قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى
(51)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} القُرونُ: جَمْعُ "قَرْنٍ"، وَلَا يُجْمَعُ جَمْعَ تَكْسيرٍ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ. والقَرْنُ ثمانونَ سَنَةً، وقيلَ: ثلاثونَ، والمُرادُ بِـ "القُرُونِ" هُنَا أَهلُها، وَعَلَيْهِ قَولُ الشَّاعِرِ:
تِلْكَ القُرونُ وَرِثْنَا الأَرْضَ بَعْدَهُمُ ............ فَمَا يُحَسُّ عَلَيْهَا مِنْهُمُ أَرِمُ
وَقَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبي الصَّلتِ:
تَرَى فيهِ أَنْباءَ القُرونِ التي مَضَتْ ....... وأَخْبارَ غَيْبٍ في القيامَةِ تُنْجِدُ
وَقالَ رُؤْبَةُ بْنُ العَجَّاجِ يَصِفُ الدَّهْرَ:
أَفْنى القُرونَ وَهُوَ بِاقي زَنَمَهْ ............. بذاك بادت عادُهُ وإرَمُهْ
زَنَمُهُ: علامتُهُ. فَالقَرْنُ الوَقْتُ لِأَنَّهُ يَقْرِنُ أُمَّةً بِأُمَّةٍ. وَيُقالُ فُلانٌ قَرْنُ فلانٍ: إِذا كانَ في سِنِّهِ. وَتَقُول: هُوَ عَلَى قَرْني، أَيْ: عَلَى سِنِّي. وَالقَرْنُ مِنَ النَّاسِ: هُمْ أَهْلُ الزَمَانِ الوَاحِدٍ. قالَ الشاعِرُ أبو محمَّدٍ التَّيْمِيُّ:
إذا ذهب القَرْنُ الذي أنت فيهم ........ وخُلِّفْتَ في قَرْنِ فأنت غريبُ
والقَرَنُ مَصْدَرٌ، وَ "القَرْنُ" للثَوْرِ وَغَيْرِهِ، وَمَوْضِعُهُ مِنْ الرأْسِ، وكَبْشٌ أَقْرَنُ كَبيرُ القَرْنَينِ، وبَيِّنُ القَرَنِ، وَالرُّمْحُ المَقْرُونُ، ما كانَ سِنَانُهُ مِنْ قَرْنٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ رُبَّمَا جَعَلُوا أَحيانًا مِنْ قُرُونِ الظِّبَاءِ وَالبَقَرِ الوَحْشِيِّ أَسِنَّةَ رِمَاحِهِمْ، قالَ الشَّاعِرُ مِنَ البَحْرِ المُنْسَرِحِ:
ورامِحٍ قد رَفَعْتُ هادِيَهُ ..................... من فوقِ رُمْحٍ فظَلَّ مَقْرُونَا
وقالَ آخَرُ:
إِذا أَنْتَ ناوَأْتَ الرِّجالَ فَلَمْ تَنُؤْ ......... بِقَرْنَيْنِ غَرَّتْكَ القُرونُ الكَوامِلُ
ولا يَسْتَوِي قَرْنُ النِّطاحِ الذي به ..,,,,,,,,. تَنُوءُ وقَرْنٌ كُلَّما نُؤْتَ مائِل
وَقَالَ الكُمَيْتُ الأَسَدِيُّ:
وكنَّا إذا جَبَّارُ قومٍ أَرادَنَا ................. بكَيْدٍ حَمَلْناه على قَرْنِ أَعْفَرا
قَوْلُهُ: "حَمَلْناه عَلَى قَرْنِ" أَيْ: قَتَلْناهُ وحَمَلْنا رأْسَهُ عَلَى سِنَانِ الرُّمْحِ، وقالَ: "على قَرْنِ أَعْفَرا" لِمَا أَنَّهُمْ كانوا يجعلونَ سنانَ الرُّمحِ مِنْ قَرْنِ غزالٍ أَعْفَر، أي: أبيضٍ تَعْلو بَيَاضَهُ حُمْرَةٌ، وَقِيلَ الأَعْفَرُ هو الذي في سَراتِه حُمْرةٌ وأَقرابُهُ بِيضٌ، وَالقَرْنُ الأَعْفَرُ الداهِيَةُ، يُقَالُ: رَمَانِي عَنْ قَرْنٍ أَعْفَرَ: أَي رَمَانِي بِدَاهِيَةٍ دهياءَ، وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ أَحَمَرَ:
