُّ البَحْرُ. وَلَا يُثَنَّى ولَا يُجْمَعُ لا جمعًا سَالِمًا ولا جمعَ تكْسيرٍ. وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: اليَمُّ: البَحْرُ الذي لَا يُدْرَكُ قَعْرُهُ وَلَا شَطَّاهُ. ويَنْقَضُهُ قولُهُ تَعَالَى في الآيةِ: 39، مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ المُباركةِ: {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ} فَجَعل لَهُ سَاحِلًا، فَقَدْ أُمِرَتْ أُمُّ مُوسَى حِيْنَ وَلَدَتْهُ وَخَافَتْ عَلَيْهِ أَنْ يَقْتُلَهُ فِرْعَوْنُ، أَنْ تَجْعَلَهُ فِي تَابُوتٍ ثُمَّ تَقْذِفَهُ في اليَمِّ، وَهُوَ نَهَرُ النِّيلِ بِمِصْرَ ـ حَمَاهَا اللهُ تَعَالَى. وفي الحديث الشَّريفِ الَّذي أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، والنَّسائيُّ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ أَخَي بَنِي فِهْرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا كَمَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبُعَهُ فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ)). مُسْنَدُ الحُمَيْدِيُّ: (855)، وَمُسْنَدُ أَحْمَدُ: (4/228(18171)، وصحيحُ مُسْلِمٍ: (8/156(7299)، وسُنَنُ ابْنِ مَاجَةَ: (4108)، والتِّرمِذِيُّ: (2323)، والنَّسائِيُّ في "الكُبْرَى". إِذًا فَإِنَّ اسْمَ "اليَمّ" يَقَعُ عَلى مَا كَانَ مَاؤهُ مِلْحًا زُعاقًا، وَعَلَى النَّهَرِ الكَبِيرِ العَذْبِ المَاءِ أَيْضًا.
وَجِيءَ بِـ "مَا" المَوْصُولَةِ فاعِلًا بِهِمْ، وَهِيَ اسْمٌ مُبْهَمٌ للْتَّعْبيرِ عَنْ هَوْلِ مَا غَشيَهُمْ ونَزَلَ بهِمْ مِنَ العَذابِ الهائِلِ الذي لَا يُدْرَكُ كُنْهُهُ، وَلَا يُقَادَرُ قَدْرُهُ، وَهَذا التَّفْخِيمُ لهُ بِسَبَبِ خُروجِهِ عَنْ حُدودُ الوَصْفِ وَالفَهْمِ، والتَّصَوُّرِ والْوَهْمِ، واللهُ تَعَالى أَعلَمُ.
قولُهُ تَعَالى: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ} الفاءُ: عَاطِفَةٌ، وَ "أَتْبَعَهُمْ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ، وَالهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ بالمَفْعُولِيَّةِ، والميمُ للجَمعِ المُذكَّرِ. و "فِرْعَوْنُ" فَاعِلُهُ مَرْفوعٌ بِهِ. و "بِجُنُودِهِ" الباءُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِحَالٍ مِنْ فِرْعَوْنَ؛ أَيْ: حَالَةَ كَوْنِهِ مُتَلَبِّسًا بِجُنُودِهِ، وَذَلِكَ عَلَى أَنَّ "أَتْبَعَ" مُتَعَدٍّ لِاثْنَيْنِ حُذِفَ ثَانِيهُمَا. والتَّقْديرُ: فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ عِقَابَهُ، أَوْ رُؤَساءَهُ وَحَشَمَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ تكونَ الباءُ زائدةً في المَفْعُولِ الثانِي. وَالتَّقْديرُ: فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ جُنُودَهُ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى في الآيةِ: 195، مِنْ سورةِ البَقَرَةِ: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ} وَمنهُ قَولُ الراعي النُّميريُّ:
هُنَّ الحَرَائرُ لَا رَبَّاتُ أَخْمِرَةٍ ............ سودُ المَحاجِرِ لَا يَقْرأْنَ بالسُّوَرِ
ونُسِبَ هذا البيتُ لغيرِ واحدٍ مِنَ الشُّعراءِ ـ واللهُ أَعْلَمُ.
