قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى} ناداهُ ربُّهُ ـ سُبحانَهُ وَتَعَالَى، باسْمِهِ مَرةً أُخرَى مُؤانَسَةً لَهُ وتَكْريمًا، وتطمينًا لِقَلْبِهِ وتثبيتًا لَهُ، وَأَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى أَنْ يُلْقي عَصاهُ مِنْ يَدِهِ عَلَى الأَرْضِ، تِلْكَ العَصَا التي سَأَلَهُ عَنْهَا مِنْ قَبْلُ ليُريَهُ ما سَيَخلُقُ في هَذِهِ العصا الخَشَبِيَّةِ المَيِّتَةِ اليابِسَةِ مِنْ مُعجزاتٍ، سيكونُ لها أمْرٌ عظيمٌ في تَأْيِيدِهِ عندما يُرسِلُهُ إلى فرعونَ وقومِهِ برسالةٍ عظيمةِ الشَّأْنِ يهدي اللهُ بها مَنْ شاءَ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ (يَعْقوبَ ـ عليْهِ السَّلامُ) وَيُنْقِذهم مِنْ فِرعونَ وقومِهِ، ويُخَلِّصُهُم مِنْ ظُلْمِهِمْ وَجَوْرِهم، ويَرْحَلُ بِهِم إِلَى الأَرضِ المُقدَّسَةِ التي باركَ اللهُ بِهَا، أَرْضِ فِلَسْطِينَ التي كانَ أَبوهم يَعْقُوبُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، قدْ غادَرها معَ أبنائهِ لِيُقِيمُوا في مِصْرَ ضيوفًا عَلى ابنِهِ يوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَلامُ، الذي غدا عزيزَ مِصْرَ بعدَ أنْ حاولَ إِخْوَتُهُ التخلُّصَ منْهُ فألقوهُ في الجُبِّ.
وَهَذَا خِطَابٌ آخَرُ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَحَديثٌ مَعَ سيِّدِنا مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، حَظِيَ بِهِ دُونَ وَاسِطَةِ مَلَكٍ كريمِ. فَقيلَ بأَنَّه لَمْ يَحْصُلْ مِثْلِ ذَلِكَ لِسَيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ سَيِّدُنَا مُوسَى أَفْضَلَ مِنْ سيِّنا مُحَمَّدٍ، وأَرفعَ مِنْهُ مَقَامًا عِنْدَ ربِّهِ. وَالْجَوَابُ عَلَى هذا الإشكالِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ كَمَا خَاطَبَ سيِّدَنا مُوسَى رَبُّهُ هَكَذَا كَفَاحًا، فَقَدْ خَاطَبَ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلَامُ، كفاحًا دونما حجابٍ ولا واسطةِ مَلَكٍ كريم، إذْ قَالَ في سُورَةِ النَّجْمِ مِنْ قرآنِهِ العَظيمِ: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} الآيَةَ: 10، إِلَّا أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ خطابِ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَفْشَاهُ اللهُ إِلَى الْخَلْقِ، وَالَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ خطابِه لسيدِنا مُحَمَّدٍ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَلامُ، بَقِيَ سِرًّا بَيْنَهُمَا لَمْ يَسْتَأْهِلْ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ أَنْ يَطَّلِعَ عَلى مَضْمُونِهِ وَفَحْواهُ، أَوْ يَعْرِفَ كُنْهَهُ وَمَعْنَاهُ، وَهَذَا مَقَامٌ أعلى وَأَرْفَعُ.
الثَّانِي: إِنْ كَانَ نَبِيُّ اللهُ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ قدْ تَكَلَّمَ مَعَ اللهِ، فَأُمَّةُ سيدِنا مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي كُلِّ يَوْمٍ يُخَاطِبُونَ اللهَ عِدَّةَ مَرَّاتٍ عَلَى مَا قَالَ نَبِيُّنا ـ عَلَيْهِ صَلاةُ وَسَلامُ اللهِ: فيما أَخْرَجَهُ الإمامُ أحمدٍ وغيرُهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، قَالَ: اعْتَكَفَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، فَاتُّخِذَ لَهُ فِيهِ بَيْتٌ مِنْ سَعَفٍ، قَالَ: فَأَخْرَجَ رَأْسَهُ ذَاتَ يَوْمٍ، فَقَالَ: ((إِنَّ الْمُصَلِّيَ يُنَاجِي رَبَّهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ بِمَا يُنَاجِي رَبَّهُ، وَلَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقِرَاءَةِ)). وفي روايةٍ زادَ: في (الصلاةِ)، مُسْنَدُ أَحْمَد: (2/36، برقم: 4928) وفي: (2/67، برقم: 5349) وفي: (2/129، برقم: 6127). وصحيحُ ابْنِ خُزَيْمَةَ: (برقم: 2237). وَأَخْرَجَهُ عَنْ البياضي: سَلَمَةَ (أَوْ سَلْمَانَ) بْنِ صَخْرٍ الخَزْرَجِيِّ الأَنْصَارِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، الأَئِمَّةُ: مَالِكٌ في المُوَطَّأِ: (72)، وأَحْمَدُ في المُسْنَدِ: (4/344، برقم: 19231)، والبُخَارِيُّ: في "خَلْقِ أَفْعَالِ العِبَادِ": (71) مِنْ صحيحِهِ، والنَّسَائِيُّ في "السُّنَنِ الكُبْرَى": (3350 و 3346) فقال: (القُرْآن) بَدَلًا مِنَ (القراءةِ). ثمَّ إنَّ اللهَ تَعَالى يُكَلِّمُ أُمَّةَ سيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، آحادًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالتَّسْلِيمِ وَالتَّكْرِيمِ وَالتَّكْلِيمِ كما فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سورةِ يَس: {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} الآيةَ: 58.
قوْلُهُ تَعَالى: {قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى} قَالَ: فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ على لفتْحِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى اللهِ ـ جَلَّ وعَزَّ، والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ. و "أَلْقِهَا" فِعْلُ أَمِرٍ مبنيٍّ على حذْفِ حرفِ العلَّةِ مِنْ آخرهِ وهو الياءُ، وفاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أنتَ) يعودُ عَلى سيِّدِنا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ، و "ها" ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ النَّصْبِ على المفعوليَّةِ، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لـ "قَالَ". و "يَا مُوسَى" الياءُ: أَداةٌ لِنِداءِ البَعِيدِ، وَ "مُوسَى" مُنَادَى مُفْرَدٌ علمٌ مَبْنِيٌّ على الضَمِّ المقدَّرِ على آخرِهِ لِتَعَذُرِ ظهورِهِ على الأَلِفِ، في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلى النِّداءِ. وُجْمَلَةُ النِّداءِ: في مَحَلِّ النَّصْبِ بِـ "قَالَ"، ويجوزُ أنْ تُعربَ معترضةً فلا يكونُ لها محلٌّ مِنَ الإعرابِ.