أَلَا قَلَّ خَيْرُ الدَّهْرِ كَيْفَ تَغَيَّرا ...... وأَصْبَحَ يَرْمِي الناسَ عَنْ قَرْنِ أَعْفَرا
صَارَ ذَلِكَ مَثَلًا عِنْدَهُمْ فِي الشِّدَّةِ تَنْزِلُ بِهِمْ، لأَنَّهم كانُوا يَتَّخِذونَ القُرونَ مَكانَ الأَسِنَّةِ، وَيُقالُ لِلرَّجُلِ إِذا بَاتَ لَيْلَتَهُ فِي شِدَّةٍ تُقْلِقُهُ: كُنْتُ عَلَى قَرْنٍ أَعْفَرَ. وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ القَيْسِ:
وَلَا مِثْلَ يَوْمٍ في قُذَارانَ ظِلْتُهُ .......... كَأَني وأَصْحابي عَلَى قَرْنِ أَعْفَرا
أَيْ: كَأَنِّي وأَصْحابي عَلَى قَرْنِ ظَبْيٍ أَعْفَرٍ، أَرَادَ أَنْ يَقُولَ أَنَّهُمْ في قلَقٍ واضطِّرابٍ.
وَيَكونُ "القَرْنُ" للإنْسانِ أَيْضًا، وَيُقْصَدُ بِهِ ذُؤابَةُ شَعْرِهِ، وَفِي حَديثِ الصَّحابيَةِ قَيْلَةَ بِنْتِ مَخْرَمَةَ العنبريَّةَ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا، الذي تَرْوِي فِيهِ قِصَّةَ إِسْلامِهَا، حِينَ وَفدَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتَعَقُّبِ أَخِي زَوْجِهَا المَيِّتِ لَهَا، والحديثُ طويلٌ وفيهِ: (فَأَدْرَكَنِي بِالسَّيْفِ، فأَصَابَتْ ظُبَتُهُ طائفَةً مِنْ قُرُونِ رأْسِيَهْ). أَيْ: بَعْضَ نَواحِي رَأْسِي. الغُنْيَةُ فِي شُيُوخِ القاضِي عِياضٍ: (ص: 110). وَقَدْ خُصَّتْ بِهذِهِ التَسْميَةِ ذُؤَابَةُ المَرْأَةِ وَضَفِيرَتُهَا وَالخُصْلَةُ مِنَ الشَعْرِ، فَقَالُوا: أُنْثَى قَرْنَاءُ، وقالوا: للمَرْأَةِ قَرْنانِ، أَيْ: ضَفيرتانِ. قَالَ لَقِيطُ بْنُ زُرارَةَ:
يَا لَيْتَ شِعْري اليَوْمَ دَخْتَنُوسُ ................ إِذا أَتاها الخَبَرُ المَرْمُوسُ
أَتَحْلِقُ القُرُونَ أَم تَمِيسُ؟ ..................... لَا بَلْ تَمِيسُ إِنَّها عَرُوسُ
وَقالَ الرَّاعِي النُّمَيْرِيُّ:
تَضُمُّ عَلى مَضْمُونَةٍ فارِسيَّةٍ .......... ضَفَائِرَ لا ضَاحِي القُرُونِ وَلَا جَعْدِ
وتُضْحي وما ضَمَّتْ فُضُولَ ثِيابِها ........... إِلَى كَتِفَيْها بائْتِزَارٍ وَلَا عَقْدِ
كأَنَّ الخُزَامَى خالَطَتْ في ثِيابِهَا ..... جَنِيًّا مِنَ الرَّيْحانِ أَو قُضُبِ الرَّنْدِ
وَالقَرنُ أَيضًا: حَلْبَةٌ مِنْ عَرَقٍ، والجَمْعُ: القُرُونُ. وَأَنْشَدَ الأَصْمَعِيُّ عَلَى ذَلِكَ بَيْتَ زُهيرِ بْنِ أَبي سُلْمَى:
تُضَمَّرُ بالأَصَائِلِ كُلِّ يَوْمٍ ................... تُسَنُّ عَلَى سَنَابِكِهَا القُرونُ
يُقَالُ: حَلَبْنَا الفَرَسَ قَرْنًا أَوْ قَرْنَيْنِ. أَيْ: عَرَّقْنَاهُ. وَالقَرْنُ: جُبَيلٌ صَغيرٌ مُنْفَرِدٌ أَيضًا. وَحَيَّةٌ قَرْناءُ لَهَا لُحْمَتانِ فِي رأْسِهَا كَأَنَّهُما قَرْنانِ.
