هَارُونَ أَخِي (30)
قوْلُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {هَارُونَ أَخِي} أَيْ: وَاجْعَلْ لِي عَوْنًا وَوَزيرًا مِنْ أَهْلِ بَيْتِي هَرونَ أَخِي. وكانَ هَرونُ أَكْبَرَ مِنْهُ سِنًّا كما روَى الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذر عَنِ ابْنِ جُرَيجٍ، قالَ: قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (كَانَ هَارُونُ أَكْبَرَ مِنْ مُوسَى ـ عَلَيْهِما السَّلامُ)، تَفْسيرُ الطبَرِيِّ: (جامعُ البَيَان) بتحقيق أَحمد شاكِر: (18/300)، فَقيلَ: بِسَنَةٍ، وَقالَ الماورديُّ: بِثَلَاثِ سِنِينَ، وَكانَ فِي جَبْهَةِ هارُونَ شَامَةٌ، وَكانَ عَلَى أَنْفِ مُوسَى شَامَةٌ، وَعَلَى طَرَفِ لِسانِهِ شَامَةٌ. تفسيرُ: {النُّكَتُ وَالعُيُونُ) لهُ: (3/44)، وَاللهُ أَعْلَمُ.
وقد خَصَّ أخاهُ هَارُونَ بِهَذِهِ الوزارةِ لِفَرْطِ ثِقَتِهِ بِهِ، وَلِأَنَّ هارونَ كَانَ مِقْوَالًا فَصِيحَ اللِّسَانِ، وَبَيَّنَ هَذا في مكانٍ آخرَ فقالَ: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} الآيةَ: 34، مِنْ سورةِ القَصَصِ، فَكَوْنُهُ مِنْ أَهْلِهِ مَظِنَّةُ النُّصْحِ لَهُ والثباتِ إلى جانِبِهِ، وَكَوْنُهُ أَخَاهُ أَقْوَى فِي الْمُنَاصَحَةِ، وَكَوْنُهُ الْأَخَ الْخَاصَّ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ عِنْدَهُ بِأَصَالَةِ الرَّأْيِ. قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما: نُبِّئَ هَارُونُ سَاعَتَئِذٍ حِينَ نُبِّئَ مُوسَى ـ عَلَيْهِما السَّلامُ.
لَقَدْ عَلِمَ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، مِنْ نَفْسِهِ حِدَّةَ الطَّبْعِ، وَسُرْعَةَ الانْفِعَالِ، فَالْتَجَأَ إِلَى رَبِّهِ، وَسَألَهُ أَنْ يُعِينَهُ بِأَخِيهِ "هَارونَ"، لِيُقَوِّي عزْمَهُ على المُضِيِّ في مَهَمَّتِهِ، وَيَتَشَاوَرَ مَعَهُ في هذا الأَمْرِ الجَليلِ الذي هوَ مُقْدِّمٌ عَلَيْهِ، وَهُوُ تَبْلِيغُ رِسالَةِ رَبِّهِ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى، إِلَى فِرْعَوْنَ الذي ظَلَمَ وطَغَى وَبَغَى، وقد عَاثَ فَسَادًا فِي الأَرْضِ، حتَّى قَالَ لِقَوْمِهِ: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} الآية: 24، مِنْ سورةِ النَّازعاتِ.
