واخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْمَعْنَى فِيمَنْ ذَكَرَ صَلَاةً فَائِتَةً وَهُوَ فِي آخِرِ وَقْتِ صَلَاةٍ، أَوْ ذَكَرَ صَلَاةً وَهُوَ فِي صَلَاةٍ، فَجُمْلَةُ مَذْهَبِ مَالِكٍ: أَنَّ مَنْ ذَكَرَ صَلَاةً وَقَدْ حَضَرَ وَقْتُ صَلَاةٍ أُخْرَى، بَدَأَ بِالَّتِي نَسِيَ إِذَا كَانَ خَمْسُ صَلَوَاتٍ فَأَدْنَى، وَإِنْ فَاتَ وَقْتُ هَذِهِ. وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ بَدَأَ بِالَّتِي حَضَرَ وَقْتُهَا، وَعَلَى نَحْوِ هَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَاللَّيْثِ، إِلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَصْحَابَهُ قَالُوا: التَّرْتِيبُ عِنْدَنَا وَاجِبٌ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ إِذَا كَانَ فِي الْوَقْتِ سَعَةٌ لِلْفَائِتَةِ وَلِصَلَاةِ الْوَقْتِ. فَإِنْ خَشِيَ فَوَاتَ الْوَقْتِ بَدَأَ بِهَا، فَإِنْ زَادَ عَلَى صَلَاةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لَمْ يَجِبِ التَّرْتِيبُ عِنْدَهُمْ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الثَّوْرِيِّ وُجُوبُ التَّرْتِيبِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. وَهُوَ تَحْصِيلُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: الِاخْتِيَارُ أَنْ يَبْدَأَ بِالْفَائِتَةِ مَا لَمْ يَخَفْ فَوَاتَ هَذِهِ الحاضرةَ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَبَدَأَ بِصَلَاةِ الْوَقْتِ أَجْزَأَهُ. وَذَكَرَ الْأَثْرَمُ أَنَّ التَّرْتِيبَ عِنْدَ الإمامِ أَحْمَدَ وَاجِبٌ فِي صَلَاةِ سِتِّينَ سَنَةً فَأَكْثَرُ. وَقَالَ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةً وَهُوَ ذَاكِرٌ لِمَا قَبْلَهَا لِأَنَّهَا تَفْسُدُ عَلَيْهِ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عُمَرُ بْنُ أَبِي عُمَرَ، عنْ مكحولٍ، عنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُ قَال: قَالَ رَسولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمُ: ((إِذَا ذَكَرَ أَحَدُكُمْ صَلاةً وهُوَ فِي صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ، فَلْيَبْدَأْ بِالَّتِي هُوَ فِيهَا، فَإِذَا فَرَغَ مِنْهَا صَلَّى الَّتِي نَسِيَ)). وَفي هَذَا السَنَدِ عُمَرُ بْنُ أَبِي عُمَرَ مَجْهُولٌ. وَهَذَا لَوْ صَحَّ كَانَتْ حُجَّةً لِلشَّافِعِيِّ فِي الْبَدَاءَةِ بِصَلَاةِ الْوَقْتِ. وَالصَّحِيحُ مَا رَوَاهُ أَهْلُ الصَّحِيحِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، جَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ وَاللهِ مَا كِدْتُ أَنْ أُصَلِّيَ الْعَصْرَ حَتَّى كَادَتِ الشَّمْسُ تَغْرُبُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فَوَاللهِ إِنْ صَلَّيْتُهَا))، فَنَزَلْنَا الْبُطْحَانَ (أَو البَطِحَانَ)، فَتَوَضَّأَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَوَضَّأْنَا فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الْعَصْرَ بَعْدَ مَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى بَعْدَهَا الْمَغْرِبَ. فـ "إِنْ" هنا نافيةٌ، أَيْ: فوالله ما صَلَّيْتُها، وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَدَاءَةِ بِالْفَائِتَةِ قَبْلَ الْحَاضِرَةِ، وَلَا سِيَّمَا وَالْمَغْرِبُ وَقْتُهَا وَاحِدٌ مُضَيَّقٌ غَيْرُ مُمْتَدٍّ ـ فِي الْأَشْهَرِ، عِنْدَ المالكيَّةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قالَ: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ شَغَلُوا رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ: يَوْمَ الْخَنْدَقِ، حَتَّى ذَهَبَ مِنَ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللهُ تَعَالَى، فَأَمَرَ بِالْأَذَانِ بِلَالًا فَقَامَ فَأَذَّنَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعِشَاءَ. وَبِهَذَا اسْتَدَلَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ فَاتَتْهُ صَلَواتٌ، قَضَاهَا مُرَتَّبَةً كَمَا فَاتَتْهُ، إِذَا ذَكَرَهَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ. وَاخْتَلَفُ الفقهاءُ أَيضًا فيما إِذَا ذَكَرَ فَائِتَةً فِي مُضَيَّقِ وَقْتِ حَاضِرَةٍ، فهم عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
الأَوَّلُ: أَنْ يَبْدَأَ بِالْفَائِتَةِ وَإِنْ خَرَجَ وَقْتَ الْحَاضِرَةِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَغَيْرُهُمْ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ.