وَقَدَ جَاءَ الفِعْلُ "أَتْبَعَ" مُتَعَدِّيًا لِاثْنَيْنِ مُصَرَّحٍ بِهِمَا في قوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سورةِ القَصَصِ: {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} الآيَةَ: 42.
وَيَجُوزُ أَنْ تكونَ مُعَدِّيَةٌ عَلَى أَنَّ "أَتْبَعَ" قَدْ يَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ بِمَعْنَى مَعَ، وَيَجُوزُ عَلَى هَذَا الوَجْهِ أَنْ تَكونَ الباءُ للحَالِ أَيْضًا، بَلْ هُوَ الأَظْهَرُ. وَ "جُنُودِهِ" مَجْرُورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَحْذُوفٍ تَقْديرُهُ، فَفَعَلَ مُوسَى مَا أُمِرَ بِهِ مِنَ الإِسْرَاءِ بِهِمْ، وَضَرْبِ البَحْرِ، وَسُلُوكِهِ، فَتَبِعَهُمْ فِرْعَوْنُ حَالَةَ كَوْنِهِ مُصاحَبًا بِجُنُودِهِ وَأَعْوَانِهِ، حَتَّى لَحِقُوهُمْ.
قوْلُهُ: {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} الفاءُ: عَاطِفَةٌ أَيْضًا، و "غَشِيَهُمْ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ بالمَفْعوليَّةِ. و "مِنَ" حرفُ جَرٍّ متعلِقٌ بحالٍ مِنْ فاعِلِهِ وهوَ "مَا" المَوْصُولَةِ المَذْكُورَةِ بَعْدَهُ ، و "الْيَمِّ" مَجْرُورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ. و "مَا" مَوْصُولَةٌ مبنيَّةٌ عَلَى السُّكونِ في محلِّ الرَّفْعِ بالفَاعِليَّةِ، أَوْ هِيَ نَكِرةٌ مَوْصُوفَةٌ. و "غَشِيَهُمْ" فِعْلٌ ماضٍّ تقدَّمَ إعرابُهُ أَعْلَاهُ، وَالجُمْلَةُ صِلَةُ "مَا" الموْصولِةِ فلا مَحَلَّ لها مِنَ الإعْرابِ، أَوْ صِفَةٌ لَهَا في محلِّ الرَّفعِ، وَهَذَا مِنْ بَابِ الاخْتِصَارِ وَجَوامِعِ الكَلِمِ الَّتي يَقِلُّ لَفْظُهَا وَيَكْثُرُ مَعْنَاهَا، أَيْ: فَغَشِيَهُمْ مَا لَا يَعْلَمُ كُنْهَهُ إِلَّا اللهُ تَعَالَى. وَجُمْلَةُ "غَشِيَ" الأُولَى مَعْطوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قَوْلِهِ: "فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ".
قرأَ العامَّةُ: {فَأَتْبَعَهُمْ} بالتخفيفِ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو ـ فِي رِوَايَةٍ عنْهُ، والحَسَنُ "فَاتَّبَعَهُمْ" بِالتَّشْديدِ، وَكَذَلِكَ قِراءَةُ الحَسَنِ فِي جَمِيعِ القُرْآنِ الكَريمِ إِلَّا فِي قَوْلِهِ تعالى مِنْ سورةِ الصَّافَّاتِ: {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} الآية: 10، حيثُ قرأَهُ مُخفَّفًا كالجُمهورِ.
قَرَأَ العامَّةُ: {فَغَشِيَهم}، وَقَرَأَ الأَعْمَشُ: "فَغَشَّاهم" مُضَعَّفًا. وَحِينَئِذٍ فالفاعِلُ إمَّا "مَا" كَالقِرَاءَةِ قَبْلَهُ. أَوْ هوَ ضَمِيرُ الباري تَعَالَى، أَيْ: فَغَشَّاهُمُ اللهُ. أَوْ هوَ ضَميرُ فِرْعَوْنَ، لِأَنَّهُ السَّبَبُ فِي إِهْلاكِهِمْ. وَعَلَى هَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ فـ "مَا" فِي مَحَلِّ نَصْبٍ مَفْعُولًا ثانِيًا.