قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى
(46)
قوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {قَالَ لَا تَخَافَا} أَيْ: قَالَ اللهُ تَعَالَى لموسى وهارونَ ـ عَلَيْهِمَا السَّلامُ، لَمَّا عَزَمَا عَلى التَّوَجُّهُ إلى فِرْعَوْنَ لِتَبْلِيغِهِ رِسَالَةَ رَبِّهِ، وعبَّرا عَنْ قَلَقِهِمَا قائلينِ: {رَبَّنا إِنَّنَا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عليْنا أَوْ أَنْ يَطْغَى} أَجابَهُمَا اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ، "لَا تَخَافَا" حُصُولَ أَيٍّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ، المَذْكُورَينِ في الآيَةِ الَّتي قَبْلَهَا، وَهَذا نَهْيٌ مُكَنًّى بِهِ عَنْ نَفْيِ وُقُوعِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَذَلِكَ اسْتِجَابَةً لِشَكْواهُمَا، وَتَبْديدًا لِخَوْفِهِما، وَتَطْمِينًا لِقَلْبَيْهِما.
قوْلُهُ: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الْخَوْفِ الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى النَّفِيِ، وَالْمَعِيَّةُ هنا في "مَعَكُما" هِيَ مَعِيَّةُ حِفْظٍ، أَيْ أَنَا حَافِظُكُمَا مِنْ كُلِّ مَا تَخَافَانِهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ ما يُقالُ وَأَرى ما يجري مِنَ الْأَعْمَالِ فَلَنْ أَدَعَ عَمَلًا يَنْطَوي على ما يُؤْذيكُما يَتِمُّ، أَوْ قَوْلًا تَكْرهانِهِ يُنْطَقُ بهِ. وَقد نُزِّلَ فِعْلَا "أَسْمَعُ" وَ "أَرَى" مَنْزِلَةَ الفِعْلِ اللَّازِمِ إِذْ لَا غَرَضَ لِبَيَانِ مَفْعُولِهِمَا، فَمَفْعُولُهما مَحْذوفٌ، والتَقْديرُ: أَسْمَعُ أَقْوَالَكُمَا وَأَرَى أَفْعَالَكُما، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، أَنَّ التَّقْديرَ: أَسْمَعُ جَوَابَهُ لَكُمَا وَأَرَى مَا يَفْعَلُ بِكُمَا. وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا: قَوْلُهُ: أَسْمَعُ دُعَاءَكُمَا فَأُجِيبُهُ، وَأَرَى مَا يُرَادُ بِكُمَا فَأَمْنَعُهُ. وَيجوزُ أَنْ يَكونَ هذا مِنْ حَذْفِ الاقْتِصَارِ كما هوَ في قولِهِ تَعَالَى مِنْ سُورةِ آل عِمْرانَ: {يُحْيِي وَيُمِيتُ} الآية: 156. فَالْمُرادُ: أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَى اللهِ شَيْءٌ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وفي هذا وَعْدٌ لَهُمَا بِالعَوْنِ وَالغَلَبَةِ وَالنَّصْرِ.
وَهُوَ اسْتِئْنافٌ بَيَانِيٌّ، فَكَأَنَّ سائلًا قَالَ: فَمَاذَا أُجِيبَا لمَّا تَضَرَّعا إِلى ربِّهما وعَبَّرا لهُ عنْ مَخاوِفِهِما؟ فَقِيلَ: قَالَ لهُما اللهُ تَعَالَى: لَا تَخَافَا مِنَ الأَمْرَيْنِ اللَّذَيْنِ تَوَهَّمْتُما حُصولَهُمَا، إِنَّنِي مَعَكُما بِحِفْظِي وَرِعَايَتِي، ومَعُونَتِي ونُصْرَتي، فأَنَا أَسْمَعُ وَأَرَى مَا يَجْرِي بَيْنَكُمَا وَبَيْنَهُ مِنْ قَوْلٍ وَفِعْلٍ، وسَأَفْعَلُ ما فِيهِ دَفْعُ الضُّرِ والشَّرِّ عنكُما، وما فيهِ جَلْبُ النَّفْعِ والخَيْرِ لَكُما، ثُمَّ كَرَّرَ الأَمْرَ لَهُمَا بأَنْ يَذْهَبا إِلَى فِرْعونَ بِقَوْلِهِ مِنَ الآيَةِ الَّتي ستَأْتِي بعْدَهَا: {فَأْتِياهُ ..}.
قوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ} قَالَ: فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفتحِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ جَوَازًا تقديرُهُ (هوَ) يَعُودُ عَلى اللهِ ـ تَعَالَى، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئنافًا بَيَانِيًّا لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
قَوْلُهُ: {لَا تخافا} نَاهِيَةٌ جازِمَةٌ، و "تَخَافَا" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَجْزُومٌ بِـ "لَا" النَّاهِيَةِ الجازِمَةِ، وعلامةُ جَزْمِهِ حَذْفُ النُّونِ مِنْ آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وَالَأَلِفُ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، وَالجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لِـ "قَالَ".
قوْلُهُ: {إِنَّنِي مَعَكُمَا} إِنَّنِي: إِنَّ: حرفٌ نَاصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ للتَّوْكِدِ، والنُّونُ: للوِقايَةِ، وَياءُ المُتَكَلِّمِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ اسْمُ "إنَّ". و "مَعَكُمَا" منصوبٌ على الظَّرْفِيَّةِ الاعتباريَّةِ، مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذوفِ خَبَرِ "إِنَّ"، وهو مُضافٌ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إليْهِ، والميمُ للمُذَكَّرِ والأَلِفُ للتَثْنِيَةِ، وهذِهِ الجملةُ الإسْمِيَّةُ مَسوقةٌ لتعليلِ ما قبلَها لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {أَسْمَعُ وَأَرَى} أَسْمَعُ: فِعْلٌ مُضَارِعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنَا) يَعُودُ عَلى اللهِ تَعَالَى والجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرٌ ثَانٍ لِـ "إِنَّ"، أَوْ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنَ الضَّمِيرِ المُسْتَكِنِّ فِي خَبَرِ "إِنَّ"، وَيَجُوزُ أَنْ تكونَ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ. وَ "أَرَى" مَعْطوفٌ عَلَى "أَسْمَعُ" ولهُ مِثْلُ إعرابِهِ.