الثَّانِي: أَنْ يَبْدَأَ بِالْحَاضِرَةِ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ البَصْريُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَفُقَهَاءُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَالْمُحَاسِبِيُّ، وَابْنُ وَهْبٍ.
الثَّالِثُ: يَتَخَيَّرُ فَيُقَدِّمُ أَيَّتَهُمَا شَاءَ، وَبِهِ قَالَ أَشْهَبُ.
ووَجْهُ الْأَوَّلِ: كَثْرَةُ الصَّلَوَاتِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يَبْدَأُ بِالْحَاضِرَةِ مَعَ الْكَثْرَةِ، وهو ما قَالَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ.
وَاخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ الْيَسِيرِ، فَعَنْ مَالِكٍ: الْخَمْسُ فَدُونَ، وَقَدْ قِيلَ: الْأَرْبَعُ فَدُونَ لِحَدِيثِ جَابِرٍ، وَلَمْ يَخْتَلِفِ الْمَذْهَبُ أَنَّ السِّتَّ كَثِيرٌ. وَأَمَّا مَنْ ذَكَرَ صَلَاةً وَهُوَ فِي صَلَاةٍ، فَإِنْ كَانَ وَرَاءَ الْإِمَامِ فَكُلُّ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ التَّرْتِيبِ وَمَنْ لَمْ يَقُلْ بِهِ يقول، يَتَمَادَى مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يُكْمِلَ صَلَاتَهُ. وَالْأَصْلُ فِي هَذَا مَا رَوَاهُ مَالِكٌ وَالدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، قَالَ: ((إِذَا نَسِيَ أَحَدُكُمْ صَلَاةً، فَلَمْ يَذْكُرْهَا إِلَّا وَهُوَ مَعَ الْإِمَامِ، فَلْيُصَلِّ مَعَ الْإِمَامِ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ، فَلْيُصَلِّ الصَّلَاةَ الَّتِي نَسِيَ، ثُمَّ لِيُعِدْ صَلَاتَهُ الَّتِي صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ) واللَفْظُ للدَّارَقُطْنِيِّ، وَقَالَ مُوسَى بْنُ هَرونَ: وَحَدَّثَنَاهُ أَبُو إِبْرَاهِيمَ التَّرْجُمَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ بِهِ، وَرَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوَهِمَ فِي رَفْعِهِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ رَجَعَ عَنْ رَفْعِهِ فَقَدْ وُفِّقَ لِلصَّوَابِ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: يُصَلِّي الَّتِي ذَكَرَ، ثُمَّ يُصَلِّي الَّتِي صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا أَكْثَرُ مِنْ خَمْسِ صَلَوَاتٍ، عَلَى مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ عَنِ الْكُوفِيِّينَ. وَهُوَ مَذْهَبُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ المَدَنِيِّينَ. وَذَكَرَ الخُرَقِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، أَنَّهُ قَالَ: مَنْ ذَكَرَ صَلَاةً وَهُوَ فِي أُخْرَى، فَإِنَّهُ يُتِمُّهَا، وَيَقْضِي الْمَذْكُورَةَ، وَأَعَادَ الَّتِي كَانَ فِيهَا إِذَا كَانَ الْوَقْتُ وَاسِعًا، فَإِنْ خَشِيَ خُرُوجَ الْوَقْتِ وَهُوَ فِيهَا، أَعْتَقِدُ أَلَّا يُعِيدَهَا، وَقَدْ أَجْزَأَتْهُ، وَيَقْضِي الَّتِي عَلَيْهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: مَنْ ذَكَرَ صَلَاةً وَهُوَ فِي صَلَاةٍ قَدْ صَلَّى مِنْهَا رَكْعَتَيْنِ، سَلَّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ، فَإِنْ كَانَ إِمَامًا انْهَدَمَتْ عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ خَلْفَهُ، وَبَطَلَتْ. هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَلَيْسَ عِنْدَ أَهْلِ النَّظَرِ مِنْ أَصْحَابِهِ كَذَلِكَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ فِيمَنْ ذَكَرَ صَلَاةً فِي صَلَاةٍ قَدْ صَلَّى مِنْهَا رَكْعَةً أَنَّهُ يُضِيفُ إِلَيْهَا أُخْرَى وَيُسَلِّمُ. وَلَوْ ذَكَرَهَا فِي صَلَاةٍ قَدْ صَلَّى مِنْهَا ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ أَضَافَ إِلَيْهَا رَابِعَةً وَسَلَّمَ، وَصَارَتْ نَافِلَةً غَيْرَ فَاسِدَةٍ، وَلَوِ انْهَدَمَتْ عَلَيْهِ كَمَا ذَكَرَ، وَبَطَلَتْ لَمْ يُؤْمَرْ أَنْ يُضِيفَ إِلَيْهَا أُخْرَى، كَمَا لَوْ أَحْدَثَ بَعْدَ رَكْعَةٍ لَمْ يُضِفْ إِلَيْهَا أُخْرَى.
رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذُكِرَ حَدِيثَ الْمِيضَأَةِ بِطُولِهِ، وَقَالَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: ((أَمَا لَكُمْ فِيَّ أُسْوَةٌ)) ثُمَّ قَالَ: ((أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ فِي النَّوْمِ تَفْرِيطٌ، إِنَّمَا التَّفْرِيطُ عَلَى مَنْ لَمْ يُصَلِّ الصَّلاةَ حَتَّى يَجِيءَ وَقْتُ الصَّلَاةِ الْأُخْرَى، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَلْيُصَلِّهَا حِينَ يَنْتَبِهُ لَهَا، فَإِذَا كَانَ الْغَدُ فَلْيُصَلِّهَا عِنْدَ وَقْتِهَا)). وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ هَكَذَا بِلَفْظِ مُسْلِمٍ سَوَاءٌ، فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي إِعَادَةَ الْمَقْضِيَّةِ مَرَّتَيْنِ عِنْدَ ذِكْرِهَا، وَحُضُورِ مِثْلِهَا مِنَ الْوَقْتِ الْآتِي، وَيُعَضِّدُ هَذا الظاهِرَ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، وَقد ذَكَرَ الْقِصَّةَ، وَقَالَ فِي آخِرِهَا: ((فَمَنْ أَدْرَكَ مِنْكُمْ صَلَاةَ الْغَدَاةِ مِنْ غَدٍ صَالِحًا فَلْيَقْضِ مَعَهَا مِثْلَهَا)). وَهَذَا لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَلَا تُعَادُ غَيْرَ مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ، لِمَا رَوَاهُ الدارقطني عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: سَرَيْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي غَزَاةٍ ـ أَوْ قَالَ فِي سَرِيَّةٍ، فَلَمَّا كَانَ وَقْتُ السَّحَرِ عَرَّسْنَا، فَمَا اسْتَيْقَظْنَا حَتَّى أَيْقَظَنَا حَرُّ الشَّمْسِ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ مِنَّا يَثِبُ فَزِعًا دَهِشًا، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمْرَنَا فَارْتَحَلْنَا، ثُمَّ سِرْنَا حَتَّى ارْتَفَعَتِ الشَّمْسُ، فَقَضَى الْقَوْمُ حَوَائِجَهُمْ، ثُمَّ أَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ فَصَلَّيْنَا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ فَصَلَّيْنَا الْغَدَاةَ، فَقُلْنَا: يَا نَبِيَّ اللهِ أَلَا نَقْضِيهَا لِوَقْتِهَا مِنَ الْغَدِ؟ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَيَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الرِّبَا وَيَقْبَلُهُ مِنْكُمْ). وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِهَذَا وُجُوبًا، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِهِ اسْتِحْبَابًا لِيُحْرِزَ فَضِيلَةَ الْوَقْتِ فِي الْقَضَاءِ. وَالصَّحِيحُ تَرْكُ الْعَمَلِ، لِقَوْلِهِ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلَامُ: ((أَيَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الرِّبَا وَيَقْبَلُهُ مِنْكُمْ)). وَلِأَنَّ الطُّرُقَ الصِّحَاحَ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ لَيْسَ فِيهَا مِنْ تِلْكَ الزِّيَادَةِ شيْءٌ، إِلَّا مَا ذُكِرَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ وَهُوَ مُحْتَمَلٌ كَمَا بَيَّنَّاهُ. وذَكَرَ الْكِيَا الطَّبَرِيُّ فِي (أَحْكَامِ الْقُرْآنِ) لَهُ، أَنَّ مِنَ السَّلَفِ مَنْ خَالَفَ قَوْلَهُ ـ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ((مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا لَا كَفَّارَةَ لَهَا إِلَّا ذَلِكَ)). فَقَالَ: يَصْبِرُ إِلَى مِثْلِ وَقْتِهِ فَلْيُصَلِّ، فَإِذَا فَاتَ الصُّبْحُ فَلْيُصَلِّ مِنَ الْغَدِ. وَهَذَا قَوْلٌ بَعِيدٌ شَاذٌّ. تَفْسيرُ القُرْطُبِيِّ (الجامعُ لأحكامِ القرآنِ: (11/177 ـ 182).