إذًا فَقَدْ سَأَلَ فِرْعَوْنُ مُوسَى عَنِ الأُممِ المَاضِيةِ، مَا حَالُهَا؟ وَمَا مَآلُها؟ فَإِنَّها لَمْ تُقِرَّ بِاللهِ وَبِمَا تَدْعُو إِلَيْهِ، وَلَكِنَّهَا عَبَدَتِ الأَوْثان. وَيَعني بالقُرونِ الأُولى: الأُمَمَ المُتَقَدِّمَةَ ك: قَوْمِ نُوحٍ، وَعَادٍ، وَثَمُودَ، وغيرِهِم. قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما: يُريدُ مَا حَالُ القُرُونِ الَّتي مَضَتْ. وَمْعْنَى البَالِ هُنَا: الحَالُ والشَّأْنُ. فإنَّهُ لَمَّا أَجَابَهُ مُوسَى عنْ سُؤالِهِ الأَوَّل بِجَوَابٍ مُسْكِتٍ، وَلَمْ يَقْدِرْ فِرْعَوْنُ عَلَى مُعَارَضَتِهِ فِيهِ، انْتَقَلَ إِلَى سُؤَالٍ آخَرَ، وَهُوَ مَا حَالُ مَنْ هَلَكَ مِنَ الْقُرُونِ الماضيةِ؟، وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ وَالْحَيْدَةِ، وَالْمُغَالَطَةِ، والرَّوَغَانِ عَنِ الِاعْتِرَافِ بِمَا قَالَ مُوسَى وَمَا أَجَابَهُ بِهِ.
وَقِيلَ: سَأَلَهُ عَنْ أَخْبَارِ الأُممِ البائدةِ وَأَحَادِيثِهَا لِيَخْتَبِرَ أَهُوَ نبيٌّ حقًا أَمْ هُو مِنْ جُمْلَةِ الْقُصَّاصِ الَّذِينَ دَارَسُوا قِصَصَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ. وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، عِلْمٌ بِالتَّوْرَاةِ بعدُ فإنَّها إِنَّمَا أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ بَعْدَ هَلَاكِ فِرْعَوْنَ. وَقِيلَ: مُرَادُهُ مِنَ السُّؤَالِ عَنْهَا لِمَ عَبَدْتَ الْأَصْنَامَ وَلَمْ تَعْبُدِ اللهَ إِنْ كَانَ الْحَقُّ مَا وَصَفْتَ؟ وَقِيلَ: مُرَادُهُ مَا لَهَا لَا تَبْعَثُ وَلَا تُحَاسِبُ وَلَا تُجَازِي فَقَالَ ـ عليْهِ السَّلامُ: {عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي} الآيةَ: 52، التاليةَ، فَأَجَابَهُ بِأَنَّ هَذَا سُؤَالٌ عَنِ الْغَيْبِ، وَقَدِ اسْتَأْثَرَ اللهُ بِهِ، فلَا يَعْلَمُهُ إِلَّا هُوَ.
وَقَالَ النَّقَّاشُ: إِنَّمَا سَأَلَ لَمَّا سَمِعَ وَعْظَ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ: {يَا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ} الْآيَةَ: مِنْ سورةِ غافرٍ، فَرَدَّ موسَى عِلْمَ ذَلِكَ إِلَى اللهِ تَعَالى لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ التَّوْرَاةُ بَعْدُ.