قوْلُهُ تَعَالى: {هَارُونَ أَخِي} هَارُونَ: منصوبٌ على البَدَلِ مِنْ {وَزِيرًا} منَ الآيةِ الَّتي قبْلَهَا. وَ "أَخِي" مَنْصُوبٌ عَلى البَدَلِ مِنْ "هَارُونَ". وَجَوَّزَ العُكْبُريُّ أَنْ يَكونَ عَطْفَ بَيَانٍ لَهُ. عِلْمًا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ في عَطْفِ البَيَانِ التَوَافُقُ بَيْنَ المعطوفِ والمعطوفِ عليْهِ تَعْريفًا وَتَنْكِيرًا، وَ {وَزيرًا} نَكِرَةٌ و "هارونَ" مَعْرِفَةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ للزَّمَخْشَرِيِّ مِثْلُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ} الآيَةَ: 97. وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ "هَارونَ" مَنْصُوبًا بِفِعْلٍ مَحْذوفٍ، والتقديرُ: أَخُصُّ مِنْ بَيْنِ أَهْلي هَارُونَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ {وَزيرًا} مَفْعْولًا ثانيًا، وَ "هارونَ" هُوَ المفعولُ الأَوَّلُ، وَقُدِّمَ الثاني عَلَيْهِ اعْتِنَاءً بِأَمْرِ الوِزارَةِ. وَعَليْهِ فيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ "لِي" بِالجَعْلِ كَمَا تَقَدَمَ بيانُهُ، ويَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَحْذوفٍ عَلى أَنَّهُ حَالٌ مِنْ {وزيرًا}؛ إِذْ هوُ صِفَةٌ لَهُ في الأصلِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ {وزيرًا} مَفْعُولًا أَّوَّلَ، وَ {مِنْ أَهْلِي} هُوَ الثانِي. وَقَوْلُهُ "لي" مِثْلُ قَوْلِهِ مِنْ سورةِ الإخلاصِ: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} الآية: 4، لأَنَّهُ يَتِمُّ المَعْنَى به، ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو البَقَاءِ العُكْبُريُّ. وَشَرْطُ المَفْعُولَيْنِ فِي بابِ النَّواسِخِ صِحَةُ انْعِقَادِ الجُمْلَةِ الاسْمِيَّةِ، وهذا عجيبٌ لأَنَّنَا لَوْ ابْتَدَأْنَا بـ "وَزِير" وَأَخْبَرْنَا عَنْهُ بـ "مِنْ أَهْلِي" لَم يَجُزْ إِذْ لَا مُسَوِّغ للابْتِداءِ بِهِ. وَ "أَخِي" بَدَلٌ مِنْ "هارونَ" أَوْ عَطْفُ بيَانٍ لَهُ مَنْصُوبٌ مِثلُهُ، وعَلامَةُ نَصْبِهِ فتحةٌ مُقدَّرةٌ على ما قبلِ الياءِ لانْشِغالِ المَحَلِّ بالحركةِ المُناسِبَةِ للياءِ، وهو مُضافٌ، وَيَاءُ المُتَكَلِّمِ هَذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنْ جُعِلَ عَطْفَ بَيَانٍ آخَرَ جَازَ وَحَسُنَ. قالَ أَبو حَيَّانَ الأَنْدَلُسِيُّ: وَيَبْعُدُ فِيهِ عَطْفُ البَيَانِ؛ لِأَنَّ عَطْفَ البَيَانِ الأَكْثَرُ فِيهِ أَنْ يَكونَ الأَوَّلُ دُونَهُ فِي الشُّهْرَةِ وَهَذَا بِالعَكْسِ. قالَ السَّمينُ: لَمْ يُرِدْ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ "أَخِي" عَطْفُ بَيَانٍ لِـ "هَارُونَ" حَتَّى يَقُولَ الشَّيْخُ إِنَّ الأَوَّلَ وَهُوَ "هَارُونَ" أَشْهَرُ مِنَ الثَّاني وَهُوَ "أَخِي"، إِنَّما عَنَى أَنَّهُ عَطْفُ بَيَانٍ أَيْضًا لـ {وَزيرًا} وَلِذَلِكَ قَالَ: "آخَرَ". وَلَا بُدَّ مِنَ الإِتْيَانِ بِلَفْظِهِ لِيُعْرَفَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ إِلَّا مَا ذَكَرْتُهُ، قَالَ: "وَزيرًا" و "هارُونَ" مَفْعُولَا قَوْلِهِ "اجْعَلْ"، أَوْ {لِي وَزِيرًا} مَفْعُولَاهُ، وَ "هَارُونَ" عَطْفُ بَيَانٍ للوَزيرِ، وَ "أَخْي" فِي الوَجْهَيْنِ بَدَلٌ مِنْ "هَارُونَ"، وَإِنْ جُعِلَ عَطْفَ بَيَانٍ آخَرَ جَازَ وَحَسُن. فَقَوْلُهُ "آخَرَ" تَعَيَّنَ أَنْ يَكونَ عَطْفَ بَيَانٍ لِمَا جَعَلَهُ عَنْهُ عَطْفَ بَيَانٍ قَبْلَ ذَلِكَ.
وَجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي "أَخِي" أَنْ يَرْتَفِعَ بِالابْتِداءِ، وَيَكونَ خَبَرُهُ الجُمْلَةَ مِنْ قَوْلِهِ: {اشْدُدْ بِهِ}، وَذَلِكَ عَلى قِراءَةِ الجُمْهُورِ لَهُ بِصِيغَةِ الدُّعاءِ، وَعَلَى هَذَا فَالوَقْفُ عَلَى "هَارُونَ".