قولُهُ تَعَالى: {إِنَّنِي أَنَا اللهُ} إِنَّني: "إنَّ" حَرْفٌ نَاصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ، للتوكيدِ، والنون للوقايَةِ، وياءُ المُتَكَلِّمِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ، اسْمُ "إنَّ". و "أَنَا" ضَميرٌ مُنْفَصِلٌ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالابتداءِ، ويجوزُ اعتبارُهُ زائدًا لا محلَّ لهُ مِنَ الإعرابِ جيءَ بِهِ تأْكيدً للضَّمِيرِ المَنْصُوبِ (ياءِ المُتَكَلِّم)، لفظُ الجلالةِ "اللهُ" خَبَرُ "إِنَّ" مرفوعٌ بها، أَوْ خَبَرُ "أَنَا" والجُمْلَةُ خَبَرُ "إِنَّ"، وَجُمْلَةُ "إِنَّ" فِي مَحَلِّ الجَرِّ بَدَلًا مِنْ {مَا} فِي قَوْلِهِ مِنَ الجملةِ التي قبلَها: {لِمَا يُوحَى}.
قوُلُهُ: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} لَا: نَافِيَةٌ للجِنْسِ تعمَلُ عملَ "إِنَّ". وَ "إِلَهَ" اسْمُهَا فِي مَحَلِّ النَّصْبِ، وَخَبَرُ "لَا" مَحْذوفٌ تَقْديرُهُ: مَوْجُودٌ. و "إِلَّا" أَدَاةُ اسْتِثْناءٍ مُفَرَّغٍ (أَداةُ حَصْرٍ). و "أَنَا" بَدَلٌ مِنَ الضَميرِ المُسْتَتِرِ فِي خَبَرِ "لَا" المُقدَّرِ، وَجُمْلَةُ "لَا" فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرٌ ثانٍ لِـ "إِنَّ".
قوُلُهُ: {فَاعْبُدْنِي} الفاءُ: هيَ الفَصيحَةُ، أَفْصَحَتْ عَنْ جَوَابِ شَرْطٍ تَقْديرُهُ: إِذَا عَرَفْتَ أَنَّنِي أَنَا اللهُ، لِا إِلَهَ إِلَّا أَنَا، وَأَرَدْتَ أَنْ تعرِفَ مَا هُوَ الواجِبُ عَليكَ، فَأَقولُ لَكَ: "اعْبُدْنِي". و "اعْبُدْني" فِعْلُ أَمْرٍ مبنيٌّ عَلَى السُّكونِ، وَفاعِلُهُ ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أنت) يعودُ على سيدِنا موسى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، والنُّونُ للوِقايَةِ، وياءُ المتكلِّمِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ على المَفْعُوليَّةِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولٌ لِجَوابِ "إِذَا" المُقَدَّرَةِ، وَجُمْلَةُ "إِذَا" المُقَدَّرِةِ في محلِّ الرَّفعِ، نائِبُ فَاعِلٍ للقَوْلِ المَحذوفِ، المَذكورِ سَابِقًا
قوُلُهُ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} الوَاوُ: للعطْفِ، و "أَقِمِ" فعلُ أمْرٍ مبنيٌّ على السُّكونِ، وحُرِّكَ بالكَسْرِ لالْتِقاءِ السَّاكنَيْنِ، وَفاعِلُهُ ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنْتَ) يَعودُ على سيدِنا موسى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، و "الصَّلَاةَ" مَفْعُولُهُ منصوبٌ بِهِ. و "لِذِكْرِي" اللامُ: حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَقِمْ"، و "ذِكْرِي" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ، وعلامةُ جَرِّهِ الكَسْرَةُ، وهوَ مُضافٌ، وَهُوَ مَصْدَرٌ مُضَافٌ للمَفْعُولِ؛ أَيْ: لِتَذْكُرَنِي فِيهَا، أَوْ هوَ مُضافٌ للفاعِلِ، أَيْ: لِذِكْرِي إِيَّاكَ، وَياءِ المُتَكَلِّمِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، والجملةُ الفِعليَّةُ هَذِهِ في محلِّ النَّصْبِ بالقولِ عَطْفًا عَلَى جملةِ قولِهِ "فَاعْبُدْنِي".
قرأَ الجُمْهُورُ: {لِذِكْري}، وَقَرَأَ أَبو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، وَأَبُو رَجَاءِ بْنُ حَيَوَةَ، "لِلذِّكْرَى" بِلَامِ التَعْريفِ وَأَلِفِ التَأْنِيثِ. وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ "لِذِكْرَى" نَكِرَةً، وبَعْضُهُمْ قَرَأَ "للذِّكْرِ" بَالتَعْريفِ وَالتَّذْكِيرِ.