وَقِيلَ لَمَّا قَالَ إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى قَالَ فِرْعَوْنُ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى فَإِنَّهَا كَذَّبَتْ ثُمَّ إِنَّهُمْ مَا عُذِّبُوا.
وَقِيلَ: لَمَّا قَرَّرَ أَمْرَ الْمَبْدَأِ وَالدَّلَالَةِ الْقَاطِعَةِ عَلَى إِثْبَاتِ الصَّانِعِ، قَالَ فِرْعَوْنُ: "فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى"، أَيْ: إِنْ كَانَ مَا ذَكَرْتَ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى نَسَوْهُ وَتَرَكُوهُ، فَلَوْ كَانَتِ الدَّلَالَةُ وَاضِحَةً وَجَبَ عَلَى الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ أَنْ لَا يَكُونُوا غَافِلِينَ عَنْهَا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ نَازَعَهُ فِرْعَوْنُ فِي إِحَاطَةِ اللهِ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَتَبَيُّنِهِ لِكُلِّ مَعْلُومٍ فَتَعَنَّتَ وَقَالَ: مَا تَقُولُ فِي سَوَالِفِ الْقُرُونِ وَتَمَادِي كَثْرَتِهِمْ وَتَبَاعُدِ أَطْرَافِ عَدَدِهِمْ، كَيْفَ أَحَاطَ بِهِمْ وَبِأَجْزَائِهِمْ وَجَوَاهِرِهِمْ، فَأَجَابَ بِأَنَّ كُلَّ كَائِنٍ مُحِيطٌ بِهِ عِلْمُهُ ـ سُبْحانَهُ، وَهُوَ مُثْبَتٌ عِنْدَهُ ـ تَعَالى، فِي كِتابٍ، وَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ كَمَا يَجُوزُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الْعَبْدُ الذَّلِيلُ وَالْبَشَرُ الضَّئِيلُ، أَيْ لَا يَضِلُّ كَمَا تَضِلُّ أَنْتَ وَلا يَنْسَى كَمَا تَنْسَى يَا مُدَّعِي الرُّبُوبِيَّةِ بِالْجَهْلِ وَالْوَقَاحَةِ.
فقد أَرَادَ فِرْعَوْنُ أَنْ يُحَاجَّ مُوسَى ـ عليْهِ السَّلامُ، بِمَا حَصَلَ لِلْقُرُونِ الْبائدَةِ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى مِلَّةِ فِرْعَوْنَ، أَيْ قُرُونِ أَهْلِ مِصْرَ، أَيْ مَا حَالُهُمْ، أَفَتَزْعُمُ أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى ضَلَالَةٍ. وَهَذا شَأْنُ مَنْ لَا يَجِدْ حُجَّةً فَإِنَّهُ يَعْمِدُ إِلَى الشَّغَبِ بِاسْتِبْعَادِ كَلَامِ خَصْمِهِ، وَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فِي الْآيَةِ: 78، مِنْ سورةِ يونُسَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: {قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا}.
وَيَجُوزُ أَنَّهُ أَرَادَ التَّغِييبَ عَلَى مُوسَى حِينَ غَلَبَتْ حُجَّتُهُ فَنقَلَهُ لِلْحَدِيثِ عَنْ حَالِ الْقُرُونِ الْأُولَى: هَلْ هُمْ فِي عَذَابٍ، وْذلِك لَمَّا قالَ مُوسَى: {أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} الآية: 48، السابقة، فَإِذَا قَالَ: إِنَّهُمْ فِي عَذَابٍ، ثَارَتْ ثَائِرَةُ أَبْنَائِهِمْ فَصَارُوا أَعْدَاءً لِمُوسَى، وَإِذَا قَالَ: هُمْ فِي سَلَامٍ، غَلَبَتْ حُجَّةُ فِرْعَوْنَ، لِأَنَّهُ عَلَى دِينِهِمْ، وَلِأَنَّ مُوسَى لَمَّا أَعْلَمَهُ بِرَبِّهِ، وَكَانَ هَذَا مُشْعِرًا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ، خَطَرَ بِبَالِ فِرْعَوْنَ أَنْ يَسْأَلَهُ عَنِ الِاعْتِقَادِ فِي مَصِيرِ النَّاسِ بَعْدَ الْفَنَاءِ، فَسَأَلَ: مَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى؟ مَا شَأْنُهُمْ وَمَا الْخَبَرُ عَنْهُمْ؟ وَهُوَ سُؤَالُ مُشاغبةٍ وتَعْجِيزٍ.
وَالْبَالُ: كَلِمَةٌ دَقِيقَةُ متشعِّبةُ الْمَعْنَى، وتُطْلَقُ عَلَى الْحَالِ الْمُهِمِّ، فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى" يَقُول: فَمَا حَالُ الْقُرُونِ الأُولَى. وَقَالَ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ محمَّدٍ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ} الآيةَ: 2، أَيْ أَصْلَحَ حالَهُمْ.
وَالبالُ أَيْضًا: الشَّأْنُ وَالأَهَمِيَّةُ، فقد جاءَ فِي الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ الشَّريفِ: ((كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِحَمْدِ اللهِ فَهُوَ أَقْطَع)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حديثِ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ. وهوَ حديثٌ حسَنٌ وَلَهُ رواياتٌ وإطْرافٌ. وَيُقَالُ لِلْحَالِ المُكْتَرَثِ بِهَا.
وَيُطْلَقُ البالُ أَيْضًا عَلَى الرَّأْيِ، تَقولُ: خَطَرَ بِبَالِيَ كَذَا. وَيُقُالُ: مَا أَلْقَى لَهُ بَالًا، أَيْ لمْ يُبْدِ اهتمامًا بِهِ، وَإِيثَارُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ هُنَا مِنْ دَقِيقِ الْخَصَائِصِ الْبَلَاغِيَّةِ الَّتي هِيَ مِنْ خَصَائصِ هَذَا الكِتَابِ الكَريمِ.
وَالْبالُ أَيْضًا: الفِكْرُ، ومِنْهُ قوْلُهُم: لا شَغَلَ اللهُ لكَ بالًا، أَيْ فكْرًا. قالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُ:
ما يَقْسِمُ اللهُ أَقْبَلْ غَيْرَ مُبْتَئِسٍ ............. مِنْهُ وَأَقْعُدْ كَرِيمًا نَاعِمَ البَالِ
وَلَا يُثَنَّى هَذَا اللَّفظُ، وَلَا يُجْمَعُ، وَقَدْ أَبْعَدَ مَنْ جَمْعَهُ جَمْعًا شَاذًّا عَلَى "بالاتٍ".
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قالَ} قَالَ: فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ، وفاعِلُهُ مُسْتترٌ فيهِ جَوَازًا تقديرُهُ (هو) يعودُ على فرعونَ. والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قوْلُهُ: {فَمَا بالُ القُرونِ الأُولى} فَمَا: الفاءُ: هِيَ الفَصِيحَةُ، أَفْصَحَتْ عَنْ جَوابِ شَرْطٍ تَقديرُهُ: إِذَا قُلْتُما إِنَّكُمَا رَسُولا رَبِّكُما، فَأَقُولُ لَكُمَا: "مَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى"؟، و "مَا" اسْمُ اسْتِفْهَامٍ للتَّعْجيزِ، مبنِيٌّ على السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابْتِداءِ. و "بَالُ" خَبَرُهُ مرفوعٌ، وهو مُضافٌ. و "الْقُرُونِ" مَجرورٌ بالإضافَةِ إِلَيْهِ. و "الْأُولَى" صِفَةُ "الْقُرُونِ" مجرورةٌ مِثْلُها، وعلامةُ الجَرِّ مقدَّرةٌ على آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظُهُورِهَا على الأَلِفِ. وهذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ فِي مَحَلِّ الجَزْمِ على كونِها جَوابَ "إِذَا" المُقَدَّرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَجُمْلَةُ: "إِذَا" المُقَدَّرَةِ، فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ "قَالَ".